هرمز كوهار
مع الملك فيصل الثاني
ذاكرة من أيام كان العراق دولة ونظام واحترام، أما هذه الأيام فلا دولة ولا نظام ولا قانون ولا احترام، و كل الأمور خارج الاهتمام …ا
بل ” دولة ” المليشيات والعصابات المسلحة والنهب والسلب والتفجيرات دون حساب ولا كتاب… و” دولة ” تسن دستورا وقوانينا ولا تحترمها، فهي لا تحترم نفسها، فكيف تريد أن يحترمها الغير…!؟
و” دولة ” تتحول التصريحات الرسمية لمسؤوليها إلى نكت ونوادر يتندر بها العراقيون… ما تسمى دولة !…وحقا قالوا: شر البليــــة ما يضحك
في كل زمان ومرحلة، لغة سياسية تختلف عن الزمان الآخر، ففي العهد الملكي كنا نتداول مفردات سياسية منها: رجعي، وطني، تقدمي…. الخ، ويُتهم بالرجعية كل من كان يساند ويؤيد الحكومة وحتى في إنجازاتها التي كانت في خدمة الشعب!! أما الشخص الوطني فهو كل من كان ضد الحكومة ” الرجعية “، وينتقدها ويستخف بإنجازها وإن كانت في الصالح العام ! أما التقدمي فكانت تعني الوطني اليساري، ومعارض للحكومة على طول الخط ! فإذا بنتْ جسرا أو فتحتْ طريقا… كنا نقول: هذه لتسهيل مرور قطعاتها نحو الجماهير المنتفضة !! وإذا أسست مدارسا ومستشفيات كنا نقول: هذه لتغطية جرائمها وهكذا…، لأن القاعدة: ألا نـُحسِن الظن بالرجعية والاستعمار!!!
أما الرجعية الحقيقية هي التي نعيشها هذه الأيام مع “الأحزاب” الإسلامية والتطرف الإسلامي الذي تحولت إلى عصابات فاشية، والتي تريد أن ترجعنا إلى ما قبل 14 قرنا إلى الوراء… إلى سيرة السلف ” الصالح “، هذه هي الرجعية الحقيقية.
ونعود إلى موضوعنا ومليكنا، ففي سنة 1956 كنت أحد خريجي كلية التجارة والاقتصاد، كما كان أسمها آنذاك. كان من بين الزملاء الذين تخرجوا معي، ومن المعروفين: الزميل [حنا رزوقي الصائغ] وطالبان من القوش، كانا موسى ميخائيل الصفار، وسامي توما، وزميل آخر بعثي، وأصبح من قادة البعث فيما بعد، هو حكمت إبراهيم مزبان أي حكمت العزاوي، ومن الصدف أنه حقق معي أثناء توقيفي بعد جريمة 8 / شباط 63 !!! بتهمة كوني شيوعي، ودليله إنني كنت مرشحا في قائمة الشيوعيين والديمقراطيين ضد قائمة البعثيين والقوميين في جمعية الاقتصاديين العراقيين سنة 62، وبعد جريمتي شباط 63 و69 أصبح العزاوي وزيرا للاقتصاد ومحافظ البنك المركزي. وغيرها من المناصب، وبعد 2003 حكم عليه بالسجن (15) سنة. وقيل انه مات في السجن قبل أشهر.
