عندما اقتحمت «داعش» الموصل وأطلقت تهديداتها باحتلال بغداد، لـ«تصفية الحسابات»، أعادت وضع السنّة في بغداد إلى ما كان عليه من عام 2006 إلى 2007. عادت التهديدات بالقتل والرسائل تحت أبواب منازلهم تطلب منهم المغادرة أو الموت. قال أحد العراقيين السنّة لمحطة «إن بي سي»: «إنه تأثير الدومينو، تقتل (داعش) الشيعة هناك، فتقتل الميليشيات الشيعية السنّة في بغداد. السنّة هنا يعيشون في قلق مزمن. ما يجري الآن نسخة مما وقع عام 2006».
«داعش» في الموصل والشمال تسببت في تحويل السنّة إلى لاجئين. ليس هناك من شيعة كثر في تلك المنطقة. اعتمدت «داعش» على تدمير المقدسات للآخرين، وهذه استراتيجية لإبعاد السكان المحليين، وبمجرد أن يرى هؤلاء أن المؤسسات السنية والشيعية والصوفية القائمة والمسيحية قد تدمرت، سيزداد عدد الأعداء المحليين لـ«داعش».
كان أمرا لافتا أن يتعرض غرب العراق وشماله لتمرد شعبي من دون أن يعترف نوري المالكي بالأخطاء المذهبية التي اقترفتها حكومته، إلى درجة أن المحليين شعروا بأن «داعش»، رغم مساوئها، أفضل من حكومة المالكي. لكن هناك دلائل على أن الناس في المناطق بدأت تراودهم أفكار أخرى، إنما المهم ألا يكون المالكي يراهن على الوقت وعلى انقلاب سنّة المناطق على «داعش»، كي يعود إلى الممارسات المذهبية نفسها.
يجب ألا يقلل من فاعلية ما فعلته «داعش»، وفي الوقت نفسه يجب ألا نبالغ بأهمية وقع أفعالها. إنها مجموعة إرهابية، أقدم زعيمها وبطريقة عبثية على إقامة خلافته. لا أحد في القاهرة أو في الرياض أو في جاكرتا، حيث الكثافة والثقل السنيين، ينظر إلى هذه الخلافة بطريقة جدية، كما أن قلة تراهن على أن أبا بكر البغدادي سيبقى على المسرح لوقت طويل. هناك 10 ملايين دولار جائزة لرأسه، وأسلوب «داعش» بفرض السيطرة عبر القتل الجماعي سيرتد لاحقا عليها حتما.
حقق نجاحات لافتة في الأسابيع الأخيرة، وصار قوة يحكى عنها، إنما تعارضه روسيا، والسعودية وأميركا وإيران وأوروبا الغربية والحكومة السورية، ثم إن حلفاءه يشعرون بخجل التحالف معه. كل هذا يشير إلى أن كفته لن تبقى راجحة أو رابحة.
سرّع في ظهور «داعش»، إضافة إلى أساليبها الوحشية والإرهابية، «زواج الملاءمة» الذي عقده مع الذين مارست عليهم حكومة المالكي التعسف والظلم والتهميش. لكن مهما كانت مظالم الطرف الآخر في هذا «الزواج»، فإنه لا يشارك أهداف البغدادي. طالبان قبله أخذت أفغانستان وسيطرت على كابل وفيها مليونا إنسان، وأعلنت الإمارة الإسلامية، ونصّبت الملا عمر نفسه خليفة، ولم يبق شيء من ذلك.
قد يكون أبرز ما سرّعت به «غزوة داعش»، وإعلان البغدادي أنه ألغى حدود سايكس – بيكو، هو العودة إلى اقتراحات تخفف من حدة التوترات المذهبية في العراق. هناك أيضا شعور عام بأن المالكي يجب أن يغادر. هو راهن في كل الحالات على القضاء على أي دور وربما وجود للسنّة في العراق. حتى الأميركيون والإيرانيون الذين لديهم الكثير ليخسروه في العراق، يشتركون في القناعات بأن المالكي هو المسؤول. أميركا تريد حكومة شيعية بمشاركة نوعية من قبل السنّة والأكراد. إيران تريد حكومة شيعية تستطيع أن تحجم انتفاضة الأطراف الأخرى.
لكن على خلفية عدم الاستقرار المتزايد في العراق وسوريا أيضا، بدأ واضعو السياسات برسم الخطوط العريضة لمرحلة ما بعد سايكس – بيكو، وكثر الحديث عن ترتيبات سياسية جديدة تعكس التركيبة العرقية والدينية في المنطقة، وتتضمن إمكانية تقسيم العراق وسوريا إلى دويلات سنية، وشيعية وكردية. في واشنطن، وفي ظل معظم السيناريوهات التي تجري مناقشتها، هناك افتراض بأن الولايات المتحدة يجب أن تلعب دورا قياديا في التخطيط لبنية سياسية جديدة في الشرق الأوسط، وأنه ليس من خيار أمام الأميركيين سوى استخدام قوتهم العسكرية والدبلوماسية لتأمين أسس النظام الجديد. لكن إذا نظرنا إلى أرض الواقع في العراق وسوريا، نلاحظ عدم وجود دلائل على أن السنّة والشيعة الذين يقاتلون هناك أو اللاعبين الآخرين مثل الأكراد مع القوى الإقليمية الأخرى الداعمة، قد تعبوا وعلى استعداد لعقد صفقة في وقت قريب. بعض الأوساط في واشنطن تستعيد المفاوضات التي أدت إلى توقيع اتفاقية دايتون التي وضعت حدا لحرب البوسنة وصربيا، علها تكون مثلا لاتفاق بين السنّة والشيعة والأكراد في العراق وسوريا.
