ملكة إبراهيم يلدا لا يخشى معها أي مكان وزمان.
بين الرموز والحوار والدراما الفكرية يتجلى الإبداع .
ما هي المفردة الإبراهيمية ؟
عصمت شاهين دوسكي
هناك شعور لذيذ في الكتابة حينما يكون الكاتب إنسانا حساسا ،يحدثك دون وعي منك بالعطف حينا وبالرقة حينا آخر وتتأثر بمودة وحنان ونسمات وإيقاعات الكلمات ، فيشعرك بأنك لست مغتربا وحيدا في الحياة وإن هناك أرواحا تلجأ إليك وقلوبا تخفق مع قلبك الجريح وأنفاسا تشاركك في الأحزان والآلام والآهات ،وتشاركك المتعة في الإحساس هذا الشعور يفوق أي شعور لأنه يحلق في محراب النفس ، ومن حظي بمثل هذا الشعور إنسان عظيم راق ، تحمد الرب لوجوده وتأنس إليه في كل حين خاصة في أوقات الوحدة والوحشة والغربة الروحية ، فأنت إذا عبرت بحار الروح وقطعت هواجس أمواج الذات وشعرت بأنك في سفر طويل يرافقك الحب والإحساس بآلام ولذات الحياة وسماع أجراس ذكريات عائدة ومودعة بخيال خلاق وعبرات تملأ ودا ورفقا وإيثارا حينها ستحس أنك في بحر من بحور الشاعر الكبير ” إبراهيم يلدا ” وفي سفينته الراقية التي تحمل إيقاع الإحساس المؤثر وجمال الصور الشعرية وضروب مختلفة من الرموز والشعور في مرثية ملكته التاريخية والحياتية ” شميرام ” حينما يكون سفر الحياة معها أجمل رأفة وأكثر برا وأعظم كرما ، التي تجسد اسمها الملكة الآشورية ” سمير أميس ” عمقا تاريخيا ، ملكة الروح والسفر والإنسانية والجمال والتضحية ، على الرغم من الحزن المفعم والصعوبات فهي ملكة تصبر وتميز وتتحمل الأذى وتبني ” لتبني لنا عشا يحمي الوجود ” إنها ملكة الشاعر إبراهيم يلدا لا يخشى معها أي دوار وأي شر في أي زمان ومكان ،يغني لها يرتل أنشودة الحياة بصمت الأشجان ويجدد غنائه التاريخي ” يغني من جديد وهو بلا لسان ” فهو يظهر للملأ أنها في داخله ” أشلاء قلبي ” ويحس إنها ترتوي من دمائه ، إلى جانب هذه اللذة الحسية الروحية يروي بهدوء المتمكن حكاية ملكته ” شميرام ” .
(( إخوتي أخواتي لو غنيت
سأغنى لكم أغنية مفعمة بالحزن
تتجدد إلى حيث أعماق التاريخ
إلى عصر يزج بالصعوبات
أغنية حلت على شفتي لتبني لنا عشا
يحمي الوجود فلا تترددوا ولا تقولوا هو مسكين
كيف يستطيع أن يغني من جديد وهو بلا لسان؟
يكفي أن تسمعوا هذه الحكاية
يكفي أن تحسوا بما تحمله الحكاية من إحساس
تلك التي بنت من أشلاء قلبي
وارتوت دمائها من وريدي
إخوتي وأخواتي
يكفي ان تسمعوا الحكاية المريرة )) .
