محمد البدري
يتعثر المصريون في كتابة دستورهم الجديد بعد ثورة 25 يناير. وتشتعل المعارك بين اعضاء لجنة كتابته لاسباب لا عقل أو خلق فيها. بعضهم اشطط به الخبل العقلي الي حد اقتراح فقرة تعاقب من يتعرض للذات الالهية. ويقف وراء هذه الفكرة اوركسترا كامل بكل آلات اللحي والجلباب لمصادرة حقوق الاطفال والمقصود هنا الفتيات الصغيرات علي وجه الخصوص حتي يمكن التربح من غضاضة اللحم وبراءة الوجه والعذرية المضمونة للبيع الي زبائن مسلمين، خاصة عرب الخليج الاثرياء باموال النفط، والوكلاء المعتمدون للتربح من الذات الالهية المطلوب حمايتها، بفضل الادارة الامريكية والاسرائيلية لمنابع النفط في بلادهم. ويجري دعم سوق النخاسة المقترح وتجميلا له في الدستور باشتراطهم ان تكون “الشريعة الاسلامية” أو “أحكام الشريعة” هي المصدر الوحيد، أو الرئيسي للتشريع. ولغلق الباب امام اي تأويل او تلاعب في تطبيق الاحكام أو صحة الشريعة ودعما لانفرادهم واختلائهم بالطفل وحقوقه والمرأة وما يخصها، يخرصون بكل تقوي وورع باضافة الكلمات “بما لا يخالف شرع الله” كلما اقتضي الحال.
يقول المصريون في خطابهم الشعبي والانساني أن “الاطفال أحباب الله”. ولا نعرف لماذا يحاول اصحاب اللحي والجلابيب حماية الله من اي تجديف في حقه او نقد لكلامه أو كفر باياته بينما يسعون هم بكل جدية وهمة الي تشريع باسم حبيب الاطفال ليتاجروا بالطفل ويجعلوه موضعوا جنسيا وسلعة في سوق النخاسة للطاعنين في السن بلحاهم وجلاليببهم ومسبحتهم وترديدهم الدائم للقرآن استشهادا به كلما ضاقت عقولهم بالفكر والاخلاق.
جري وضع مصر في التصنيف العالمي للحقوق من أكثر بلاد العالم انتهاكاً لحقوق الاطفال والاناث منهم علي وجه الخصوص. فاضافة لما يتعرض له الطفل الذكر من بيع مبكر في سوق العمل وحرمان من التعليم وفرصه في حياة كريمة فيما بعد، فالاناث يتعرضن لعمليت تشويه لاعضائهن التناسلية ضمانا لاحتسابها مصنفة انسانيا من اصحاب العاهات السلوكية طوال عمرها. للفقر الاجتماعي والاقتصادي دور هام في ارتفاع نسبة الاطفال ممن يعيشوا حياة بائسة تحت خط الفقر والجوع ويصبحوا محرومين من التعليم والانخراط بالمدارس وبالتالي عرضة للبيع في سوق العمل العضلي الضيق السعة مما يجعلهم عرضة للبيع في اسواق اكثر انحطاطا وتحوطها الجريمة كالمخدرات والسرقة والدعارة. النية مبيته إذن لاستكمال مشوار الفقر وما يستتبعه من جريمة.
في ظل الحركة العربية كقومية مستعارة، ولانها كانت يسارية في ادعاءاتها، جري تفريغ الوطن من مكوناته الطبقية مما ادي لانقطاع التراكم التاريخي للجميع وحل محله تفسير ابله وساذج اطلق عليه “ازاله الفوارق بين الطبقات” الذي يسهل الان تفسيره وكانه تطبيق للماركسية الميكانيكية تجريفا للمجتمع بكليته من اي تشكيل طبقي بتعقيداته ومصالحة ليكون سهلا علي الحاكم ضحل الخبرة وفقير المعرفة ان يحكمه. كان ثمن انقطاع التجربة الليبرالية في مصر ذو كلفة غالية والافدح منه ظهور تشكيلات إجتماعية دينية اكثر شبها بالاورام وادني في تطورها العقلي والفكري ومصنفة في المملكة السياسية بدرجة ادني من درجة ضباط يوليو أو الاخوان المسلمين. ويجري الانقضاض بهم حاليا علي ما بقي من حقوق للمصريين كعملية استكمال وتفريغ للمجتمع من مقدراته التي ستصل في اقصاها لان يتحول الي سوق للنخاسة طالما هناك أخوة عرب قادرين علي دفع الثمن.
