كأن سكان قطاع غزة على موعدٍ مع الموت المحتم، يتعاقدون معه فيأتيهم من كل مكانٍ، ويفجعهم بأنفسهم كل يوم، ويلتزم تجاههم فلا يتأخر ولا يتراجع، ولا يقل ولا ينقص، ولا يتردد ولا يمتنع، بل يزور الجميع ولا يفرق، وينال من الكل ولا يميز، ويزور بالجملة والمفرق، ويقتحم على الآمنين والمطمئنين خلواتهم فيمزق هدوء عيشهم، وطمأنينة بالهم، ويطال الصغار والكبار والأصحاء والمرضى، والمصابين والجرحى، وكل ساكنٍ في القطاع ولاجئٍ إليه ومقيمٍ فيه أو عابر سبيلٍ، فكلهم في مواجهة الموت الذي يأتيهم بغتةً سواء، وحظهم منه وافرٌ وغامرٌ، وإن تعددت أشكاله وتباينت وسائله، فإن نتيجته واحدة لا تتبدل ولا تتغير، ولا تخفف من وقعها ولا تقلل من أثرها، إذ لا شئ يزين حقيقة الموت وفاجعة الفقد.
حال الغزيين تجاه الموت كحال أي أمةٍ وشعبٍ آخر، فهم لا يختلفون في طبيعتهم عن البشر، ولا يتمايزون عن الخلق الذين كتب عليهم الفناء، فهم يموتون كما يموت غيرهم، وتنتهي آجالهم أسوةً بسواهم لا فرق، ولا يوجد من يعترض على الموت كحقٍ وإرادة، وقدرٍ وخاتمة، فهذا أصلٌ من أصول ديننا، وقاعدة من قواعد إيماننا لا نحيد عنها ولا نكفر بها، وسكان القطاع الذين يناهز عددهم المليونين، يمثلون شعباً صغيراً أو مجتمعاً كبيراً، يتعرض لما تتعرض له كل التجمعات الأخرى من الموت والحياة.
لكن الموت في قطاع غزة كثيرٌ جداً، وحاضرٌ دوماً بالمقارنة مع غيره من المجتمعات، إذ تطالعنا الأخبار الصادرة منه عن وفياتٍ عديدة تحدث كل يومٍ فيه، في الشمال والجنوب وفي الوسط، وإن كانت بعضها وفياتٌ طبيعية لتقدمٍ في السن أو لانتهاء الأجل، إلا أن أسباب غيرها كثيرة، وهي أسبابٌ محزنة وموجعة، ومؤلمة قاسية، وتبعث على التساؤل والاستغراب، وتدعو للسؤال والتحقيق، وتفرض على الباحثين والمهتمين التوقف أمامها ودراسة أسبابها ومعرفة ظروفها وعوامل انتشارها وتمددها، وأسباب العجز عن مواجهتها والتصدي لها.
فالحرائق الكثيرة التي تشتعل في بيوت الغزيين وتحرق منازلهم، تارةً تشتعلُ بسبب شمعةٍ تجاهد من أجل تبديد ظلام الليل البهيم، وإنارة البيوت التي طالت عتمتها، فإذا بها تحرق البيوت وتقتل الصغار والكبار معاً، وتسبب في خنق الأطفال والرضع، أو بسبب ماسٍ كهربائي يتسبب في اشتعال البيوت وحرق بعض سكانها، وهي الكهرباء التي لا تأتي إلا قليلاً، وإذا جاءت فإنها تحرق أو تقتل، وقد وقعت الكثير من الوفيات نتيجة الصعق الكهربائي أثناء محاولة البعض إعادة وصل التيار الكهربائي، الذي كانت صاعقته أقرب إلى المواطنين من نوره، ورغم ذلك فإن هذه الحوادث تتكرر، وعداد ضحايا الكهرباء يزداد.
