صحيفة ” الوقت” البحرينية تحاور الدكتورة ميرا جميل:
العالم العربي والإسلامي لا زال خارج التاريخ البشري
* التسامح الديني يبدأ من مناهج التربية والتعليم * رافضي التقدم الحضاري يستهلكون الإنتاج الحضاري في دفاعهم عن تخلفهم * أبرز ممثلي التيارات الإصلاحية يواجهون بطش السلطة والمؤسسة الدينية المتحالفة معها * حتى المسيحيون العرب يدافعون عن الإسلام في الغرب رغم أنهم اضطروا للهرب من القمع الديني *
حاورها : نادر المتروك ( الوقت )
في التمهيد للحوار، وعند عرْض محاوره، كانت (الباحثة الفلسطينية في علم الاجتماع) الدّكتورة ميرا جميل في موقفٍ متردّد. تعترف بأنها ترددت كثيراً في الإجابة ، رغم أن أسئلة الحوار، كما تقول مهمة وخطيرة على صورتنا ومستقبلنا وعقلنا ، ومن الواضح أنّ هذا الموقف مرتهن بالمضايقات التي تعرّضت لها الدكتورة جميل بسبب أفكارها، حدّ التشكيك في حقيقة اسمها وصورتها ووجودها، فكانت تميلُ، أوّل الأمر، إلى عدم الردّ ابتعاداً عن إثارة غضب الكثيرين ، فالأسئلة صعبة، عن واقع صعب، ولن تكون الأجوبة مريحة أو أقل سهولة، إذا التزمت الصدق والحقيقة. هل أقول ما يطرب السمع، أم تريدون حقيقة ما أراه من واقع لا يبشّر بخير؟ . لا شك أنّ الأسئلة الحضاريّة مؤرقة، خصوصاً إذا تفرّعت عن السؤال المزمن : لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ بالنسبة لميرا جميل، فإنّ الغرب يتقدّم بسرعة الطائرة ونحن نتراجع إلى الخلف باستمرار، فلماذا ينتصر العقل في المجتمعات الغربية، وفي مجتمعاتنا ينتصر النقل والتأويل والإيمان بالخوارق؟! لماذا يغيب الإبداع من مجتمعاتنا ونركن مطمئنين للاتباع؟ تسأل جميل بدورها. بعيداً، قليلاً، عن الشكوك والطعون، قد تكون هناك فائدة في قراءة هذا الحوار.
– يعاني المسلمون اليوم من أزمة حضارية، ولازال سؤال لماذا تقدّم الغرب وتأخّر المسلمون السّؤال المصيري، ولكن العالق بلا إجابات إحيائيّة. من منظورك الأكاديمي، كيف تقاربين أزمة المسلمين الحضاريّة اليوم؟ هل لها علاقة بطبيعة الانتماء الدّيني لهذه المنطقة؟ أم هي ذات صلة بما يُسمّيه محمد أركون بالشروط الاجتماعيّة المتخلّفة؟
– عامةً لا أحبّ صيغة أزمة المسلمين الحضارية ، وأميلُ نحو صيغة أزمة العرب الحضارية ، ولكن سيطرة الفكر الدّيني المتعصّب، الذي يرفض الصّيغة القومية للانتماء، ويتمسّك بصيغة الانتماء الدّيني، لم يترك مناصاً، حتى للمعارضين لفكرة القومية الدّينية ؛ إلا تكرار هذه الصيغة الهلامية الشّاملة للكثير من المتناقضات والفروقات الثقافية، الفكرية، الاقتصادية، والاجتماعية، والتي لا تحدّد هوية وطنية داخل إطار جغرافي محدّد. وهذا من دلائل الفكر الضيّق والمنعزل، الذي لا يمكن أن يرقى لمستوى حضاري في تفكيره، أو أن ينفتح أمام التيارات المعرفية الحديثة، بل يظلّ يدور في عالم قديم لا يتجاوز الصّحراء العربية وربعها الخالي في معارفه وبُعد رؤيته وفهمه لواقعه الاجتماعي! وكلّ محاولة لدفعه نحو الخروج إلى مساحةٍ أكثر اتساعاً، تقابل برفض عنيفٍ وبالمزيد من التقوقع. وأذكرُ، ربما ليس بدقة كاملة، خطاباً لجمال عبدالناصر ألقاه في دمشق، بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، قال فيه: إنّ العربي المسيحي في سوريا أقرب إليّ آلاف المرات من المسلم في باكستان . اليوم نعيش حالاً معكوسة. ابنُ الوطن المختلف دينياً وجنسيا وثقافة، هو عدو لدود ومنبوذ، لا ينتمي لما يُسمّى الأمة الإسلامية !
