فى ليلة عادية جدا حيث كانت تجلس وحيدة فى غرفة المعيشة كالمعتاد كل مساء ببيتها ، أشارت له من بعيد فبادلها الاشارة ، يأتي بحركات وإيماءات تشبه ما تقوم به تماما ، رفعت يدها فقلدها ، أمالت رأسها يمينا ويسارا ففعل بالمثل ، خرجت من الغرفة متجهة الى المطبخ ثم أدارت رأسها فى حركة طفولية مباغتة لتلقي نظرة عليه وهي فى طريقها للخروج ظنا منها أنه سوف يطاردها لكن على العكس ابتعد بل واختفى.
أعدت كوبا من الشاي وضعت بعضا من أوراق النعناع الجاف الذى تعشق مذاقه فى كفها ورفعته نحو أنفها .. إستنشقت باستمتاع ثم وضعته فى الكوب وصبت المياه ، تناولت رشفة ثم عادت حاملة الكوب ، خفضت ضوء الأباجورة حين دخلت الغرفة، مسحت أرجاء المكان سريعا بعيونها فلم تلمحه ، جلست الى مكتبها ..
– ” الأيام لم تعد جميلة ” ..
دونت تلك الكلمات القليلة بدفتر يومياتها الذى لا يفارقها لعل السؤال يطرح نفسه :
– ” ولماذا لم تعد جميلة ؟ “
باتت تعرف الجواب.. أيامها باردة متشابهة رتيبة وإيقاعها ممل وبطئ والأهم إنه إنعدم من أحداث يومها ما يثيرالسؤال ، الهوة إزدادت إتساعا بينها وبين كل ما يحيط بها، وأصبحت فى حالة رفض تام لواقعها بأغلب تفاصيله ، عملها، جيرانها، أقاربها حتى التليفزيون قاطعته كما لو كانت لا تريد أن تعرف معلومة أو تسمع خبرا. كلام الناس ضوضاء.. حركتهم مثيرة لأعصابها بشدة، وجودهم يؤرقها، إلى جانب نفاذ صبرها فى الآونة الأخيرة والذى أصبح ظاهرة لأغلب سلوكياتها، تبذل أقصى جهد للهروب من كل هذا وتعلم جيدا أن كسر هذه الرتابة والبرودة يحتاج لمجهود ليست مستعدة نفسيا لبذله.
ظهر مجددا، أدارت رأسها حين لمحته، فالتفت ليفعل نفس الشئ ، يلازمها أينما ذهبت ويصر على الاتيان بنفس ما تقوم به من أفعال دون أن ينطق بكلمة.
يبدو أن الارتباك وصل بعقلها إلى أقصى مداه، يتملكها شعور غريب بالعجز عن التعبير عن نفسها سواء بالكلام أو حتى بتدوين ملاحظات يومية كما اعتادت أن تفعل منذ سنين، وكل ذلك دون سبب واضح على الأقل بالنسبة لها. كلماتها تتعثر أثناء الحديث .. لسانها يتلعثم وتنحبس أنفاسها وتتقطع وتفقد خيط الأفكار وتسلسلها ، يسقط حاجز بينها وبين محدثها يحول دون استيعابها لما يقول أو ما يدور برأسها وترغب فى توصيله، فتضطر للتوقف عن الكلام بشكل مفاجئ أو إنهاء الحديث متذرعة بأى شئ حتى تهرب من الشعور بالارتباك والحرج.
حالة العجز تلك بدأت بسيطة لكنها استفحلت فيما بعد، و زاد عليها مؤخرا شرود ذهنها المستمر ، أثناء اجتماعات العمل، أثناء وجود ضيوف ببيتها ، أو فى بعض الأحيان حين تدخل متجرا قاصدة شراء شيئا ما وبعد دخولها يضيع من ذهنها الغرض الذى دخلت المتجر من أجله فتستدير خارجة.
