صاحب ‘الموناليزا’ أديبا بالعربية في دمشق
دافنشي يتحدث في أعماله عن الشرق وسوريا بحميمية وود، متحدثاً للسوريين بلغة الإسلام، مخاطباً إياهم بأسلوبهم ‘الاستهلال بتمجيد الإيمان والإقرار به’.
العرب: أوس داوود يعقوب [نُشر في 20/10/2013، العدد: 9354، ص(12)]
كتاب يحمل جميع كتابات ومسودات عبقري عصر النهضة
من دمشق يأتي هذا الكتاب البديع لصاحب “الموناليزا”، ويضم في ترجمة رائقة جميع الكتابات والملاحظات والمسوَّدات التي كتبها عبقري عصر النهضة الفنان ليوناردو دافنشي والتي سبق أن جمعتها دور نشر إيطالية وعالمية تحت تسميات عديدة مثل “كتابات أدبيَّة”، أو “مسوّدات ليوناردو دافنشي”، أو “كتاب الملاحظات لليوناردو دافنشي”.
“الأعمال الأدبيَّة” هو عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً في دمشق، بإمضاء أشهر فناني عصر النهضة الرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي (1452 – 1519م). وقد نقل هذه الكتابات عن اللغة الإيطاليَّة وهيَّأ حواشيها الشاعر السوري رامي يونس، المعروف بـ”أمارجي”، ما أضفى على الترجمة لغةً شعريَّةً رفيعة الطراز بقدر ما هي نابضة وعميقة النفاذ في روح القارئ.
الكتاب الصادر في 248 صفحة، يحتوي على عشرين فصلا، تحتوي: “شذرات فكرية”، “خُرافات”، “مؤلَّفات رمزيَّة”، “نُبوءات”، “طُرَفٌ”، “استهلالات”، “تُحفتان وكشفٌ واحد”، “كلامٌ ضدَّ الاختزاليِّين”، “ضدَّ العرَّاف والخيميائي”، “حِجاجٌ “مع” و”ضدَّ” قوانين الطَّبيعة”، “مُسَوَّدةُ إيضاحات”، “التَّحليقة الأوَّلى”، “الطُّوفان”، “كهف”، “الوحشُ البحريُّ”، “مَزار فينوس”، “المارد”، “إلى الدَّفْتَرْدار السُّوري”، “رسائل”، “متفرِّقات ونسوخ”. وفي الكتاب ملحق يضمُّ بعض اللوحات والمخطّطات من أعمال صاحب “العشاء الأخير”، بغية تسليط المزيد من الضوء على شخصية دافنشي الفنان والمهندس المخترع، وهي لا تتقاطع بالضرورة مع كتاباته الأدبيَّة، لكنها إضافة أعطت الكتاب مزيداً من الأهمية والجمال. وقد صدر الكتاب عن “دار التكوين” في دمشق.
وجوه دافنشي
في “شذرات فِكريَّة” وعددها (128) نقع على شذرةً، تتحدث عن الروح: “حركةُ الأرضِ هي في آنٍ واحد بعكسِ الأرضِ واقتفاءٌ لها، فطفيفةٌ تكونُ بالمُحصِّلة حركةُ الأجسامِ المتأثِّرة. المياهُ الملطومةُ بمياهٍ مثلها تصنعُ دوائرَ في مواضعِ التَّصادم. بعيداً ينتشرُ الصَّوتُ خلالَ الهواء، وأكثر بعداً خلالَ النَّار. العقلُ يمتدُّ أبعدَ من ذلك خلالَ الكَون. لكن، ما بالُ تلكَ المُتناهية لا تمتدُّ خلالَ اللامتناهي وتنتشر”.