– من الواضح أنكِ تمتعضين من مصطلح الأمّة الإسلامية ! ما مبرّرات ذلك؟
– كلمة أمة أصلها عبريّة (اوما يهوديت)، أي الأمة اليهودية، باعتبار أن كلّ يهوديّ، في أي مكان في العالم، تابع لمفهوم الأمة اليهودية. وعلمياً هذا غير صحيح بسبب الفروقات الاجتماعية، الثقافية، العادات، العقائد، ومستوى الرّقي واللغة، فبأي حقّ نرفض مفهوم الأمة اليهودية، ونصرّ على مفهوم أمة إسلامية ؟
الانتماء الدّيني انتماء هلامي
– ومن هذا المنظور أيضاً ترفضين الانتماءات الدّينيّة؟
– الانتماء على قاعدةٍ دينية محض هو انتماءٌ هلامي. هل يتوقع أحد أن يشهد مثل هذا الانتماء رقيّاً اجتماعياً، اقتصادياً، علمياً وغِيرة وطنية (بمفهوم الانتماء إلى مجتمع بشري ثقافي اقتصادي لغوي في إطار الدّولة المحدّدة) ونشْر العدالة الاجتماعية وبناء نظام ديمقراطي بمؤسساتٍ مستقلة، أم سينشغل بحروبٍ داخلية وخارجية، بالسّر أو بالعلن لا فرق، أولوياتها ليست التطوّر والرقي، بل كيف تُصلّي وماذا تلبس، وكيف نعزّز إيماننا بكراهيةِ المختلف وقمعه وذمّه. إنّ ما يتعلق بمكانتنا في سلّم الحضارة (أي الإنتاج الاجتماعي المادي والروحي) غير وارد في حساباتنا. ما لدينا يكفينا لأبد الآبدين! إن مصطلح الحضارة يشمل مختلف أنشطة الإنسان التي لا تعتبر انعكاساً فطريّاً أو غرائزياً، إنما نشاطاً واعياً خلاقاً، وتشمل اللغة، الدين، الأخلاق، القوانين، الاقتصاد، العلوم، الأدب، الفن، والصناعة وكل ما يُشكّل ضرورة للمجتمع البشري. ويؤسفني أن أقول إن ما يسود المجتمعات العربية، والإسلامية.. هو حال شديدة من الاغتراب عن منجزات الحضارة. هل لنا دول قومية؟ هل لنا انتماء قومي؟ هل لنا دولة حديثة؟ هل نحن شعب متماسك، مندمج في النشاط الإبداعي للتطوّر والرّقي واللحاق بركب الحضارة المنطلق إلى رحابٍ تتسع باستمرار؟
– هل يمكن إيراد بعض الشّواهد والدّلائل حول ذلك؟
– مثلاً، في كتب التعليم السّعودية (وكتب الأزهر لا تختلف في المضمون) جاء في كتبٍ للتعليم الثانوي: القومية العربيّة هي دعوة جاهلية الحادية، تهدف إلى محاربة الإسلام، والتخلّص من أحكامه وتعاليمه . وأيضاً ورد: الفكر القومي العربي يُسْقط الدين من اعتباره.. بل إنه يعتبر الدين عائقاً في سبيل القومية وأيضاً: فكرة القومية ردّة إلى الجاهلية . و الانتماء للأحزاب الجاهلية والقوميات العنصرية ردة إلى الجاهلية . مثل هذه النصوص التربوية ستخلق جيلاً جديداً من الانعزاليين المغتربين عن عالمهم، وغير المؤهّلين ليكونوا مواطنين قادرين على إيجاد رابط ليس مع مجتمعهم فقط، إنما مع عصرهم أيضا! يفهم علم الاجتماع الاغتراب على أنه شعور يسيطر على الفرد أو الجماعة، يجعلهم غير قادرين على تغيير الوضع الاجتماعي الذي يخضعون له، ويفتقدون للهدف الأبعد من العقائد الضيّقة التي تُحدّد آفاق حياتهم. وبالطبع هناك تعاليم لا تقلّ خطورة مثل: ينبغي على المسلم الذي يسافر إلى بلاد الكفرة للتعلّم أو يتاجر أو يتطبّب أن يقيم بينهم وهو يُضمر لهم العداوة ! منْ يُجبرك على السفر؟! ألا تملكون كلّ العلوم وكلّ الطبّ في القرآن؟! إذا لم يكن ذلك تحضيراً عقلياً للإرهاب، فهو إفراز واضح بالتخلّف والانغلاق وكراهية المختلف.