تقرر أن تجري لنا حفلة رسمية لتوزيع شهادات التخرج يحضرها الملك فيصل الثاني تقام في حديقة القاعة المسماة باسمه، والتي بُنيت على أحدث نظام وسميت لاحقا بـ (قاعة الشعب) مغلفة بالخشب الصاج، ومُدفأة بـ(الفاير بليس) ويستقبلك (عند المدخل) ألتشريفاتي ليستلم المعطف أو القبعة أو السدارة أو ما شابهها! والإنارة والموسيقى التصويرية كأحدث ما يمكن، وأكثر تمثيليات فرقة المسرح الحديث بقيادة الأستاذ يوسف العاني كانت تجري فيها وقد حضرت معظمها…ا
أما هذه الأيام… أيام، السواد، والخراب، والغم، والتكلم بالديمقراطية بملء الفم! الذي أصبح شعار ” الدولة ” فلا أعرف مصير تلك التحفة وأٌقصد تلك القاعة…ا
كانت حديقة جميلة تتكون من حلقات نصف دائرة من اليآس والورود، وبين تلك الحلقات جلسنا ببدلة التخرج المعروفة، وكان عددنا نحو (50) خريجا، وجلس الملك فيصل الثاني في صدر الحديقة المقابل للقاعة، وإلى يمينه وزير المعارف خليل كنه على ما أذكر وعميد الكلية الإنسان الطيب د. بديع شريف (وللأستاذ بديع شريف قصة أخرى قد أتي إليها لاحقا).
لم أجد أمام الملك غير منضدة بسيطة عليها غطاء ابيض دون أن يكون أمامه باقات من الورود والزهور كما ” لسياسيي ” اليوم، بل نسخ من الشهادات ليوزعها علينا فردا، فردا.. كان العميد يقرأ اسم الخريج ونذهب إلى الملك، ويصافحنا مع ابتسامة وصوت رفيع خافت بالكاد كان يسمع كصوت البنات ويقول: “مبروك…” ويسلمنا الشهادة، ثم نرجع إلى مكاننا والتلفزيون ينقل الحفل على الهواء مباشرة. ولحظة المصافحة يلتقط المصور أرشاك صورة شخصية لكل خريج لتبقى ذكرى للتاريخ، وكان المصور أرشاك أشهر مصور فوتوغرافي في تلك الأيام، وكان مصور الملوك والرؤساء…ا
وبعد انتهاء توزيع شهادات التخرج العامة، قال العميد: هناك جوائز فرعية تبرعت بها بعض المؤسسات الحكومية، والأهلية للأوائل في المادة التي تخص المؤسسة، والأولى كانت من نصيب الزميل حنا تسلمها وعاد إلى مكانه، وكذلك الثانية وعندما علم الملك أن كلها من حصته الأخ حنا! هنا قال الملك: ألأخ حنـّا… ليش تتعب تروح وتجيء.. تعال أجلس يمنا حتى تكون قريب علينا لتسلم بقية الجوائز لأن كلها من حصتك…!!؟
وأنتقل الزميل الأخ (حنا) من مكانه وجلس قرب الملك ليواصل تسلم بقية جوائزه من يد الملك…!
لم يقلها الملك كأمر أو من خلال مأمور أو مناد، ولا كأمر ملكي، ولا ككلام موجه لغريب، أو شخص نكرة بالنسبة إلى الملك كعادة الملوك والرؤساء أو يوعزون على مساعديهم أن يدعو فلان وفلتان حتى من الوزراء، بل قالها كأنه صديق وزميل له: ” الأخ حنا … تعال أجلس يمنا…” وحاشا أن يستخف به أو يستصغره فقد كان الملك في منتهى الخلق والكياسة. وانتهى الاحتفال بكل هدوء كما بدأ، ونقل عبر التلفزيون نقلا مباشرا، وأعتقد كان أول تجربة للنقل المباشر. كما كان أول تلفزيون في المنطقة آنذاك… لم أشاهد بباب القاعة، لا جنود مدججين بالسلاح وببدلة قتال! ولا شرطة في داخل القاعة، كل شيء هادئ كأننا كنا في حفلة عائلية، وبالرغم من كل هذا كنا ننظر إلى الملك وإلى من حوله أنه رجعيون