العزلة باتت أغلى أمنياتها وملأتها رغبة عميقة فى عدم التواصل مع الآخرين ، لاحظ معارفها وأصدقائها ظاهرة شرود ذهنها المتكررة تلك والنسيان المستمر، وأحيانا وأثناء جلوسها بينهم وبعد ان ينبهونها أنها حادت عن موضوع الحديث سواء بتعبيرات وجوههم المندهشة أو الساخرة أحيانا أو بالكلمات، تفشل كل محاولاتها أن تلتقط خيطا يدل على أنها كانت تتابعهم، وعادة ما ينكشف للجميع شرودها.. فتبدأ التعليقات الساخرة :
– اللى واخد عقلك !!
– يا بخت اللى شاغل بالك
– رحتي فيييين ؟
– انتى يا إما فهمتى غلط أو سرحتى.
مرات كانوا يلمحونها تتمتم بكلمات غير مفهومة وكأنها تحدث نفسها ، وفى بعض المرات كانت تبتسم وكأن محدثها أسّر لها بأمر مثير للضحك فكانت تضع كفها على فمها كمن تريد إخفاء ابتسامتها عن المحيطين، وهنا كانت تفيق على همساتهم :
– هي مالها ؟
– جرى لها ايه الأيام دى ؟
– هى سناء عيانة ؟
سناء ممثلة بارعة تتقن التمثيل خفيفة الظل وهذه الملكة ورثتها عن والدها الذى كان يستطيع تقليد اى شخصية حتى لو التقى بها مرة واحدة فى حياته وبطريقة ساخرة اشتهر بها فى العائلة وكان يـُضحـِك الجميع، وكانت تستطيع ان تفعل الشئ نفسه، وحين تنفرد بنفسها أمام المرآة تبدأ وبطريقة كوميدية فى تقليد الأصوات أو الحركات التى تميز بها البعض ممن قابلتهم على مدار اليوم وتطلق عليهم ألقابا يتبناها أفراد أسرتها او زميلاتها فى المدرسة أو العمل فيما بعد ، الاستاذ كريم أبو سيف مدرِّس الكيمياء وكانت تسميه الاستاذ ” كبريتيك أبو تفة” لتناثر اللعاب من فمه أثناء شرحه لدروس الكيمياء ، وتقف بعد حصة الكيمياء لتشرح الدرس بطريقته فتضحك زميلاتها ملئ قلوبهن، بواب العمارة وكانت تطلق عليه لقب ” عم خمثة وثبعين ثاغ ” ، فهو ألثغ وكان يجد صعوبة فى نطق حرف السين ، إلا أنه دائما ما يستخدم كلمات فيها حرف السين بكثافة وعرف عنه أنه دائما يطلب مبلغا فيه رقم خمسة وسبعين قرشا نظير أشياء أرسلته أم سناء لشراءها، ورغم عجزه عن نطق حرف السين إلا أنه كان يحلو له أن يستخدم كلمة صاغ بدلا من قرش فاستحق اللقب من وجهة نظرها، أيضا جارة أمها ” مدام بريستو ” التى أطلقت عليها هذا اللقب لأنها كانت أول من اشترى حلة الضغط فى العمارة بين جيرانها وكانت دائمة الحديث عن هذا الاختراع فأسمتها سناء بهذا الاسم واشتهرت به فى العمارة بعد ذلك ، وفى النهاية عرفت باللقب الذى أطلقته سناء عليها وأصبحت تستخدمه هى نفسها أمام الجميع ، كانت سناء تفعل كل ذلك وتنفجر ضاحكة.
ذلك كله كان فى الصغر ، أما الآن فموهبة التمثيل بالنسبة لسناء أصبحت وسيلة لتخفي ما يعتمل بصدرها عن المحيطين بها ، أقنعة ترتديها فلا يشعر أحد ببركان الغضب الذى يفور بعقلها أو الاشمئزاز الذى يملأها، أو الخوف المدمر الذى يجتاحها أو القلق الذى يعتريها.أما في الأيام حالكة السواد حين تكون فى قمة الاحباط ، إما أن يغرس الصمت مخالبه القاسية فى حياتها فتبقى لأيام لا تنطق بكلمة، أو تتقمص سناء أحد الأدوار التمثيلية، وهو ما أصبح أمرا خارجا عن إرادتها تفعله بتلقائية لحرصها على أن تظل بئرا غامضا مستغلقا على الجميع وألا يتكشف للمحيطين بها النقطة التى توشك عندها على الانكسار.