التخلّف والشّروط الاجتماعيّة للأزمات
– إذاً.. هل هي أزمة حضارية للمسلمين، أم أزمة حضارية للأنظمة الفاشلة الاستبدادية؟ وهل يمكن بمثل هذه العقلية البناء والتقدم وتحقيق إنجازات حضارية أسوة بدول العالم قاطبة، أم سنظل مجموعة بشرية تفتقد لتعريف الهوية الجماعية، أسوة بكلّ شعب صغير أو كبير.. وتقبع خارج التاريخ الإنساني؟ خارج الحضارة بكل منجزاتها العلمية، الاقتصادية، والإنتاجية؟
– لا يمكن أن نقول عن الحضارة الأوروبية إنها حضارة مسيحية. المسيحية في وقتها وقفت في معارضة عصر النهضة (الرينيسانس) ورفضت العلوم والقومية وأنشأت محاكم التفتيش، وحوكم مثلاً كوبرينك بسبب اكتشافه العبقري عن الكون، والتي أثبت فيها مركزية الشمس وليس مركزية الأرض حسب تعاليم التوراة (العهد القديم). وكذلك رُفضت نظريات غاليليو (وقضت عليه بالانعزال) لأنه أصرّ على اكتشافه حول دوران الأرض حول الشمس وصمّم المنظار الفلكي وميزان الحرارة وبرع في علوم الفيزياء. وكذلك نظرية داروين التي اعترف الفاتيكان فيها أخيراً. وقد أنجزت حضارة أوروبا على حساب إسقاط مكانة الكنيسة المسيحية، وسيطرتها الفكرية والسياسية، وعزْلها في مساحةٍ دينيةٍ روحية ضيّقة لا تأثير ملموساً لها على التطوّر الصّناعي والتقني والعلمي.. بل وقامت حركة تصحيحية داخل الكنيسة متمثلة بمارتن لوثر (اللوثرية) رأت أهمية الجمْع بين الكنيسة والاقتصاد الرأسمالي الناشئ. وعملياً، يمكن تسمية اللوثرية بمسيحية عصر الثورة الصناعية.
– ألا ترين أن هناك ما يؤشّر على أن العالم العربي والإسلامي في طريقه نحو هذا النمط الإصلاحي؟
– لا أرى أن العالم العربي والإسلامي يتقدّم نحو مسار مشابه. في مرحلة الثورات العربية التي بدأت بثورة الضباط الأحرار في مصر، بدأنا نلمس إمكانات للتحوّل، غير أن الواقع اليوم عاد بنا إلى الخلف مراحل كبيرة، تجاوز حتى فترة التنوير العربية التي بدأت في مطلع القرن العشرين برفاعة الطهطاوي، طه حسين، سلامة موسى، شبلي شميل، أحمد أمين، بطرس البستاني، علي عبدالرازق، فرح أنطون، وعبدالرحمن الكواكبي وآخرين. من مراجعة الجهود الفكرية التي بُذلت في الثقافة العربية المعاصرة من أجل غرس أفكار الحداثة في المجتمعات العربية (الإسلامية كما يصرّ البعض) نرى أن الجهود فشلت فشلا ذريعاً، خوفاً على التقاليد العتيقة والبالية، بل ووُجهت بمقاومة المجتمعات المتخلّفة للحداثة، لذا ليس بالصدفة أن يرى مفكرٌ كبير بمستوى محمد أركون علاقةً وثيقة بين التطور والشروط الاجتماعية المتخلّفة.
