كل ريادة فكرة، أو رؤية. هذه الفكرة لم تخطر للبريطانيين أو الفرنسيين الذين خبروا الشرق الأوسط ورسموا خرائطه، بل لشقيقين من آخر الأرض في نيوزيلندا: نورمان وجيرالد نيرن. وبعد نهاية الحرب الأولى، قررا الاستثمار في الصحراء السورية بدل العودة إلى أكبر مرعى في العالم. وسوف يحاولان بدء عصر جديد في دنيا النقل؛ بدل قوافل الإبل، سيارات حديثة تعبر الطريق من دمشق إلى بغداد، أو العكس.
ولكن كيف؟ على أي طرق والرمال تملأ الدنيا في كل اتجاه؟ دع هذه السيارة الغريبة تفعل ما تفعله الناقة العاقلة: ترسم هي طريقها وتحفظها غيباً. عام 1923 بدأ الأخوان نيرن شركة النقل الأولى من نوعها في العالم العربي؛ تحمل الناس والبريد والذهب بأسرع كثيراً من قوافل مئات السنين السابقة.
بدأت نيرن في سيارات أميركية عادية (كاديلاك وبويك)، وتطورت إلى باصات خاصة بالشركة، مزودة بخزانات المياه والمؤن والوقود. وكانت القوافل السيارة تعاني ما عانته القوافل الحادية من قبل: قطّاع طرق وضياعاً وطقساً رديئاً. وسرعان ما أصبح من مسافري الشركة عدد من مشاهير المرحلة: غيرترود بل، وجون فيلبي، والرحالة فريا ستارك.
وتوسعت أعمال الشركة وخطوطها، وامتدت إلى بيروت. وصدرت إعلانات تخبر الإنجليز أن الرحلة من لندن إلى بغداد ودمشق أصبحت تستغرق عشرة أيام بدل عناء الشهر الكامل. واجتذبت الإعلانات الكاتبة الشهيرة أغاثا كريستي، فقامت بالرحلة لتدوِّنها في سيرتها. وبدأت شركات منافسة في الظهور، ومنها شركة ألفرد وفرنسيس كتانة (وكلاء فولسفاغن وأودي الآن). وعرضت شركة كتانة جاذباً إضافياً: المرور في تدمر وتأمل آثارها المبهجة.
على خط الصحراء، لم يعد يمر الناس والبريد فقط، صار يمر أيضاً السلاح والمؤامرات. وما إن خرج الاستعمار البريطاني من العراق، والفرنسي من سوريا، حتى طمح البلدان إلى الوحدة، طبعاً وحدة يحكم فيها أحدهما الآخر. دامت الوحدة السورية – العراقية عبر الحدود أقل بكثير مما دامت الوحدة المصرية – السورية من فوق الحدود.
جواً وبراً تبادل الوحدويون الانقلابات والاتهامات والمحاكمات والإعدامات. وأغلقت الطرقات والحدود إلا في وجه السلاح والإرهاب والمتفجرين والمفجرين. غطت خريطة النقل في نيرن نصف المدن العربية على الأقل، وبينها القدس وحيفا. وشكراً للأخوين النيوزيلنديين، فقد كان مشروعهما أهم خريطة وحدة عربية عملية، يربح فيها الجميع.