أحيانا ترغب بشدة فى أن تتفجر غضبا أو تبصق فى وجه أحدهم او أن تصفعه لشدة غباءه أو حماقته، لكن كانت تمنع نفسها فى آخر لحظة قبل أن تفعل، سناء مختلفة فى أسلوب تفكيرها عمن تعيش بينهم ، لكن ربما خوفها من اللوم والمجازفة أو من رفض الناس لأفكارها أو سلوكياتها أو حتى مظهرها هو ما كان يمنعها أن تعلن عن مكنون نفسها ، ومؤكد أن الأسلوب الذى تربت به ونشأتها ببيت تقليدى للغاية كان عاملا مؤثرا فى جميع إختياراتها ومواقفها الضعيفة المتخاذلة والتى كرهتها بعمق ولم تستطع تجنبها أو تجاوزها. ضعيفة عندما تحب وضعيفة حين تكره ولم تكن تتخذ مواقفا نهائية حاسمة أبدا وإنما تختزن الآلام والأحزان ودائمة التسامح حتى حين لا يحتمل الموقف أى تسامح .
فى نهار أحد الأيام العادية جدا، كانت تجلس بمكتبها بالشركة تراجع بريدها وتدون التأشيرات على الخطابات لتوزيع العمل على أفراد الادارة.. مدت يدها دون أن ترفع رأسها عن الأوراق لتلتقط فنجان القهوة الباردة أمامها وتتمتم بالسباب ، وإذا بأحد العاملين بالشركة واقفا أمام مكتبها فجأة وكأنه إنبثق من الأرض، كان الضوء يدخل من الشباك خلفه فلم تتبين ملامحه جيدا ، قال بصوت منخفض :
– أقدر أتكلم ؟
فزعت حين تبينت أنه شاخص أمام المكتب كوتد منذ فترة، وأنه دخل ولم تشعر بخطواته، ارتجفت حين جال بخاطرها انه ربما قرأ ما كان فى ذهنها.. فقد كانت غارقة فى حلم يقظة أنها تخرج فتاحة الأوراق من درج مكتبها وتذهب لتطعن رئيسها فى عينه، فقد كان لا يتوقف عن النظر إلى جسدها نظرات فاحشة تجرحها وتشعرها بأنه يغتصبها فى كل مرة تدخل فيها مكتبه لأمر ما .
مسحت بسرعة ما ارتسم على وجهها من تعبيرات غضب وغيظ مطمئنة أنها تجلس وحدها بالمكتب واستبدلته بوجه بلا تعبيرات وخاصة بعد ان أدركت شخصيته من صوته وقالت فى عقلها:
– يووووه ” وش القملة ” .. أكيد جاى بمصيبة!!.
ثم رددت بصوت مسموع بعد أن رسمت ابتسامة باردة وقالت ببعض اللوم :
– ألا يجب ان تطرق الباب قبل أن تدخل بهذه الطريقة .
فقال :
– طرقته وحضرتك أجبت بحركة من رأسك فظننت ان هذا إذنا بالدخول.
نظرت له بدهشة حيث لم تتذكر انها فعلت اى شيئ مما قال.
لم يعد مفر من دعوته للجلوس حتى دون رغبة حقيقية منها، والتسليم بضياع نصف ساعة على الأقل في الثرثرة الفارغة ، ورغم ضيقها الذى نجحت فى إخفاءه سألته بلطف مفتعل لكن متقن :
– ماذا أستطيع ان أقدم لك.؟
جلس بلا تردد وعلى وجهه علامات الجدية فيما يبدو انه جاء ليشكو من أمر ما كالعادة، وبدأ يتحدث وهي تنظر له بإمعان وكأنها تحاول الانصات بعينيها محاولة ألا يلوح أى تعبير على ملامحها يظهر اشمئزازها منه.. فإذا بصوته يضعف ثم يتلاشى تدريجيا ويبتعد إلى ان أصبح غير مسموع، ولكنها تراه يتحدث، يحرك رأسه ويلوح بيديه فى الهواء ويظهر الانفعال على وجهه ويقطب جبينه تارة وتارة أخرى يبتسم إبتسامة مقتضبة ، كل هذا يحدث مغلفا بالضباب وكأنه من خلف حاجز زجاجى مغبش ، دون ان تستطيع سناء سماع صوته أو تمييز ما يقول فقط ترى شفتيه تتحركان بعصبية والرزاز يخرج من بينهما زخات يظهرها الضوء المتسلل من الشباك المفتوح ،تراه يقف ثم يجلس منفعلا لكن لا تسمع صوتا.. ظلت تنظر له والدهشة تظهر على وجهها، ولكن هذه المرة تأكدت أنها ليست شاردة الذهن ، وانها لا تسمع ما يقول فعلا ، حدثت نفسها:
– هناك شيئ ما غير طبيعى، أكيد أصِبت بالصمم فجأة!!