وفي فصل “نُبوءات” نقرأ من مطالع نُبوءاته: “لَتَرَوُنَّ الدَّمَ يخرجُ من اللحم البشريِّ الممزَّق، ويسيلُ مسطِّراً سطحَ الجسد”. ويضيف دافنشي في “النُبوءة” حديثه عن وحشيَّة الإنسان: “لَتَرَوُنَّ على وجه الأرضِ حيواناتٍ تكونُ على الدوامِ في قتالٍ مع بعضها، وكلُّ طرفٍ منها يُمنى بخساراتٍ كبيرةٍ ومَنِياتٍ ثقيلةٍ متواصلة. هؤلاء، لن يكون ثمَّةَ نهايةٌ لشرورِهم، بأطرافِهم القوية سوفَ تُسَوى بالأرضِ أشجارٌ لا تُحصى من غاباتِ الكون الشاسعة، وعندما يُتخَمون بالطَّعام فسوف يَنشدون إشباع رغباتِهم الأُخَر بِمنحِ الموتِ والحزن والشقاء والخوف والزوال لكلِّ ذي روح، ولِغطرستهم التي لا حد لها سوف يرغبون بالصعود نحو السماء، غيرَ أنَّ ثقل أطرافِهم المُفرِط سوف يُبقيهم في الأسفل. لن يبقى شيءٌ فوق الأرض، ولا تحتَ الأرضِ، أو تحتَ المياه، إلا وسوفَ يُضطهَد، يُنتَهَكُ نظامُه ويُخَرب، وما هو مُلكٌ لهذا البلد يُقصَى إلى ذلك البلد، وتكونُ أجسامُهم مقابرَ ومعابرَ لجميعِ قتلاهم”.
ومن خلال هذه “الشذرات” نتعرف على وجوه دافنشي المتعددة، ففي “الشذرة” رقم (88) تتجلى فضائل أخلاقياته التي تقربه من مرتبة المصلحين في نظرته إلى الحياة والموت، يقول: “العمر يتبخر، يطوي المسافات خفية ويضللنا، لا شيء أسرع من السنين، ومن يبذر الفضيلة يحصد الإجلال.. فيما كنت أظن أنني أتعلم كيف أحيا، كنت أتعلم كيف أموت”.
ونقرأ تحت عنوان “التَّحليقة الأوَّلى”: “لَسوفَ يتَّخذ الطَّائرُ الكبيرُ تحليقته الأولى على متنِ بجعتِه العظيمة، مالئاً الكونَ دهشةً، وشاغلاً الكتبَ جميعاً بشهرتِه، ولَيرجعنَّ بالمجد الأبديِّ إلى العشِّ الذي وُلِد فيه”. وقد علّق المترجم على هذا الفصل بالقول: “يرى الشُّرَّاح أنّ هذا النَّصَّ ليس إلا تكهُّنات دافنشي حول آلة الطيران”.
سوريا والسوريون
يتحدث دافنشي في أعماله عن الشرق وسوريا في مقالته “إلى الدَّفْتَرْدار السُّوري”، بحميمية وود، متحدثاً للسوريين بلغة الإسلام، مخاطباً إياهم بأسلوبهم “الاستهلال بتمجيد الإيمان والإقرار به”، ويرجّح أن هذا الفصل/ الخطاب كان موجَّهاً من دافنشي إلى شخصٍ مسلمٍ أو هيئةٍ إسلاميَّة. و”الدَّفْتَرْدار” كما يشير المترجم: “تسمية كانت تُطلَق على الموظَّف المالي المكلَّف بتنظيم الوارد والمنصرف من أموال الحكومة، وقد أطلقت على وزير المالية في القسطنطينية..”. مبيناً أن: “هذه المفردة ليست تركية الأصل كما يُظّن وإنَّما عربية الشق الأوَّل “دفتر: كرَّاسة”، فارسيَّة الشق الثاني “دار: كاتب حسابات”. ويضيف (أمارجي): “ليس هذا هو المعنى الذي قصده دافنشي، فالفترة التي عاش فيها دافنشي توافق حكم المماليك في سوريا، وفي ذلك العهد كان لقب “الدَّفْتَرْدار” يُطلق على شخص رفيع المقام هو وكيل الآمر وممثله، وكان مكتب “الدَّفْتَرْدار” هو الثالث من حيث الأهمية في الدولة”. وفي هذا الفصل يتحفنا دافنشي بتوصيف متناه في الجمال للطبيعة السورية وجمالها وجبالها.