البقاء خارج التاريخ البشري
– السؤال هنا: هل يمكن خلق شروط اجتماعية أرقى في ظل سيطرة العقلية السلفية وثقافة كراهية المختلفين؟
– أنا لا أرى ذلك! المستهجن أن رافضي التقدّم الحضاري لا يتردّدون في استهلاك الإنتاج الحضاري في دفاعهم عن تخلّفهم ونشْره، وتبرير رفضهم للفكر الحضاري الذي أنتج الآليات التي يعارضون بها الحضارة، ويحرّضون بأسلوبٍ بالغ في التخلف على الانتماء الديني لمنتجي الحضارة. يريدون علومهم وطبّهم ومنجزاتهم، التي بات من المستحيل تصوّر الحياة من دونها، وذمّهم وعداءهم بالوقت نفسه. لا يمكن تجاهل التمسّك بأشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي المتوارث منذ قرون. فهل بالصدفة أن مثل هذه المجتمعات لم تجد طريقها للتنمية وتطوير العلوم والتقنيات، بل ظلّت على هامش الحضارة؟ واليوم أرى أن النفط وحقبته يُشكل كارثة للعرب والمسلمين وليس خيراً، إذ لم يُستغل إلا في استيراد الضرورات الاستهلاكية، من دون أن نرى بذل جهود لتطوير صناعات وطنية تحلّ مكان النفط مستقبلاً، وتطوير مرافق علمية وبحثية وإنتاجية. دول تأكل ما لا تنتج، وتلبس ما لا تصنع؛ هي دول مصيرها أن تبقى خارج التاريخ البشري. والسؤال ماذا ينتظر هذه الشعوب بعد حقبة النفط؟
– وكيف تحلّلين الموقف من الحداثة، في الوقت الذي يتمّ استقبال المنتج العلمي لها؟
– يرفضون الحضارة ويذمّونها لأنها حضارة صليبية استعمارية، ويرفضون الحداثة التي هي نتاج التطور الحضاري، متجاهلين أن الحداثة بحدّ ذاتها هي صيغة مميّزة للحضارة، تعارض جميع الثقافات السابقة والتقليدية. من هنا لا أرى إمكانية، مع التمسّك بالمفاهيم الدينية بنصّها وليس بملاءمتها للعصر، ورفض كلّ فكر علمي حداثي، إمكانية لإحداث أيّ تغيير في المدى القريب أو حتى الأبعد. لا أعرف.. هل هي أزمة حضارية فقط ؟ أم غياب مع سبق الترصّد والإصرار، ومن دون وعي، للنتائج المدمرة مستقبلاً على الواقع العربي (الإسلامي) في حركة التاريخ البشري؟! إذن هل هي صدفة أن أفضل العقول العربية، ومن أفضل الاختصاصات في العالم، تهجر أوطانها؟!
– في نهاية المطاف.. أليست هي أزمة حضارية إذن؟
– الواقع أكثر سوءا من مجرّد أزمة حضارية. نحن نواجه رفضاً للتنوير والنهضة، وتمسّكاً بالانعزال، والتمسّك بخطابٍ مبني على العداء للآخر، وتكفير المختلف حتى في الملة نفسها، وتسليط سيف الردة على رقاب المتهمين بإنكار المعلوم من الدين، والممارسات القمعية والإرهابية بالنار والدم. اليوم هناك تقدم عاصف في التقنيات الدقيقة (الهايتك).. أين نحن من التقدم الصناعي البسيط أولاً؟ أين نحن من التقدم العلمي والتعليمي؟ هل بمجتمع أكثر من نصفه أميون ستبني حضارة وعلوما..؟ هل في أحضان أمهات جاهلات سينشأ جيل المستقبل؟ هل ببطالة مدمرة تصل إلى 30 مليون عاطل عن العمل، وترتفع الأرقام بصورة مذهلة في العالم العربي (قد تصل إلى 40 مليونا قبل أن تنشر نص المقابلة!) سينهض العرب والمسلمون من تخلفهم وسباتهم الطويل؟
-بات الإصلاح الدّيني واقعة مميّزة في الحركة الإسلاميّة المعاصرة، ولكن بعض الباحثين لازال يتردّد في الاحتفاء بها، باعتبار أنها غير ناهضة، وتجري من داخل المقولات الدّينيّة نفسها. ما تقييمك للإصلاح الدّيني المعاصر؟
– لا يمكن تجاهل التيار الإصلاحي، وبالوقت نفسه لا يمكن التفاؤل بقدرته على مواجهة التيارات السلفية المسيطرة وقوتها المالية والفكرية في غسيل دماغ بسطاء الناس، بل وغسيل دماغ مثقفين وأكاديميين. والأهم تحالفها مع الأنظمة الاستبدادية. التيار الإصلاحي في رأيي هو رافد آخر يلتقي في الكثير من المحطات المهمة مع التيار الإصلاحي العلماني العربي، ويُشكّل معه تياراً متنوّراً مهماً. هذا على الأقل الوجه المضيء. السؤال هل بإمكان التيارات الإصلاحية، التي تواجه قمع الأنظمة أيضاً، أن تقف أمام التحديات الهائلة التي تواجهها؟ هناك اندماج مستهجن بين التيارات السلفية والأنظمة التي تتميّز كلّها بغياب مؤسسات الدولة المستقلة وبأنظمة استبدادية، خصوصا اندماج التيار الوهابي الأكثر ماضوية وانعزالاً مع النظم الحاكمة، والذي يكاد يكون التيار السائد عربيّاً اليوم، وليس في العربيّة السعودية فقط. والسبب بسيط للغاية، هذا التيار يحضّ على طاعة أولي الأمر. أي أننا أمام ظاهرة تحالف بين الاستبداد السّياسي والمؤسسة الدينية الأكثر تطرّفا، بينما التيارات الإسلامية الرّاديكالية الأخرى تدعو لإسقاط الأنظمة، وتطرح فكرها بديلاً عنها.