الضرير ومن اصيب بفقدان البصر جراء حادثة أو مرض او بالولادة يشيح بوجهه دائما اثناء احاديثه الي اعلي موجها بصره للسماء وكانه ينشد شيئا لم يجده جراء فقدان البصربتثاقل رأسة الي الاسفل. انه سلوك شرطي غريزي وطبيعي لا غبار فيه في ضوء فقدان نعمة البصر. لكن اغرب ما في امر كثيرين من اعضاء لجنة كتابة الدستور انهم ايضا يشخصون، ببصرهم رغم تمتعهم بنعمة البصر، الي السماء يتلهون بها ويسعون للدفاع عما فيها مستلهمين منها تشريعات تخالف انسانيتهم. ويسلكون في ذات الوقت في حوارهم الافقي مع من يشاركهوهم كتابة الدستور صفات الاعمي الحقيقي الذي لا يري شيئا علي الاطلاق من واقع المجتمع المصري. فعلي المستوي الافقي يرون التفاوت الاجتماعي وعدم وجود تعليم وفقر وفساد ولا يدركوا أن بسببه قامت الثورة لكن بسبب فقدانهم البصيرة وليس البصر كان جل اهتمامهم بما لا يحل شيئا من المشاكل التي بسببها اصبحوا في موقع التشريع. ولم يدركوا أن من اوصلهم لهذه المناصب في البرلمان أو لجنة الدستور هم الفاقدين للحقوق الاجتماعية والسياسة نتيجة الفقر وعدم التعليم والاستبعاد من الانتخاب واستحقاقاته. العمي بكل انواعه جعلهم لا يرون أهداف من انتخبهم في محلسي الشعب أو من اختارهم لوضع دستور فقرروا أن تغيير الحال من المحال.
الانتخابات في زمن الثورات، لو وضعناها في سياق فلسفة التغيير وفي معناها الفلسفي، وليس كما تروج صناديق الانتخاب الديموقراطي، تعني ان المصطفي بالاختيار هو الذي جاء ليغير اوضاع من انتخبوه والا فلماذا اختاروه إذا كان وضعهم مرضيا لهم في حالهم بينما هم ثائرون عليه. فشرط الانتقال الي مجتمع مختلف هو نفي ما هو قائم عبر اللجان والبرلمان وما سياتي من دساتير. ومن هنا يمكن للاعور او قصير النظر اكتشاف أن المطروح بشان المرأة والطفل والشريعة وحماية حقوق الله في السماء دليل عمي اعضاء اللجنة عما حولهم في الارض وبكل تأكيد هو عمي آخر عمن في السماء لان احبابه الذين علي الارض بائسين ومنتهكون ولا حقوق لهم وجري بيعهم، وسيجري بيعهم، في اسواق اقل درجة، دون حماية لهم منه وفي ظل حماية له من برعاية صفوة المنتخبين، كما لو أن الثورة قامت لينتقل المصريون بها من وضعية مواطنين فاقدين للحقوق الي سلع في سوق نخاسة وتجارة بالبشر.