في فصولٍ أخرى، يروي دافنشي جوانب من تجربته في الرسم واللون وعلوم التشريح وأحوال الضوء، وعمل الحواس، مؤكداً المخزون المعرفي والصبر والمهارة معاً.
ويجد القارئ بالكتاب الكثير من الشذرات التأملية والتنبؤات العلمية، والرسائل، والأشعار، وأصول لوحاته، ورسوم توضيحية لبعض اختراعاته العلمية.
فهو من الأوائل الذين وضعوا تصورات هندسية لمجاري المياه، ووضع تصوراً هو من أقرب ما يكون للطفل الجنين في رحم الأم. (رسم “الرحم البشري والجنين”، صورها بين عامي (1510-1512).
ويشير دافنشي في أحد نصوصه الأخيرة، إلى أنه أنجز نحو 120 مخطوطاً، وهذا ما يؤكد أنّ معظم كتاباته ما زال مفقوداً.
تشكيل وابتكارات
وفي أعماله الأدبيَّة هذه يكشف لنا صاحب الآثار العظيمة في فنِّ التشكيل، كيف اخترع في عام 1488م أول آلة طائرة، وكيف صمم مدفعاً حربياً، وعربات قتالية، ومنجنيقات. لنتعرف على مخترع مهم، خاصة في الميدان الحربي والعسكري.
وهاهو في أعماله الأدبيَّة كما يخبرنا الأديب الرسام أنه يوجه الرسائل إلى الملوك والقادة لتبني اختراعاته؛ يكتب في إحدى رسائله: “لديَّ أنماطٌ من جُسورٍ قويَّة وبالغة الخفَّة، معدَّلةٍ لكي تُحمَل بسهولةٍ فائقة، ومعها تستطيع أن تتقدَّم، وأن تتراجع في أيِّ وقتٍ أمام أعدائك؛ وأخرى مُحكمة منيعة على النَّار والمعارك، مُلائمة وسهلة الرَّفع والتثبيت. وكذلك ابتكاراتٌ لحرق وتدمير جسور العدو”.
وفي موضعٍ آخر، يحدثنا عن اختراعٍ آخر “لديَّ كذلك أصنافٌ من مدافع الهاوُن، مُطاوعة للغاية وسهلة الحمل، بها يُمكنُ للمرء أن يقذفَ حجارةً صغيرة على نحوٍ يشبه العاصفة؛ ومن شأن الدُّخان الخارج منها أن يبثَّ رعباً كبيراً في رَوع العدو، مع إلحاقِ أذىً كبيرٍ به وتشويشِ صفوفه”. ويضيف: “كذلك الأمر، سأصنع مركباتٍ مغطَّاة، آمِنة ومنيعة، إذ تدخل بين صفوف العدوِّ بمدفعيَّتها فإنَّها لا تدع جمعاً من الرِّجال المسلَّحين إلا وتبدِّدُه. ومن خلفها يستطيع المشاةُ المرور بسلامٍ تامِّ ودون أيِّ عائقٍ”.
وفي الفصل الأخير، وعنوانه “متفرِّقات ونُسوخ”، يقول دافنشي، وهو في سن الرابعة والعشرين، وفي الفترة التي اعتقل فيها بتهمة المثليَّة الجنسية: “آه أيُّها الإغريق، لا أحسبُ أنَّ أعمالي وجِدتْ لتُروى، فلقد رأيتموها رأيَ العين. أوديسيوس (هو أوليس عند الرومان)، قال إنَّ فِعاله وقعتْ من غير شهود، وأنَّ الليل الدَّامس وحده يعرفها”.
وفي ختام متفرقاته ونُسوخه، يقول دافنشي: “ما هو بهيٌّ في الإنسان محكومٌ بالموت، لكن ليس في الفنِّ”.