هذا الشعور الخفي في بداية الحكاية لا يشبه أي خوف أو تردد ، بل يظهر الإنسان على قيمته الحقيقية وإحساسه المرهف بالآخر وعلى مكانته السليمة في هذا الوجود ، فإن أحس الإنسان أنه ضئيل لا يكاد يذكر ، وأعماقه أوهن من نسيج العنكبوت ، وأن كان هناك شيء من القدرة على الثبات ومقاومة المآسي والجراح ، فإن أحس بهذا ملكه شيء من البؤس والإشفاق ، ونظراته تعبر عن صدى روحه وأنفاسه ، يستهل الشاعر” إبراهيم يلدا ” بعد التمهيد الأولي في المقطع الأول ليوظف جذور تاريخ عميق بحضور الرمز ” دجلة ، شابة ” الشابة الجميلة بوصف بديع رغم اضطراب دجلة اضطرابا شديدا ووجود الشابة بصدرها العاري وشعرها المبعثر وهي في حالات مختلفة ” تبكي – تضحك – تصرخ – تطالب ” هذه الأفعال القوية المضطربة اصطخبت أمواج دجلة وعصفت الريح نسيمه وكادت ان لا تسمع إلا صدى هديره وصوت خرير الماء الذي يشبه الشكوى ، وكان لهذا المزاج المؤلف بين دجلة والشابة يخلق مياها في العيون ومياها على الشفاه ومياها ” تبتعد عن رائحة الموت ” ومياه ” عذبة ، قوية ، فرحة ” لكن كثرة صورة المياه أرغمها أن تبلع ” صدى الأمواج ” صدى أصوات المياه التي تملأ السمع والنفس كأنه روع يكتنف جسد الحرمان وهول يحيط الأشجان والخوف من صورة ” مكسورة الجناح ” خوف إشفاق مألوف وتلاق معروف ،كأنك تقطع صحراء واسعة لتصل إلى قطرة ماء ، دجلة رغم كرمه مدى التاريخ ” ينكمش على نفسه ” من عذابات الأبرياء وظلم على البسطاء ، وقتل الرهبان والأنبياء ، فدم الانسان اصبح مهدورا وجسده رخيصا في اي مكان وزمان .
(( على ساحل دجلة كانت
تقف شابة جميلة
صدرها عار وشعرها الخجول المبعثر
تغسل وجهها بالدموع
الشابة كانت تبكي بمرارة
الشابة كانت تضحك ، تضحك بصوت عال
الشابة كانت تصرخ
تصرخ وتطلب الماء من دجلة أبي الصحراء
المياه التي تنبع من العيون
المياه التي يبست شفاهها
مياه تعبر وتجري تبتعد عن راحة الموت
مياه عذبة وقوية فرحة كي تصل في الوقت المناسب
ومن فرحها ابتلعت صدى الأمواج
وهي مكسورة الجناح وتقول بهدوء
ها هو دجلة ينكمش على نفسه ويجهل أقرباءه )) .
ما دامت طبيعة ” دجلة ” على ما هي عليها من القوة والجلال تمنح وتمنع بلين ودلال ، لجأت الشابة إلى الله أعظم رحمة وقوة ورفعت رأسها لا لتسخر من دجلة كما سيسخر منه الموت ذات يوم ، ولا تهزأ من أمواج تاريخه العميق ولا تزدري كرمه العتيق ،تعترف بمضمونها الملكي الكائن لتوحي القدرة على أن ” تنير وجه الكون ” على أن لا يكون النور نارا تحرق عيون المؤمنين والملحدين جميعا في وقت تحسبه غير مناسب وتنكر على الشمس وجودها الذي هو ضرب من القوة والكبرياء أمام غلو الإنسان في تقدير نفسه وغروره وأنانيته وجبروته في حين الأشجار والبراعم تحتاج إلى ظل ونور مثلما يحتاجه الإنسان ، فلكل شيء وقت معلوم في محراب بعيد ولوح عظيم ، فحينما تشعر شعورا واضحا بان أسباب وجود الأشياء حولك ضعيفة واهية ، أقل شيء حينها يستطيع أن يحطم كل شيء ، وان يقطع كل ما بينك وبين الحياة والنجاة والخلاص ، عندما تكون شمس الإنسانية والرحمة والحرية والتسامح والغفران والأمان والسلام ضائعة بين غيوم سود وسحب هوجاء يتغير ما لا يتغير فيصاب أذى اللهب الحجر والشجر والبشر ونحتاج حينها خلاص مقتدر .
(( رفعت رأسها إلى حيث السماء عين الله
كي تنير وجه الكون ، العيون تتأجج نارا
لهب بعد لهب ينزل ليحمي عيني الشابة
قالت ينبوع الحياة ، وينبوع النور
قالت لشمس الله
انت لم تشرقي في الوقت المناسب
ولما لم تشرقي عبر النوافذ
لتدفئ الأرامل واليتامى
دخلت عيناي حين تيبست شفتاي
وشلت قدماي ، وقالت من جديد بهدوء
ها هي الشمس تضيع نفسها ولا تعرف محبيها )).
