المصدر: “النهار”: ابراهيم حيدر
بقي #صادق_جلال_العظم محارباً على جبهة الفكر الديني حتى الرمق الأخير، ومن أجل #سوريا ديموقراطية. هو الذي أثار عواصف كبرى من النقد منذ الستينات من القرن الماضي في كتابه “نقد الفكر الديني”، وخلّف سجالات في مراحل كانت المنطقة تعيش خلالها تحولات ومخاضات كبرى بعد حرب 1967. وعلى رغم أنه راهن قبل سنوات على ما سماه الإسلام الأوروبي لإحداث تحولات نحو الانفتاح في عالمنا، إلا أنه كان حاسماً في موقفه ضد الأصولية والتزمت. وبينما اتّهم صادق جلال العظم بأنه يؤيد حكم الأكثرية السنية في سوريا ومواجهتها لنظام أقلوي، إلا أنه أوضح وجهة نظره في حديث لصحيفة “لوموند” الفرنسية عام 2013 ونشرت ترجمتها “النهار”، حين تحدث عن “الربيع العربي” الذي كان مختلفاً في دمشق، عن تونس، إذ تبيّن أن من المستحيل إرساء فكرة الانتخابات الديموقراطية في هذا البلد. ففي سوريا، كان “الربيع العربي” محاولة شعبية لبثّ الحياة والعافية من جديد في جمهورية اغتصبتها سلالة عسكرية وراثية شعارها “إما الأسد وإما الحريق”. لذا يجب وضع حد نهائي لسوريا الأسد من أجل التمكّن من إرساء “الجمهورية السورية” من دون إضافة أي شيء آخر إلى الاسم أو إبداء تحفّظات عليه. ولذا، “كلما تمسّك الأسد ودولته البوليسية أكثر بالسلطة وأمعَنا في الاعتداء على الشعب السوري، ازدادت الأصوليات الدينية انتشاراً. فـ”الإسلام العالي التوتّر الذي تعيشه الثورة السورية يحفز تجنيداً غير محدود للإسلاميين، و”الإخوان المسلمين”، والجهاديين، والطالبانيين، والقنابل البشرية في صفوف الشباب السوري”.
بقي صادق جلال العظم الأكثر نقداً للفكر الديني بأشكاله المختلفة، فمنذ إصداره كتاب “نقد الفكر الديني” في 1969، والذي أثار عاصفة كبرى من النقد المؤيد أو المعارض في العالمين العربي والإسلامي، تعرض إلى المحاكمة والملاحقات القانونية في بيروت، بحجة إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعنصرية، أو الحض على النزاع بين مختلف طوائف الأمة أو تحقير الأديان، ومنذ ذلك الوقت، خصوصاً بعد ما خلّفته حرب الـ1967 من سجالات وعمليات نقد وتحولات ومخاضات كبرى، تعمّق في النقد، فأصدر “ذهنية التحريم”، فيما المنطقة العربية كانت تشهد صعود الإسلاميين والتحديات التي يواجهها المشروع العلماني، ومدى مقاربة النموذج التركي لما يسميه أنماط الإسلام الراديكالي في المنطقة، والذي تبناه صادق جلال العظم في السنوات العشر الماضية حين يراهن على الاسلام الأوروبي لإحداث نقلة نوعية في العالم الإسلامي، وفي تغيير الذهنية الإسلامية، وذلك بالرغم من أنه كان يعدّ من أبرز رموز الفكر العلماني المعاصر في العالم العربي والماركسي تحديداً.
أخبار ذات صلة
صادق جلال العظم خسارة للبنان الثقافي ولـ”ملحق النهار”
صادق جلال العظم رحل في منفاه الألماني بعيداً من سورياه
ومن مقارنته لموضوع إبليس في نقد الفكر الديني، أطلق العظم مصطلح الصورة الكونية لعصر ما، للدلالة على جملة آراء ونظريات على درجة واسعة جداً من التعميم والشمول والشيوع. ويحدد ما يقصده بالدين، فهو لا ينظر إليه بوصفه ظاهرة روحية نقية خالصة وإنما من حيث هو قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي وتحدد طرق تفكيرنا، فالدين هو مجموعة من المعتقدات والتشريعات والشعائر والطقوس والمؤسسات التي تحيط بحياة الإنسان. ويقدم نقداً للظاهرة الدينية بقوله، أنه أصبح من الجلي أن الابتلاء الإلهي هو مصدر البلاء والعذاب واليأس الذي يمر به الممتحن. كانت رغبة ابرهيم الشديدة في إنقاذ إسحق والاحتفاظ به مصدر عذابه وشقائه، ولولا هذه الرغبة العنيفة لما استحقت تجربته كل هذا الاهتمام لأنه يكون قد قدم إلى ربه شيئاً لا يعز عليه إلا قليلاً ولا يشكل فقدانه بلاء عظيماً. كذلك الأمر بالنسبة لإبليس. عندما جرّبه اللـه كان يشعر برغبة جامحة لأن يذعن لأمر السجود وعز عليه إلى أقصى الحدود أن يضحي بهذه الرغبة في سبيل تمسكه بحقيقة التوحيد، وإلا يكون قد ضحى بشيء لم يكن يرغب فيه أصلاً إلا رغبة طفيفة.