التّيارات الإصلاحيّة بين نقيضين
-هل تجدين نماذج معيّنة جديرة بالانتساب إلى مدرسة الإصلاح والتجديد الدّيني اليوم؟
– من المؤسف أن أبرز ممثلي التيارات الإصلاحية، يواجهون بطش السلطة أيضاً، وليس تهديدات التصفية الأصولية فقط، وكنا شهوداً لتصفيات وتهديدات بالتصفية ومحاولات تصفية. ولا أكشف سرّاً بالقول إن أبرز ممثلي الفكر التنويري والإصلاحي يعيشون خارج مجتمعاتهم، وبالكاد يصل صوتهم لأبناء مجتمعهم. الظاهرة البارزة هنا أن التيارات القومية الثورية، والتيارات الماركسية، فقدت وتفقد مكانتها باستمرار لصالح السلفية الدينية، ولم تعد تشكّل تحدّياً سياسيا، أو بديلاً للواقع القائم، إنما حركات تتهمّش باستمرار. بعض التيارات الإصلاحية تدور في نفس فلك الفكر السلفي في محاولةٍ لتأويله من جديد. ولا أظن أن هذا التيار قادر على مواجهة مئات محطات التلفزة، ومواقع الانترنت، ومليارات الدورات، والجوامع التي تشكل أفضل من أيّ تنظيم سياسي أو وسيلة إعلامية، للتأثير على الجماهير. إن شيخاً بلا ثقافة يستطيع أن يُحرّك مئات الآلاف، بينما آلاف العلماء والمثقفين الأكاديميين المسلمين لا يستطيعون إقناع متديّن واحد بتفسير مختلف لنصّ ديني.
العلمانيّة هي العلاج ولا بديل عنه
-يطرح جورج طرابيشي، ومفكرون غيره، العلمانية باعتبارها علاجاً لأزمة الطائفية في العالم العربي والإسلامي. وهو منحى بدأ يتبلور بقوّة في بعض أوساط النخبة الخليجية، مثل الموقف الذي تطرحه الأكاديمية الكويتية ابتهال الخطيب. بيد أنّ التبشير بالعلمنة في عالمنا الإسلامي يغفل السياق الإسلامي وطبيعة الخيارات الاجتماعيّة التي تميّزه، وهو ما جعل من العلمنة شعاراً متحدّياً، وباعثاً لمزيد من الممانعة ضده. ما رأيك؟
– جورج طرابيشي من أبزر المفكرين التنويريين المعاصرين العرب، وطرحه بأن العلمانية هي العلاج لأزمة الطائفية في العالم العربي والإسلامي هو طرح صحيح، ولا بديل عنه، لليس فقط في مجال علاج الأزمة الطائفية، إنما أيضاً في مجال دفع العالم العربي نحو الاندماج بالرقي الحضاري والعلمي. الخليج العربي قدّم للفكر التنويري والإصلاحي الحديث مجموعةً مهمة من المثقفين التنويرين والإصلاحيين، وأصحاب الرؤية النقدية الجريئة والمهمة والمؤثرة في الفكر العربي المعاصر. ولكني ما زلت عند قناعتي أن تأثير هذه التيارات هامشي في المجتمعات العربية.