أما طواقم الدفاع المدني فهي أضعف من أن تواجه حوادث الحرائق واشتعال النيران في أكثر من مكانٍ، فقدراتها محدودة وإمكانياتها قليلة، ومعداتها وآلياتها لا تكفي لتغطية حاجة القطاع ومواجهة تحدياته، الأمر الذي يتسبب في حدوت حالات وفاةٍ نتيجة عجزها أو تأخرها في الوصول، أو بسبب عدم قدرتها وقلة حيلتها أو نفاذ موادها اللازمة لإطفاء الحرائق، بل إن بعض عناصر الدفاع المدني يلقون حتفهم أثناء قيامهم بمحاولة إطفاء الحرائق، فضلاً عن أن جيش العدو يستهدفهم ويقصفهم أثناء تأديتهم لأعمالهم، رغم الشارة التي يحملون، والبزة التي يلبسون، والسيارات التي تضيئ بإشارة الدفاع المدني.
أما البحر الملاصق لكل قطاع غزة فهو يتربص بسكانه، ويقتنص أبناءه، ويغرقهم بلا رأفةٍ ولا رحمةٍ، وأحياناً يغرق الأشقاء وأبناء العائلة الواحدة، ويطوي في جوفه الصغار والكبار والوافدين والمقيمين، ولا تقوى فرق الإنقاذ عن إنقاذ بعضهم ولو استنجدوا بهم، أو حالوا الوصول إليهم، وذلك لنقص الإمكانيات والعجز في الآليات ووسائل الإنقاذ والتدخل السريع.
حوادث الطرق وحالات الدهس والتصادم بين السيارات وانقلاب بعضها وتدهورها، بسبب السرعة وعدم الانتظام والالتزام أحياناً، فإنها تحصد سنوياً المئات من سكان قطاع غزة، رغم مساحته الصغيرة، وشوارعه القصيرة، وكثرة الحفر فيها ووفرة المطبات التي يصنعها السكان للتقليل من الحوادث المرورية، والظلام الدامس الذي تعيشه بسبب انقطاع التيار الكهربائي، ومع ذلك فإن نشرة إدارة شرطة المرور وإدارة المستشفيات تحمل كل يومٍ أنباءً عن حوادث جديدة ووفياتٍ كثيرة، وهي تشمل مختلف فئات السكان، إذ يقتل الأطفال دهساً وأثناء انقلاب السيارات أو تصادمها، تماماً كما يقتل غيرهم وهم كثير.
يحاول سكان قطاع غزة الانتصار على مشاكلهم، والصمود في وجه العقبات التي تعترضهم، وتعويض نقص الوقود، ومواجهة الحصار وارتفاع الأسعار، بلجوئهم إلى امتلاك وقيادة الدراجات النارية، التي توفر الوقود وتحقق السرعة الممكنة، ويسهل استخدامها والتنقل بها، وتمكن مستخدمها من الوصول إلى مكان عمله بسرعةٍ وسهولة، إلا أن حوادث الدراجات النارية غدت كثيرة وقاتلة، حتى أصبحت الدراجة النارية أسرع وصفةٍ للموت، وأدق وسيلةٍ للقتل، وسجل ضحاياها أرقاماً قياسية، وما زالت حوادثهم في ازدياد ومشاهد القتل التي يتعرضون لها مروعة.
وفي المستشفيات والعيادات حالاتُ وفاةٍ كثيرة بسبب نقص الدواء، أو انقطاع الكهرباء عن المعدات الطبية، أو العجز في القدرات وغياب التخصصات وعدم القدرة على إجراء عملياتٍ جراحية فورية وعاجلة للحالات الملحة، وفي الطريق إلى مستشفياتٍ دوليةٍ عبر مصر يموت العشرات من المرضى وهم ينتظرون دورهم، أو يقفون على المعبر انتظاراً لفتحه، وكثيراً ما استقبل الغزيون موتاهم على معبر رفح، وهم الذين أوفدوهم للعلاج والتخلص من الأمراض التي يعانوا منها، إلا أنهم عادوا إلى بيوتهم في توابيت محمولة.
