موسكو – عبدالله حبه
في مطلع السبعينيات حين كنت أعمل في صحيفة ” أنباء موسكو” أبلغتني السكرتيرة بأن رجلاً ما قال انه “كاتب من العراق” ينتظرني تحت عند مدخل مبنى الجريدة. وكنت أظن ان المقصود هو غائب طعمة فرمان الذي كنت غالبا ما ألتقيه في تلك الاعوام. ولكنني وجدت أمامي كهلاً يرتدي معطفاً طويلاً وعلى رأسه قبعة كالتي يرتديها رجال البوليس السري في أفلام هوليوود. وقدم لي نفسه بأنه الكاتب صاحب جمال عضو اتحاد الكتّاب في الاتحاد السوفييتي وأصله من العراق، لكن صاحب جمال هو إسمه المستعار أما إسمه الحقيقي فهو رحيم بن حسين نوباري المولود في كركوك.
وقد عرف صاحب جمال من مستعرب من معارفه بأنني ترجمت قصة طويلة بعنوان ” دروس فرنسية ” لفالنتين راسبوتين التي نشرتها الصحيفة آيامذاك وأثنى عليَّ كمترجم، ويود هو صاحب جمال ان اترجم له رواية طويلة نشرتها مؤخرا دار نشر ” مولودايا غفارديا” في موسكو بعنوان ” الورود السود”، وقدم لي نسخة من الرواية. وقال لي انه نشر أيضا عدة مجموعات قصص وروايات ومسرحيات. علماً انه لم يرغب في الحديث عن نفسه آنذاك، فوعدته بأن أقرأ الرواية وأعطيه الرد على طلبه.
وفي اللقاء الثاني بيننا ذكرت له أنني استطيع ترجمة الرواية لكن المشكلة هي مَن سيكون الناشر ومَن سيدفع إجور الترجمة. ونصحته بمراجعة دار” التقدم ” التي كانت أيامذاك تنشر الكتب المترجمة من الروسية الى العربية. وقد حاولت التحدث معه باللغة العربية لكنني اكتشفت انه يعرف بضع عبارات منها فقط. هذا بالرغم من انه يكتب في روايته انها مترجمة الى الروسية من اللغة العربية. وهذا الأمر بالذات جعلني أبدي الحذر في التعامل معه. واعتذرت عن تلبية طلبه لكوني لا استطيع البدء بترجمة الرواية من دون ايجاد الناشر. وقدم لي عندئذ نص مسرحية كوميدية بعنوان “كيف تزوج حبيب من زوجته نفسه” مطبوعة على الآلة الكاتبة.
وأردت ان أعرف المزيد عن حياته غير ما نشر في غلاف الرواية، لكنه أكتفى بالقول انه ولد في ضواحي كركوك وعاش مع أمه في كوخ بعد مصرع والده العامل في مصنع للفخار في حادث مؤسف. علما انه لم يعرف ما هو انتماؤه القومي بالضبط فربما كان من أبناء الاكراد او التركمان او العرب. وقال إن تجار الرقيق اختطفوه من السوق ، وكان طفلا وباعوه الى تاجر من البوشتون العاملين في التجارة في ايران الذي نقله الى الهند حين كانت مستعمرة بريطانية. ولكنه هرب منه الى تبريز مع احدى القوافل حيث اشتراه تاجر اذربيجاني عانى منه الأمرين، فهرب منه مرة أخرى لدى نقله الى تفليس (تبليسي حاليا) ، وسافر منها بالقطار الى باكو عاصمة اذربيجان مع أسرة فقيرة مهاجرة . وهناك قامت انتفاضة العمال وأعلنت السلطة السوفيتية بعد مجئ الجيش الأحمر الى المدينة. وقد أعتنت به السلطة السوفيتية وأدخلته بيتا للايتام وبعدها إلتحق بالمدرسة وواصل التعليم. ثم عمل في وظائف مختلفة وبدأ منذ أيام الدراسة بكتابة القصص وقرر ان يصبح كاتبا.
وبعد أشهر عدة طلب مني زميل تتري درس معي في معهد ” غيتيس” للفن المسرحي ، وبدأ العمل كمخرج في احد مسارح قازان، بأن أقدم له المساعدة في انتقاء الملابس وتصميم الديكور لمسرحية تدور احداثها في العراق كتبها صاحب جمال. ويهمه ان يعرف ملابس العراقيين وهندسة بيوتهم وزخارفها. وأطلعني على نص المسرحية المقتبسة عن رواية للكاتب تروي قصة حياة الشهيد يوسف سلمان (فهد) ورفاقه. لكنني لم إلتق الكاتب ولم أشاهد المسرحية ، واقتصر دوري على تقديم المشورة الفنية فقط.