من هذه النظرة النقدية للفكر الديني، عاد العظم وراهن على الإسلام الأوروبي، فقدم الاسلام التركي نموذجاً للتغيير، ويقول في هذا الصدد: أما النموذج الاعلى لاسلام “البيزنس” هذا، فنجده في حكم حزب العدالة والتنمية لتركيا اليوم وفي طبيعة مشاريعه وإصلاحاته وطموحاته وسياساته الداخلية والخارجية على المستويات كافة. ومعروف أن إسلام النموذح التركي ترك آثاره البالغة على تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين. فالجماعة مثلها مثل تيارات أخرى في حظيرة الإسلام السياسي، كانت تكره التجربة التركية السابقة كرهاً شديداً بسبب من كماليتها المعروفة وعلمانيتها المتقدمة وتصفيتها لمؤسسة الخلافة وتوجهها الغربي الأوروبي الحداثوي، إضافة إلى علاقاتها القوية بإسرائيل. أما السؤال الذي أخذ يطرح نفسه على الإسلام السياسي العربي عموماً، وعلى ضوء ما آلت إليه تجربة الإسلام السياسي التركي في الجمهورية الكمالية العلمانية المحتقرة إسلامياً سابقاً، هو: لننظر أين هو الإسلام السياسي التركي اليوم، وأين هو الإسلام السياسي العربي اليوم أيضاً.
لكن بالنسبة الى العظم أيضاً ليس ممكناً أن نفهم أنفسنا من دون أن نفهم أوروبا. فعملية التحديث، التي ربما مضى عليها قرنان، تحكم الحضارة الغربية في معناها من الحد الادنى، وهي دخلت علينا ووصل الينا جزء منها، ما يعني أن تاريخنا الحديث، مجتمعاتنا العربية المركزية، لا يمكن فهمها من دون اوروبا، ولم يعد ممكناً ان نفهم انفسنا من دون ان نفهم ايضاً التاريخ الحديث لأوروبا في القرنين الاخيرين. لذا راهن أيضاً على الاسلام الأوروبي للانفتاح على العالم. وفي رؤيته للنماذج الإسلامية الراهنة، فقسمها الى ثلاثة اتجاهات: إسلام الدولة الرسمي البترودولاري، وهو من أنماط الإسلام الراديكالي، الإسلام التفجيري الإنتحاري. وهو الإسلام الجهادي الذي تتبناه طالبان، وعلى رغم أن “حماس” و”حزب الله” بدأتا كحركات تحرر وطني، إلا أنهما انحدرتا الي موقف طائفي، ما جعلهما ينخرطان تحت هذا التصنيف. وهذا النمط من الإسلام يقوم على مبدأ الحاكمية لله، ويؤمن بعقيدة التفجير وتجريد السيف لقتل الآخرين بحجة حماية الدين. أما النمط الثالث فهو إسلام البيزنس والسوق. وهو إسلام الطبقة الوسطى البورجوازية المرتبطة بالبنوك الإسلامية وصيغ المرابحات التجارية، وهذا يمثله النموذج التركي الذي اهتم بالبعد الإقتصادي والريعي والخدماتي، وهو يمثل نموذجاً وسطياً للإسلام ومسالماً لا يتبنى العنف واستخدام القوة.
بقيت العلمانية مشروع صادق جلال العظم الرئيسي، وهو حاول في قراءاته أن يبحث عن حل لمشكلة التطرف الإسلامي، ولما تركته بعض الأنظمة العربية من آثار كارثية على مجتمعاتها بالاستبداد والقتل والعنف، حتى أنها صارت أسوأ من العنف الإسلامي للحركات الأصولية، ليعود الى فكرته الرئيسية في أن التاريخ الإسلامي الحديث ظل في حالة تدهور، وانحطاط دائم. فمنذ المشروع الثوري لجمال الدين الأفغاني، بدأ الانحطاط بفكر محمد عبده، وبعده رشيد رضا السلفي، والإمام حسن البنا صاحب الفكر الإرتدادي وسيد قطب، وانتهاءً بنموذج الإسلام التفجيري.
ibrahim.haidar@annahar.com.lb
twitter: @ihaidar62