ضغطت ببطن كفها على أذنها لعلها تحتاج لتسليك أو أن هناك شيئا داخلها يحول بينها وبين سماعه، كررت هذا مرات ومرات لكن لم يتغير الحال. أنهى حديثه الذى لم تسمع منه أى كلمة ولم تفهم سبب زيارته، وهب واقفا ومد يده يصافحها فتنفست الصعداء ، ثم قرأت كلمة شكرا من حركة شفتيه فابتسمت مجامِلة ، وتتبعته بعينيها بعد ان أدار ظهره لها فى طريقه لباب الغرفة وهي فى حالة من الاندهاش لتلاشي الحاجز الزجاجي تدريجيا وعودة الأصوات الى أذنها مرة أخرى بعد الصمم المؤقت الذى أصابها فى وجوده .
لم تكن المرة الأولى التى يحدث فيها لسناء هذه الحالة فهناك شخصيات بعينها ينغلق عقلها تماما ويرفض فتح اى ثغرة لمرورهم لديها وهذا الزميل واحد من هؤلاء.
مر اليوم بمتاعبه واجتماعاته ونقاشاته ولم يتكرر ما حدث لها فى الصباح مع هذا الشخص مرة أخرى أثناء هذا اليوم ، من الجائز بسبب أنها اغلقت باب مكتبها فيتردد الموظفون قبل الدخول وخاصة هؤلاء الذين يأتون لشرب فنجان من القهوة والجلوس لتضييع الوقت والنميمة أو ربما أنها مجرد صدفة.. على كل الأحوال هذا كان مدعاة ارتياح بالنسبة لها، لأن التمثيل أمر يجهدها بشدة .
ركبت سيارتها وذهبت إلى بيتها وهي تقاوم رغبتها فى عدم العودة اليه حيث الصمت والخواء ، استيقظت فى المساء بعد نوم القيلولة ذهبت لتعد كوبا من الشاي، غرست وجهها فى ثنايا كتاب عن العادات القديمة وقرأت:
(( حينما يقوم أحدهم بقتل ثعبان، فيسرع بقطع رأسه وإلقاءها بعيدًا أو حرقها، لأن عينيّ الثعبان ينطبع عليهما صورة القاتل، فتأتي الثعابين الأخرى لرؤيتها والبحث للإنتقام له.))
غمرت رأسها بعمق أشد داخل الصفحات وكأنها تريد الاختباء ، وفى هيستيريا ملء الأحشاء اللا إرادية التى تنتابها فى الليل والجوع الوحشي ينهش جوفها ، لم تترك ما يمكن دسه فى معدتها إلا والتهمته ، فى محاولة لملئ خواء تركته معاركها الخاسرة لاستعادة وهم انتصارات لم تنلها قط .
غابت فى نوم كالاغماء ، رأته هو نفسه أشارت له فلم يقلدها كالعادة ، أمالت رأسها فى محاولة للفت نظره كي يكررا نفس اللعبة اليومية فلم يستجب وتجاهلها ، وكان يدخل الى رأسها ويخرج حاملا صناديق مختلفة الاحجام ويقوم برصها فوق بعضها بجوار الجدران ، لم تستطع ان توقف عملية السطو على محتويات دماغها ، شيئا بداخلها يقاوم لكنه كان أضعف من إصراره على إكمال مهمته وحمل أكبر قدر من الصناديق وإخراجه من رأسها.