وانصرمت الأعوام ونسيت أمر صاحب جمال وأعماله الادبية لإنشغالي كثيرا بالعمل في مؤسسات عدة في وقت واحد لتدبير معيشة عائلتي. ولم أعرف شيئا عن مصيره لاحقا، لكن أحد القراء العراقيين في شيكاغو كتب لي مؤخرا رسالة يود ان يعرف فيها شيئا عن صاحب جمال. وكان هذا القارئ قد طالع في الانترنت مقالتي حول المخرج والمربي المسرحي جاسم العبودي، واعتقد بأنني ما دمت اقطن في موسكو فلا بد ان أعرف جميع العراقيين فيها ، ولاسيما اذا كان شخصية ادبية. فقررت ان اسأل من اتحاد كتّاب روسيا عنه لكن الاتحاد الذي انقسم الى عدة منظمات بعد تفكك الاتحاد السوفييتي قد اصبح بلا أرشيف تقريبا ولم أجد فيه ما يشفي الغليل. وعندئذ ذهبت الى مكتبة لينين فوجدت خمسة كتب بقلم صاحب جمال. وقررت التعرف عن قرب عن إبن بلدي ذي المصائر العجيبة ، وندمت لأنني لم أتواصل معه خلال تلك الفترة. ولكنني وياللأسف لم أستطع كشف المزيد من تفاصيل حياته ومصيره لاحقا ، ولا أعرف فيما اذا بقي أحد من أفراد أسرته.
ان الروايات الخمس التي وجدتها في المكتبة هي”الصبي الأسمر يبحث عن السعادة”، التي ربما تعتبر تجسيدا لسيرة حياة الكاتب و”أين أنت ياروسيا” و”الرئيس”عن مؤامرات الدول الامبريالية ضد شعوب المستعمرات و” لقد عاد” عن الشهيد فهد ورفاقه وثورة 14 تموز و” الورود السود” عن نضال شعوب الشرق الاوسط من أجل التحرر الوطني. لكنني لم اجد روايته “صائد اللؤلؤ”عن الحياة البائسة لصيادي اللؤلؤ في البحرين ولا رواية ” ثلاث قرنفلات” حول نضال الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي ولا رواية “الآمال الخادعة” ومسرحياته ومنها دراما “فاطمة صبري”.
ويظهر من التفاصيل الواردة في رواياته انه يعرف الكثير عن مجتمعات شعوب الشرق الاوسط كما في وصفه لمسيرة القافلة من تبريز الى تفليس، ووصفه للسجن المركزي في بغداد حيث “نصبت ثلاث مشانق ووقف الجلاد بدشداشة طويلة سوداء ومنديل أحمر حول وسطه وهو يخرج بين آن وأن قاروة مسطحة فيها العرق الذي يحتسيه خفية “. كما يصف حال السجناء الثلاثة المحكوم عليهم بالاعدام في زنزانتهم وكيف تم اقتيادهم الى المشانق. ويعطي وصفا دقيقا لحياة احد القرويين في كردستان الذي استقبل في بيته فهد المتنكر لدى عودته من الخارج الى العراق.
ترد في الروايات المنشورة نبذة قصيرة عن حياة الكاتب الذي أمضى فترة طفولته ويفاعه في العبودية والتشرد ويذكر فيها انه ولد في العراق في عام 1906 وجاب غابات الهند ومدن ايران وتركيا وسورية ولبنان. وفي عام 1917 سمع لأول مرة بإسم لينين والثورة الاشتراكية في روسيا. فهرب من الهند وبعد عامين من التشرد وصل الى باكو التي كانت تحت سلطة القوميين انصار حزب ” مساواة”. وحسب ما جاء في النبذة فإنه انضم الى منظمة الشبيبة الشيوعية (الكمسمول) السرية وصار يوزع المناشير ضد السلطة البرجوازية، فألقي القبض عليه وزج به في السجن ولم يتم تحريره الا بعد انتفاضة العمال ومجئ الجيش الأحمر الى المدينة في 28 نيسان عام 1920. وبعد ذلك وفرت السلطات السوفييتية الجديدة المجال له للدراسة في الدورات السياسية في باكو وارسل الى ايران من قبل مجلس شباب الشرق حيث انضم الى رجال المقاومة الشعبية ضد الاحتلال البريطاني واتباع الشاه. وكان يقودها گيلان الأحمر (حيدر عمو أوغلي).
في عام 1924 تخرج صاحب جمال من جامعة كادحي الشرق بموسكو. ثم عمل في دوائر التوعية لكادحي طاجيكستان ، كما درس في الوقت نفسه خارجيا في معهد القطن لآسيا الوسطى. وبعد ذلك عمل في معهد البحوث العلمية لحلج الاقطان، وألقى المحاضرات ومارس العمل التطبيقي في احد الكولخوزات في مجال زيادة انتاج القطن. وفي فترة الحرب العالمية الثانية غادر صاحب جمال الاتحاد السوفييتي الى الخارج. لكن النبذة لا تشير الى أين سوى أنه سافر الى بلدان الشرق الاوسط . وعاد في عام 1944. وبعد ذلك قررالتفرغ للعمل الأدبي فنشر عدة مجموعات قصص عن حياة شعوب الشرق البائسة التي كانت تعاني من الاحتلال الاجنبي وظلم رجال الاقطاع والحركة الثورية في الشرق العربي.
ان سيرة حياة رحيم بن حسين نوباري يلفها الغموض لحد كبير اذ لا يمكن الجزم بصحة كل ما ورد في المنشور بسبب الظروف التي واكبت حياة ونشاط الكاتب ، واختياره لموضوع كفاح شعوب الشرق الاوسط من أجل التحرر الوطني كمادة أساسية لإبداعه. فأن السلطات في اللجنة المركزية للحزب ما كنت لتشجع على نشر أعماله لو لم تتناول هذه المواضيع، لاسيما انه ليس من الادباء المعروفين. كما يلاحظ ان غالبية مؤلفاته موجهة الى الجيل الفتي، ولهذا نشرت أعماله في دور نشر كتب الاطفال واليافعين والشباب.