إن الشابة التي تحملت وأثرت وصبرت سنين طويلة تناغم معها الثالوث المقدس ” الماء والشمس والتراب ” لكي لا تغدو نسيا منسيا وتستحق هذه العناية المقدسة معنويا في هذا الكون ، تدافع عن الجمال والإصرار على الديمومة والوجود فرحمتها بأصغر الأشياء وأكبرها مقدسة بلا غرور ولا تكبر ولا إسراف وتحجر ،بل تسقي من عين رحمتها ” الأولاد ، الحقول ” والشمس مشرقة في وقتها في ظل ونور لكي يتدفأ ” أبناء الأرامل ” ويزرعوا الأرض ويبنوا بيوتا لكي يحموا ” لمن هم بلا أوطان ” تحولت الشابة إلى مروج خضر تحيي القادمين والفقراء ، تعتصم الآخرين من أخطار الطامعين والأشقياء ، وتجعل مملكتها في مأمن من كل خطر لتسير نحو مثوى الروح الراقية والخلاص والحرية .
(( الماء والشمس والتراب ، الثالوث المقدس
لف حوله الدنس ، فدخلت الرحمة تلك الجميلة
فأصبحوا للجميلة رحمة
ليمتلئوا جميعهم بالرحمة
لينبع الماء من الأعين ، كي يسقي الأولاد الحقول
لتشرق الشمس في أوقاتها ، لكي يتدفأ أبناء الأرامل
ليبنوا بيوتا جديدة
كي يحموا لمن هم بلا أوطان ، كل أبناء العالم
وقعت الجميلة على الأرض ، فهبت عليها رياح ملوثة
فابتلى جسدها ، وفرغ المكان
شربت من دمها المسكون ، لتتحول إلى مروج خضر
تحيي القادمين ، بمرور الأزمان ، تغنيها الجوقات
من اجل الخلاص ، كي تعيش الروح بحرية )).
الشاعر الكبير ذو الإحساس المرهف ” إبراهيم يلدا ” وظف بشكل مزدوج الحكاية الزمنية الأسطورية العصرية ، الملكة شميرام والماء في مرثيته الراقية التي جعل الفكرة بلا حدود بل صورها الشعرية المنسابة كالشلال الهادئ تشكل نفسها ، وسخر الرموز الطبيعية التاريخية والكونية ” دجلة – شابة – سماء – شمس – تراب ” فذللها بإحساس غاية في الدقة والتصور والتخيل فجعل الرموز الطبيعية مطيعة يأمر وينهي وتنتهي حيث يريد ، وعيه الأدبي والشعري وعلمه الكوني وقوته التصويرية والوصفية الخلاقة وذكاؤه في اختيار المفردة الملكية التي ادعوها ” المفردة الإبراهيمية ” لمكانتها وروعتها وسحرها وتميزها الذي يتيح للقارئ أن يبحر معه مطمئنا مؤمنا بدخول محراب الحب والجمال والإبداع بين رؤى الدلالات والرموز وبين تجليات الحوار والدراما الفكرية الروحية الحسية خاصة الحوار الذي دار بين الشابة والشمس ، إنها حركة شعرية فعلية بين الإنسان والكون تتخللها حركة زمنية ومكانية يتحرك خلالها الشاعر بحوار داخلي ذاتي ليتجلى الطريق السليم نحو قناديل قدسية الإنسان والكون ثم الخلاص والحرية الروحية ، استطاع الشاعر” إبراهيم يلدا ” أن يجمع الأشياء على مسرح الزمن الشعري في رؤى غنية وبتصرف جميل نحو الارتقاء والإحساس بالوجود والحرية والإبداع .
************************************
الرؤيا الإبراهيمية بين الموت والميلاد الجزء الثاني طبع في أمريكا وفي مدينة
Des Plaines
دسبلين ،،، الينوي،،،، ,في مؤسسة
Press Teck .. بريس تيك . 2018 م