؟- في رأيك، هل يمكن تعويم العلمنة في العالم الإسلامي، ومن خلال مواءمة غير نافرة مع الإسلام؟
– من المستحيل تعويم العولمة في ظل التشدّد الديني، والغربة، والانعزال. كما أنه من المستحيل البقاء خارج العولمة. مثلاً نجد أن آليات العولمة أضحت ضمن أسلحة التشدّد الديني، وفي خدمة العداء للعولمة، والعداء الدّيني للمختلف والآخر. يشتمون الغرب بما وفّره لهم من وسائل تقنية متطوّرة. يتمتعون بديمقراطيته، ويعملون لأسلمته على نسق دولهم التي هربوا منها بسبب القمع الديني والاجتماعي والسياسي. هل هو فلم هزلي؟!
واقع المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة
– من خلال اختصاصك في العلوم الاجتماعيّة، ما هي ملامح المجتمع الإسلامي المعاصر؟ ما الذي يميّز المسلمين، اجتماعياً، عن الجماعات الدّينية الأخرى؟
– في البداية لا بد من الإشارة إلى أن ما يجري في العالم العربي هو إفلاس لمشروع الدولة القومية التي سقطت مع انتهاء العهد الناصري وصعود السّادات. وبنفس الوقت لا يمكن أن نتجاهل أن مشروع الدولة القومية الذي طُرح أمام الجماهير العربية، تحت شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتطور، تحوّلت إلى دولة تسلطية قمعية أحدثت تراجعا حتى عن الفكر النهضوي العربي، فكان من نتيجة ذلك رفضها بدل نقدها، وطرْح شعار الدولة الدينية مكانها. وقد تحالف النظام القومي في مصر في عهد السادات، مع الإخوان المسلمين ضد التيارات القومية الناصرية والليبرالية واليسارية، وسرعان ما تحوّل التحالف إلى صراع قاد إلى مقتل السادات نفسه.
– ألا ترين أنّك تبالغين في نقد مجتمعاتنا العربية والإسلاميّة.. بحيث يصبح كلامك مليئاً بالتجريح؟
– يؤسفني أن أقول إني باعتباري عربية أولاً ومسلمة ثانياً، أشعر بألم كبير عندما أضطر إلى الحديث عن المجتمعات العربية والإسلامية بسلبية ونقد حاد. ما يرتسم من ملامح المجتمع الإسلامي هي صورة مؤلمة جداً، بهزالها وبدائيتها. في حديث مع مجموعة من الزملاء الأكاديميين الأجانب، عبّروا عن عدم فهمهم بين التناقض الكبير للواقع المتخلف للمجتمعات الإسلامية، والغنى الفاحش للدول الإسلامية الغنية بالنفط، وخصوصا الدّول الخليجيّة. وأشاروا إلى شخصيات إسلامية أكاديمية في الغرب لها مكانتها العلمية والمهنية الراقية جداً، وكيف يجوز أن يفرز مجتمع متخلف مثل هذه العقول، ويظل محافظا على تخلفه. وطرحوا مثلا أسماء أطباء من الصف الأول، العاملين في الغرب (أمريكا وكندا وأوروبا) بينما أوطانهم تفتقد لخبراتهم وقدراتهم المهنية. والمستهجن أن قادة الدول العربية يتلقون علاجهم في مستشفيات الغرب، التي يرأس بعض أقسامها المهمة أطباء عرب ومسلمون. وكان السؤال: ما الذي يمنع من إنشاء مؤسسات صحية بمستويات المؤسسات الغربية ما دامت توجد العقول القادرة، ولا ينقص العرب الأموال؟ حسب إحصائية لا أذكر مصدرها، هناك 500 اختصاصي مصري من أبرز الاختصاصات في مجالها عالميا، تركت مصر وتعمل في الدول الغربية. كم هي الخسارة من هجرة هذه العقول؟ وماذا تصنع الدول العربية لإعادتها إلى أوطانها والاستفادة منها؟
ما علاقة الدّين الإسلامي بالإرهاب؟
– هل هناك نقاش حول واقع العلاقة بين المسلمين وأصحاب الديانات والأيديولوجيات الأخرى ضمن النسيج الاجتماعي، والبعض يرى أنّ هذا النسيج مهدّد بالانهيار والتفكّك. ما رأيك في ذلك؟