فتحت عينيها مفزوعة وكانت تمسك برأسها كالذى يقاوم سقوطه .. أفاقت ذهبت لتشرب وفى طريقها للثلاجة لمحت ظل يتحرك فى غرفة المعيشة والصمت والضوء الخافت المتسلل من الأباجورة يزدادان تحالفا عليها ، توقفت حركة الظل فجأة وكانه سمع وقع قدميها تقتربان.
دخلت الغرفة وتسمرت أمام الجدران ، حيث كان جالسا القرفصاء فى أحد أركان الغرفة مخبئاً رأسه بين مرفقيه والجدران خلفه قد إمتلأت عن آخرها بالنقوش المتراصة فى صفوف رأسية .
اقتربت من النقوش وتحققت فوجدتها رسومات لأشخاص وحيوانات وأماكن ومباني، وحين اقتربت أكثر تبينت انها تعرف الأشخاص الظاهرين فى النقوش على الحائط جيدا وتستطيع ان تميزهم بالاسم كما انها تعرف تلك الأبنية، فتلك مدرستها وهذا بيت والديها ، اما هذا فالمقهي العتيق الذى كانت تلتقي فيه بأصدقائها، حتى غرفة أمها فى المستشفى كانت منقوشة على الجدار.. تفاصيل كثيرة وأحداث عُلـِقـَت على الجدران،.. همست :
– نعم فهذه أمي وهذه خالتي وتلك ناظرة مدرستى الابتدائية .. نعم نعم وهذا أبي ، وعميد الكلية وأستاذ الكيمياء كبريتيد أبو تفة فى المدرسة الثانوية ، وهذا هو طبيبي المعالج للمخ والأعصاب الذى كان يعالج أمي قبل أن تموت .. إنه نقش على الحائط أحداث حياتي كلها.
نظرت له وقالت بصوت معاتب :
– عملت كده ليه ؟ انت فاكر ان ده حيبقى علاج للنسيان ؟ ما فيش فايدة .. اللى عاوزة أنساه لم يخرج من مخزن الذكريات.. اللى لازم أنساه لسة جوايا.
طال الصمت فى الغرفة فلم يرد عليها ، عادت وتأملت الجدران ثانية ثم قالت :
– من بكرة لازم باقي الصناديق تطلع، وأنا مش مسئولة بعد اللى انت عملته ده عن اللى حيحصل.
رد عليها لأول مرة وقال محذرا :
– لو باقي الصناديق طلعت من رأسك ستفقدين موهبتك التمثيلية التى تنقذك من مواقف كثيرة ، وستصبحين كما انت بطبيعتك التى تعلمين ان الناس سوف ترفضها.
لم تجبه وظلت صامتة وبدت عليها الحيرة كما لو كانت تختار بين الحالين.
بعد ذلك بعدة أيام، مرت سناء بسيارتها بحي العباسية حيث مدرستها الابتدائية ..و بجوار عمارة سكنية فى نفس الشارع ، همست :
– هنا كانت تعيش أستاذة عائشة مدرسة الحساب ، ترى هل لازالت على قيد الحياة !! إمرأة شريرة
وألقت نظرة على ساقها من الخلف وعلى الجرح الذى لم تنساه لأنه سبب تشوه فى ساقها لم يختفي حتى بعد مرور كل تلك السنين ، شباك شقتها مضاء .. سألت حارس العقار:
– يا ترى أبلة عيشة لسة ساكنة هنا.
رد الحارس بلا حماس :
– أيوة يا ست هانم.
دقت جرس الباب ، وسمعت بعد انتظار طويل وصوت تليفزيون آت من الداخل مما يدل على انها لازالت مستيقظة، وأخيرا إنفتح مزلاج ثم آخر ثم الباب ببطئ مصدرا صوتا مزعجا مزيحا خلفه أوراق او جرائد، هبت رائحة مكان سيئ التهوية وخشب قديم ولاح ضوء خافت كئيب ، أطلت إمرأة عجوز ملامحها حادة وعيونها صغيرة للغاية ويحتل سواد عينيها كل المساحة .. نظرت لسناء بعبوس وقالت :
– مين ؟؟
كانت سناء واقفة تضع كفها على أنفها وفمها وتحدثت بصوت ناعم أضفت عليه الكثير من الهدوء رغم الخوف الذى كاد يمزقها، وأمالت رأسها بتودد وقالت بعيون باسمة :
– أنا مندوبة شركة التأمين اللى فى العمارة المجاورة ، وحضرتك وقع عليكي الاختيار للفوز بجائزة الشركة الكبرى .