عرفت مصر الدساتير منذ منتصف القرن التاسع عشر بفضل الحضور الثقافي الاوروبي ضمن الطبقات الحاكمة. ولم تكن الفتاوي أوالتشريعات وكل ما تحمله الشريعة والفقه بغائب عن الازهر أو عن مشايخ مصر وقتها. وظل الامر مستمرا حتي كتابة دستور 23 . ففى ديسمبر من العام 1921، اشترط عبد الخالق ثروت (باشا) إعادة البرلمان كشرط لقبول الوزارة، مما وفر بيئة برلمانية وقانونية وتشريعية تكفلت بوضع الدستور فساعد هذا علي أن تصبح مصر مملكة دستورية بعد تشكل لجنة كتابة الدستور كلها من الاعيان وكبار الملاك برتبة الباشاوية ومن مشايخ الازهر، فوصفها حزب الوفد مع مقاطعته لها بلجنة الاشقياء وشاركه في المقاطعة الحزب الوطني. كان اول سبب للمقاطعة الاتهام بمصادرة الشعب من كتابه دستوره. صدر دستور 1923 بعد مشكلات بين الملك وبين اللجنة وتدخلت قوي من الصفوة المالكة لزيادة حقوق الملك في الدستور علي حساب باقي القوي بما فيها المستبعدين من لجنة كتابته. ورغم ذلك كان دستور 23 من اعظم الدساتير التي عرفتها مصر سابقا ولا حقا.
لم نشهد في دستور 23 هراءا كالذي يعكر سماء القاهرة حاليا، فمصر كانت لاتزال تحت وصاية الخلافة الاسلامية وتحت الاستعمار البريطاني في آن واحد. كلاهما شر مقارنة بالطبقة صاحبة الاطيان والراسمالية وتحكم المصريين. فالخلافة كانت تعمل ضد دستور مستقل لمصر وكذلك البريطانيين الذي تدخلوا هادفين لحذف ما يحافظ علي وحدة وادى النيل بين مصر والسودان ولاضافة حقوق للملك علي حساب البرلمان والشعب.
مر ما يقرب من القرن الا عشرة أعوام كلها عواصف اجتماعية وسياسية لكن ما يميز النصف الاخير منها الغياب التام للطبقة الاجتماعية بمعناها السياسي والحقوق والتمثيلي في نظام الحكم، مع تطهير لمفردات الثقافة الاوروبية من الواقع الاجتماعي المصري. فرغم ان ثوار 25 يناير يحوزون قدرا كبيرا من الثقافة السياسية الاوروبية والعالمية، ويمثل اليسار بكل الوان اطيافه نسبة كبيره منهم، لكنهم عجزوا عن تشكيل قوة ضغط أو كتلة سياسية موحده، كالطبقة التي صنعت دستور 23 . فانتهي الامر الي ما يجري حاليا بلجنة رديئة التشكيل لوضع الدستور يعنيها في المقام الاول ما ليس علي الارض بقدر ما هي مهتمة بما في عالم الغيب وعندما تحركهم الغريزة الاساسية فلا يروا من الواقع سوي الاطفال اضعف ما في المجتمع ليسلبوه ما لم يقدر الاستعمار البريطاني سلبه ولا الخلافة الاسلامية من تقنينه.