– أنا شخصيا أتلقى يوميا عشرات الإيميلات المليئة بالتحريض والشتائم السّوقية على النصارى والمسيحيين واليهود؛ ويشعرني ذلك كم هي ضحلة ثقافتنا وتربيتنا، وكم هي مأساوية للأجيال الصاعدة. في وجودي الطويل في الغرب لم أسمع غربيّاً يتحدث بالشتائم على المسلمين. يُقلقهم بالطبع الإرهاب الإسلامي ، والسّؤال الوحيد الذي يُقلقهم: ما هي علاقة الدين الإسلامي بالإرهاب؟ بالطبع كلّ المثقفين العرب، وبغض النظر عن انتمائهم الديني، أي حتى العرب المسيحيون (النصارى)، يُدافعون عن الإسلام، ويُبرّئونه من الإرهاب، ويلقون تبعة الإرهاب على جماعاتٍ متطرفة تلحق الضرر بالدين والمسلمين. وأعرف أن بعض المسيحيين العرب، اضطرّوا للهجرة هرباً من القمع الديني و الإرهاب الإسلامي . ومع ذلك لم يتحوّلوا إلى أعداء للدين الإسلامي، بينما تزرع مدارسنا الكراهية والعداء للعرب النصارى، وليس للغرب فقط، كجزءٍ من الإيمان بالإسلام!
– ولكن ألا يُوحي ذلك بالمبالغة العكسيّة؟! الغرب لم يتوقّف عن إنتاج الظواهر المتطرّفة ضد الإسلام والمسلمين؟
– التسامح الديني، وتحمّل الآخر هي ثقافة منتشرة في الغرب، إلى جانب أن القانون يعطيها قوة وحماية، ولكن ليس هذا هو الأساس، إنما أسلوب التربية على التسامح وقبول المختلف. متى يفهم القيّمون على التربية والتعليم أن هذا النهج لا بد منه لخلق جيل له اهتماماته العلمية والمهنية، وليس حمل لواء ذمّ المختلفين دينيّاً، وكأنه الحلّ الوحيد للمشكلات المستعصية في نهضة الدّول العربية والإسلامية ولحوقها بالركب الحضاري للشعوب.
– من السّهل الخروج بخلاصة في أنّك لا ترين مستقبلاً باهراً ويبعث على الفخر لمجتمعاتنا؟
– الصورة المتجلية للعالم العربي والإسلامي لا تبعث على الفخر؛ مجتمعات عربية تتحول إلى مسرح للصراعات الطائفية والإثنية والقبلية، لدرجةٍ تستحيل معها الوحدة الوطنية، والوئام الاجتماعي، ممّا يُضعف فكرة الدّولة المدنية، بل يلغيها. وغنيّ عن القول إن هذه الحال تُهدّد معظم الدول العربية والإسلامية بالانهيار والانقسام والصراعات الدموية الأهلية المدمرة للمصير العربي.
– ماذا عن الإيجابيات.. عن المناطق المضيئة.. ألا يوجد شيء من ذلك؟
– من خلال الصورة التي قدّمتها أنظر للمجتمع الإسلامي المعاصر، ولا أرى ملامح إيجابية تلوح في الأفق. الديمقراطية تُنفى وتُكفر. الدولة المدنية مرفوضة، الأمية تتنامى بأرقام كونية. البطالة تستفحل. التنمية غير واردة على أجندة الأنظمة، إلا بما يتلاءم ومصالح القطط السمان حسب التعبير المصري للمتنفذين في المجتمع والدولة والاقتصاد. التعليم يتهاوى وتسيطر عليه العقلية السلفية الإرهابية. الانعزال يصبح حالاً اجتماعية مرضية، كارثية. واقع المرأة العربية حدّث ولا حرج! ما زلنا نفتي أن قيادة المرأة للسيارة توازي ارتكابها للزنا المستوجب لحد الرجم، ويزيد الطين بلة فتوى إرضاع الكبير التي تحوّلت إلى مهزلة، واستعراض فتاوى السنة الأخيرة فقط يجعلنا نضحك ونبكي! نضحك من مستوى الفتاوى الصبياني، ونبكي لأن صورة مجتمعنا تُشوّه وتُظهرنا مجتمعاً معزولا يفصل بينه وبين المجتمعات البشرية المتطورة مئات السنين. هذه هي الصورة المرتسمة لملامح المجتمع الإسلامي!