عملاء مسيرون…!!! لأن تثقيف الأحزاب آنذاك و دون استثناء : ” ألا نـُحسِن الظن … بالرجعية والاستعمار” ونحن كنا تلاميذ في تلك الأحزاب، تلك الأحزاب التي وعدونا: أن بنهاية هؤلاء يتحول العراق إلى دولة تنافس أرقى الدول العالمية في عِلمه وثقافته وثرواته الوفيرة ومياهه الغزيرة… ولم نكن نتصور أن تأتي هذه الأيام… كلها ظلم وآثام… وقتل وإيهام… صراع وانقسام… منهم غرباء ومنهم أيتام بلا أوطان… يتنافسون على النهب والسلب دون مقاييس ولا أوزان… يبيعون ما يمكن بيعه للجيران… اليوم ينافس كل دول العالم في فساده وآثامه والشعب العراقي ينافس بقية الشعوب بفقره وشقائه وآهاته..!! حتى تحول العراق إلى لا دولة فاشلة بل لا دولة ولا نظام ولا احترام…ا
وبعد أيام بدأ الطلاب الزملاء يتسلمون صورهم الشخصية التذكارية بالتخرج وبمصافحة الملك من مرسم المصور أرشاك، لتعلق في بيوتهم فرحين فخورين بها، إلا البعض منا وأنا أحدهم! لم نستلم صورنا الشخصية من المصور أرشاك، كي لا نـُتهم بأننا نفتخر بمصافحة الملك الرجعي، الدمية بيد الاستعمار، ونوري السعيد العميل! بل كنا نقول لا يزيدنا شرفا أن نصافح ملكا عميلا، ليس إلا دمية بيد الاستعمار…ا
وأزيد على ذلك، كثيرا ما كنا نصادف الملك ” العميل ” أو ” الدمية “! وهو في سيارته في شارع الرشيد تسبقه كوكبة من راكبي الماطورات، و كل ما تقع عينه على أحد المارة، يرفع يده ويسلم مع ابتسامة من خلف زجاج السيارة، وأحيانا نتجاهله لكونه ملكا رجعيا عميلا!! وكم تجاهلنا سلامه وابتسامته…ا
في التسعينات تعرفت على شخص أرمني قال لي: لا زلت نادما عندما تجاهلت تحية الملك وهو في سيارته، فقد أدرت وجهي كي لا أردت التحية لأنه ملك رجعي عميل… كم كنا أطفالاً في السياسة…ا
الشيوعيون.. كنا نريده ملكا ماركسيا
والبعث.. كانوا يريدونه ملكا عفلقيا
والقوميون.. كانوا يريدونه ملكا ناصريا يقدم العراق هدية لعبد الناصر، ليصنع وحدة
عربية بعد أن يـُلقي اليهود في البحر
والأكراد.. أرادوه ملكا يعطيهم حكما ذاتيا أكثر استقلالا من الدولة نفسها
أما الإسلاميون .. فكانوا يريدونه ملكا دينيا على منوال وسيرة جده رسول الله
ولكن للحقيقة والتاريخ، لم يكن بإمكانه أن يعمل أكثر مما عمل, ولكن هو ووزراءه أصروا أن يكونوا ساسة عراقيون بامتياز… أسسوا وبنو بلدا بالرغم من الصعوبات التي ذكرها الملك فيصل الأول التي كانت تقترب من المستحيل… كان حكام العهد الملكي يسيرون وفق سياسة الممكن وامتنعوا عن السير بسياسة طفر الموانع وتخطي المواقع أو القفز في المجهول! فكان العراق سبَّاقا لكل دول ودويلات المنطقة… واليوم يقف العراق سباقا في الفساد والتخلف، وأصبح ممرا ومستقرا لكل من هب ودب من الإرهاب من مختلف الأنساب… وحكامنا اليوم حرامية وعملاء ودكتاتوريون ورجعيون ومتخلفون. ولكن برسم الديمقراطية حتى النخاع على حد إدعائهم…ا
حقا قالوا: لا تعرف خيري… قبل ما تجرّب غيري
ومن هنا أقدم تحياتي واحتراماتي إلى الأخ والصديق والزميل الأستاذ: حنا رزوقي الصائغ (أبو رازق) متمنيا له صحة جيدة، وعمرا مديدا