أما الذين يقتلون أنفسهم أو يقدمون على الانتحار فهم أيضاً كثرُ، إذ تنقل لنا الأخبار من غزة إقدام البعض على الانتحار شنقاً أو حرقاً، أو يلقي بعضهم بنفسه من شاهقٍ، أو يلجأ إلى وسائل أخرى للانتحار يأساً وقنوطاً من الحياة، وفراراً مما يواجه، وخلاصاً مما يلاقي، بسبب البطالة أحياناً، وبسبب ضيق ذات اليد وقسوة الحياة في أحيان أخرى، ونتيجة لاستمرار السلطة بمطالبتهم بما عليهم حقوق في الوقت الذي لا يستطيعون فيه مواجهة أعباء الحياة، فضلاً عن قيام طلابٍ وطالباتٍ على الانتحار إثر صدور نتائج الامتحانات.
إلى جانب ذلك هناك جرائم قتلٍ كثيرة تقع في الشارع الغزاوي، بعضها بقصد السرقة، وأخرى للثأر والانتقام، وغيرها تسويةً لمشاكل قديمة، وأحياناً بسبب خلافاتٍ مستجدة على شركاتٍ وأموال، وقد حدثت جرائم قتلٍ عديدةٍ في العائلة نفسها وبأيدي بعض أفرادها، ونتيجةً لحالات الاكتئاب والضيق والضغط النفسي والمتابعة والعجز عن تلبية الحاجات، كما توجد جرائم قتلٍ لإخفاء جرائم أخرى كالاغتصاب والسرقة، أو خشية إفشاء الأسرار وكشف حقائق مضرة بالبعض وغير ذلك.
لكن الاحتلال الإسرائيلي البغيض هو سيد القتل والآمر به في قطاع غزة، إذ هو السبب المباشر في كل ما يجده سكان القطاع بعيداً عن انتهاء الأجل ودنو ساعة الموت، فهو الذي يقف وراء أغلب الأسباب، بل إنه يخلقها ويعمقها، ويزيد فيها ويطيل عمرها، وهو الذي يرتكب جرائم القتل بالجملة، ويعتدي على السكان بالقوة، ويشن عليهم الحروب المدمرة، ويقتل منهم في كل عدوانٍ آلافاً من سكان قطاع غزة، ثم يواصل بالحصار جرائمه، ويقتل بالحرمان المئات، وينهي حياة المرضى والمصابين وعشرات المواليد وأمهاتهم وغيرهم، وما زال بسياسته الغاشمة يسبب للسكان حالات الإحباط واليأس والجوع والفقر والمرض والعوز والحاجة والضيق والعجز وضيق ذات اليد، ويوفر بها وبغيرها كل أسباب الموت والقتل التي يتحمل مسؤوليتها، ويجب أن يحاسب عليها.
ختاماً حتى لا يكون ما قدمنا مخالفاً لعقيدةٍ أو اعتراضاً على حق، نقول إنه الموت والفناء والنهاية المحتومة التي لا فرار ولا نجاة منها، مهما طال العمر وتأخر القضاء وتعددت الأسباب، فإن ساعة الحين قادمة لا محالة، في زمانٍ ومكانٍ في اللوح المحفوظ من قديمٍ مكتوبٌ، حدده رب العزة قبل الخلق، وكلف ملائكته بتنفيذه، فهذا قدرٌ نؤمن به ولا نجحده، ونعترف بأنه مصير كل حيٍ إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الباقي حيت لا بقاء لغيره جل شأنه، والخالد حيث لا خلود لسواه سبحانه، وكل ما عداه من الخلق ميتٌ لا محالة، وزائلٌ لا مفر، وعلى هذا تمضي الحياة وتتعاقب الخلائق.
بيروت في 2/5/2016