ردت العجوز بفرحة لا تخلو من حذر:
– وإيه المطلوب ؟
ردت سناء بجدية :
– حتملي معايا شوية أوراق وبيانات بسيطة ، ممكن أدخل لو سمحتى ؟
تأملتها العجوز بارتياب ولكن لم تستطع ان تقاوم الاغراء ، عدَّلت من وضع الشال الصوفي الممزق وأشارت لها بالدخول بحركة من رأسها فقد كانت مسندة إحدى يديها على عصا خشبية من التى يستخدمها كبار السن للمساعدة فى المشي.
تأملت سناء العصا وتذكرت العصا الغليظة التى كانت تمسك بها حين كانت تدخل الفصل لتدرس لهم دروس الحساب .
تتبعتها سناء وأغلقت الباب خلفها وعينها معلقة بالعصى طوال الممر من الباب الى البهو وكأنها تتتبعها لسنوات .. ردهة يتوسطها نجفة معظم لمباتها محترقة ولم يتبق فيها إلا لمبتين فقط هما الموقدتان .. كليم بني اللون بنقوش رمادية ورسومات هندسية عتيقة ..الرائحة إزدادت .. لمحت سناء غرفة نوم وسرير مغطى بملاءة غير مرتبة ، يظهر المطبخ أيضا بأرضية من البلاط الكالح القذر.
حين أوشكت سناء على الجلوس منعتها وطلبت منها ان تجلس على كرسي آخر لأن الكرسي الذى اختارته سناء للجلوس مكسور ولن يتحملها وقد تسقط.
جلست السيدة على الكنبة وسألت سناء عن الأوراق التى ستدون فيها البيانات ، نظرت سناء لهذا الوجه الذى لم تنساه ، ملامحه القاسية التى ازدادت قسوة مع الزمن وانتشار التجاعيد وخاصة فى الجبهة من طول العبوس.. وهمست لنفسها :
– لم تكوني طيبة أبدا وواضح انك لم تجدى من يرضى بالزواج منك لقسوة قلبك وتحجرك.. لابد من عقابك على ما فعلتيه بي .
نظرت لها سناء نظرة متأملة طويلة ، فبادرتها العجوز متساءلة :
– انتى بتبصي لى كده ليه ؟ هو انت تعرفيني ؟
فأجابتها سناء وهى لازالت مستخدمة نفس نبرات الصوت :
– فاكرة الجرح ده يا أبلة عيشة ؟
وهبت واقفة واستدارت ثم انحنت وقبضت بكفها على ساقها وضغطت مبرزة التشوه الذى سببه الجرح الغائر.
تاملتها العجوز ذاهلة وسألتها ثانية وهى تنظر لها بتمعن :
– انتى مين ؟
إختطفت سناء العصا من يدها فى حركة مباغتة ففقدت العجوز توازنها وانكفأت على وجهها فوق الأرض، فانهالت سناء على ساقها بالعصا ضربا بكل قوتها وهي تقول :
– سبعة فى تسعة بكام ؟ هه ؟
– سمَّعي جدول الضرب .
– إنطقي .
ظلت سناء تضرب العجوز بجنون والعجوز تصرخ بصوت أجش إلى أن أصيبت بالاغماء وجرح ساقها جرحا خطيرا وبدأت تنزف.. حين رأت سناء الدماء هرعت نحو باب الشقة ونزلت مهرولة لا تستطيع التوقف لإلتقاط انفاسها.. وصلت لسيارتها وانطلقت . دخلت بيتها مندفعة نحو غرفة المعيشة حيث تجده ، رفع رأسه وكانه فى إنتظارها ونظرة إرتياح تملأ وجهه ولأول مرة تتبين سناء ملامحه ..!!
قال لها بلهجة آمرة :
– ضعي الصندوق الذى أفرغتيه لتوك هنا بجوار الحائط .
ثم بابتسامة :
– لماذا اخترتي هذا الصندوق ؟
فردت سناء ببرود وبدون أى إنفعال :
– أول جرح فى حياتي .