ماساة الوضع الحالي تكمن في غياب موحد لمن طفوا علي السطح وتحدثوا عن الثورة لاكثر من عام ونصف. وحضور طاغي للمتحكمين في ثروة في المجتمع المصري البشرية والمادية ولا يمثلون طبقة بالمعني العلمي السياسي والاجتماعي، وبالتالي لا يملكون منظومة قيمية اخلاقية تتناسب مع امتلاكهم للثوات المادية لو قارنا ثرواتهم بثروات عبد الخالق ثروت باشا ومجموعة دستور 23 . ولو جري حساب فارق سعر العملة بين العصرين لاكتشفنا غياب اي نسبة او تناسب بين الملكية والقيم الاجتماعية والسياسة عند مقارنتهما ببعضهما البعض، وكذلك الوعي السياسي لكلاهما. في الماضي غاب حزب الوفد وغابت القوي الشعبية عن لجنة وضع الدستور وخرج من اللجنة دستور عظيم. الان تشكلت لجنة وضع الدستور من كل المستفيدين من حركة الضباط الاحرار وابنائهم، ابناء الاششراكية العربية بعد زوال الفروق بين الطبقات، منعا للاستغلال، ومن اعوانهم الذين اطاحوا بالطبقات التي وصفت باقذع الصفات وخاصة من اليساريين والقوميين والاسلاميين. كان عبد الناصر يجأر في خطبه بالاستغلال ويقرنه بالاستعمار مع سب للطبقات العليا وباشوات العهد البائد كعملاء واقتلعهم هو ورجاله برعاية الانجليز والامريكيين، وذهب الي العروبة لتكون ثقافة للمصريين. فخلق شعبا لم يجد الا الثورة ليقتلع نظامه لكنه فاقد لطبقة تحميه كما حمي باشاوات مصر اطفالها ونسائها والاحزاب التي قاطعت لجنة دستور (الاشقياء) وجعلوها مملكة دستورية مستقلة عن استعمار الخلافة الاسلامية واستعمار الانجليز القائمين بالفعل علي الارض المصريين ويشاركونهم ثرواتهم وحياتهم.
لا نعرف علي وجه التحديد ما الذي يمكن اطلاقه علي ما توصف به توجهات اللجنة الحالية لوضع دستور ما بعد الثورة. فالثورة قام بها ابناء النظام المطلوب اقتلاعه كنقيض له بعد مرور حوالي 200 عام من الدستور الاول مع التحفظ علي الربع الاخير منها. فمن إذن هؤلاء الذين يضعون دستورا يعود بنا الي زمن ثقافة النخاسة عند العرب المسلمين؟
في ظل الحركة العربية كقومية مستعارة، ولانها ارتدت جلدا يساريا بالوان ماركسية باهتة في ادعاءاتها، جري تفريغ الوطن من مكوناته الطبقية والثقافية ولم يعد الاستغلال مجديا لصالح الوعي الاجتماعي مما ادي لانقطاع التراكم التاريخي للجميع وحل محله تفسير ابله وساذج اطلق عليه “ازاله الفوارق بين الطبقات” الذي يسهل الان تفسيره بانه تطبيق للماركسية الميكانيكية تجريفا للمجتمع بكليته من اي تشكيل طبقي بتعقيداته ومصالحة ليكون سهلا علي الحاكم ضحل الخبرة وفقير المعرفة من امثال ثالوث يوليو التعس ان يحكمه وللنخاسة من السيطرة علي اسواقه. كان ثمن انقطاع التجربة الليبرالية في مصر ذو تكلفة غالية والافدح منه ظهور اورام دينية ادني في تطورها البيولوجي ومصنفة في المملكة السياسية بدرجة ادني من درجة ضباط يوليو. فالانقضاض علي المجتمع الان لا يتم باسطول كاسطول نابليون أو كحملة الانجليز العسكرية عام 1882 إنما بقوي من داخله جري بناؤها وتنميتها في ظل ثقافة العروبة والاسلام، بعد طرد الاستعمار وتحرر الاوطان والقضاء علي الطبقات وبعد تفريغ المجتمع من أرصدته الاخلاقية والانسانية المتبقية لديه. فهناك سعي حميم علي الشريعة وولع بالاطفال والنساء، فما هي العلاقة بين الاثنين والدفاع عن الذات الالهية حماية لها، في ذات الوقت ممن يعرضونها للقيل والقال. فهل اجابت عروبية السياسة بانقلاباتها العسكرية وميكانيكا اليسارية الماركسية علي ما لم يساله اليسار ولم يساله شعب مصر لنفسه عن مأزقه السياسي والاخلاقي الحالي ومأزق وطن فارغ من التشكلات السياسية ويمتلأ بتجار ونخاسة ومثقفين ويرفع فيه الاذان خمس مرات يوميا عبادة للذات الالهية المصانة واحتاج الي ثورة علي كل هذا ليغير من وضعيته المتدنية / المتدينة.