رغم كل هذه الأزمنة من الضجيج الإنساني على هذا الكوكب, إلا أننا نعيش في حقيقة الأمر صمتاً موحشاً.. صمتاً يجعلني أتساءل هل ترى سيأتي يوماً ما يكون لكل ضجيجنا هذا أي صدى.. أي صدى يبشر بوجودنا أو حتى يوحي به؟!..
منذ وجدنا على هذا الكوكب، ونحن نصرخ بكل ما نستطيع وبكل ما نملك, نصرخ بخطاباتنا وكلامياتنا وأديباتنا ورموزنا واعتقاداتنا, ورغباتنا المشنوقة بدواخلنا المعقدة, نصرخ بكل حبالنا الصوتية والغريزية, بكل أفكارنا وعلومنا وصراعاتنا, لم نتوقف يوماً عن الصراخ في وجه الوجود, معتقدين اننا بذلك نعبر عن وجودنا, عن رغبتنا في إعلان انفسنا, عن استماتتنا في الحياة ورغبتنا في أثبات وجودنا عليها, منذ وجدنا ونحن لا نتوقف عن المحاولة بكل أنواع الصراخ والوسائل, حتى بتلك الطرق القبيحة والهمجية والمتناقضة, اننا حتى تعمدنا على أن نتناقض كما يتناقض الأطفال الراغبين بجلب الاهتمام إليهم والى وجودهم, طمعاً منا في تجاوز كل جدار صامت على هذه الحياة, لكننا في اللحظة التي نفعل ونصرخ بكل ذلك فنحن لا نعبر إلا عن مدى وحدتنا, عن مدى ذلك الصمت الذي يبتلعنا, ذلك الصمت الذي يتسع كل شيء..
انه حتى صلواتنا لهي أكبر دليل على شعورنا بالعزلة عن كل ما هو خارج هذا الكون، وداخل نفوسنا التواقة إلى أن تسمع، إلى أن ترى، أن يعيرها شيئاً ما اهتماماً ما يبشرها ويوحي لها بأنها لم تكن يوماً بذلك القدر من الوحدة والانعزال الموحش الذي ارغمها من أعماق سيكولوجيتها على اختلاق كل هذه المعتقدات الضاجة غالباً بكل فوضى.
منذ بلغنا الفضاء وتمردنا قليلاً على قانون الجاذبية, وتجاوزنا ذلك الجدار الأول الذي كان أحد جدران حياتنا العازل للصوت, منذ أن اقتربنا من نقطة تسمح لنا برؤية النجوم، واتساع الفضاء, وضآلة كوكبنا, ذلك الكوكب الذي اعلنا ورفعنا مآذننا وقرعنا أجراس صراخنا لكل مجهول, ذلك الكوكب الذي لم نتوقف فيه عن اختلاق كل ضجيج بدا أنه قد يصل حتى إلى مسامع الآلهة ذاتها. منذ أن بلغنا كل ذلك, تغيرت نظرتنا للحياة, وبدأ الكثير من البشر يدركون أن أصواتنا لا تسمع، ولم تكن يوماً مسموعة, أنه من هناك, من الفضاء, من حيث يُرى كوكبنا كنقطةٌ شاحبة الوجود, لا يسمع إلا الصمت, والصمت الموحش, الذي ينسف كل مزاعمنا الصوتية عبر كل تاريخنا البشري الذي اعتقدنا بجدواه, وبجدوى صراخنا فيه..
لذلك ربما علينا أن نتوقف عن ممارسة هذا الدور الصارخ بكل هذه الطرق الفوضوية والوحشية أيضاً، لنحاول البحث عن انفسنا وعن من يسمع أصواتنا ويكون صداً لها، هنا على هذا الكوكب الذي لا نعرف غيره في الوقت الحالي، علينا أن نرفع صوت السلام، صوت السكون بدواخلنا، وان نتوقف عن إعلان انفسنا بتلك القوة التي ننفي فيها وجود كل آخر دوننا، بل وننفي فيه وجودنا نحن أيضاً، علينا أن نستمع إلى أصواتنا التي تنبعث من هذه الأرض بكل ما عليها من آخرين، لا تلك الأصوات التي نحاول إرسالها إلى السماء، والى كل غيب، الى خارجنا، بكل طرقنا ومزاعمنا العدوانية أو الفوضوية، التي لم تجلب لنا سوى الصراع ومزيداً من الوحشة والوحدة.