ديفيد إغناتيوس، الكاتب المخضرم في صحيفة «واشنطن بوست» والمقرب من البيت الأبيض، اقترح عقد مؤتمر شبيه بمؤتمر فيينا (بعد حروب نابليون اجتمع كبار أمراء وزعماء أوروبا لتحديد حدود أوروبا على قاعدة لا غالب ولا عقوبات. بدأ المؤتمر في سبتمبر/ أيلول، 1814 واستمر 100 يوم)، يجمع اللاعبين الأساسيين حول طاولة للبدء في تأطير هيكل أمني جديد للمنطقة، على أن يجلس حول الطاولة المملكة العربية السعودية، وإيران، وتنضم إليهما الولايات المتحدة والدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن إضافة إلى تركيا ومصر.
المشكلة هي أن الأطراف المتصارعة تعتقد أنها قادرة على الحسم العسكري، وبعد ذلك تفكر في إتمام صفقة بين «غالب» و«مغلوب». يضاف إلى ذلك أن هناك الكثير من اللاعبين الإقليميين انجذبوا إلى هذه الصراعات بين الحكومات والإثنيات والمذاهب والعشائر، حيث التحالفات تستمر في التحول، كما أن أبا بكر البغدادي ليس ولن يكون نابليون بونابرت، ولا يبدو على السنّة أو الشيعة الاستعداد لتقديم أي تنازلات، ثم إن خطوط التماس بين مقاتليهم تتغير باستمرار، وليس واضحا ما إذا كانت واشنطن قلقة مما يحدث في العراق وسوريا. هي تتدخل عسكريا إذا ما تهدد الأردن.
الحروب المذهبية هذه أنتجت مشكلة كبرى وهي مشكلة اللاجئين، وهذا يدفعنا إلى التفكير في مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، لكن «وظلم ذوي القربى أشد مضاضة… على النفس من وقع الحسام المهند». وإذا كان الأميركيون والغرب والقوى الإقليمية يحاولون منذ أكثر من 60 عاما بحث أين يجب أن ترسم الحدود بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مع عدم وجود اتفاق حول حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، فمن المحتمل جدا أن تنهمك هذه القوى في السنوات الـ60 سنة في تجارب لا نهاية للبحث عن خطوط حدود للشيعة والسنّة والأكراد. أيضا إن محاولة تأطير الوضع القائم في دول مستقلة بدلا من تعديل حدود سايكس – بيكو، يمكن أن تشعل حروبا إقليمية كثيرة ومتعددة، تكلف كل المعنيين المباشرين وغير المباشرين الكثير من المال والأعتدة والأرواح.
في العشرين من هذا الشهر تأتي الذكرى الأربعون لعملية تقسيم قبرص. يتذكر لاكيس زافاليس، من شمال قبرص، أنه كان قائد كتيبة من عناصر الحرس الوطني، عندما تلقى أمرا بالانسحاب المؤقت من موقعه الأمامي (صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية – 6 من الشهر الحالي). كان ذلك قبل 40 عاما حيث بدأت تركيا عملية «اتيلا»، وهو الاسم الذي أعطته لغزوها قبرص. احتلت القوات التركية ثلث الجزيرة (قبرص التركية) حيث يوجد خمس السكان فقط. قبل ذلك الغزو كانت ميليشيات القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين تقوم بعمليات ذبح جماعي متبادل بين الطوائف ما بين عامي 1963 و1967 (مراجعة لما وقع في الموصل وقبلها تظهر خيوطا مشابهة لذلك الوضع).
لذلك يرى بعض المراقبين السياسيين أن الأفضل أن تسعى واشنطن، إذا استطاعت، لوقف إطلاق نار مؤقت يمكن أن يخدم كوسيلة للتعايش السلمي، على أن تراجع تجربة تقسيم جزيرة قبرص كمثال أفضل لما بعد سايكس – بيكو. لكن هذا يحتاج إلى قوات أممية تفصل بين المقاتلين وتثبت وقف إطلاق النار. بعد تسع سنوات من الغزو التركي عام 1974، أعلنت أنقرة الجزء الشمالي من الجزيرة «الجمهورية التركية لشمال قبرص». منذ ذلك الحين ما زال القبارصة اليونانيون يطالبون بكل الجزيرة، والقبارصة الأتراك باعتراف العالم. لكن، لمدة 40 سنة، توقفوا عن قتال بعضهم بعضا، والجزء اليوناني انضم إلى المجموعة الأوروبية، في حين أن الجزء التركي مزدهر اقتصاديا وسياحيا.
في حالة العراق، كما يقول أحد المراقبين، فإن الدولة الكردية صارت موجودة بالفعل، ويمكن للولايات المتحدة وتركيا المساعدة في تخفيف بعض المشاكل المتفجرة، كما يمكن لإيران المساهمة في تحقيق بعض الاستقرار في الدولتين الشيعية والعلوية في العراق وسوريا بدل التحريض، أما السعودية فإن دورها ضروري لحماية المناطق السنّية في كل من العراق وسوريا.
الواقع الذي فرضته هذه الأزمات وما انبثق عنها من بشاعات يعرقل إيجاد حلول نهائية، وقد تساعد أنصاف الحلول على كبت الأمراض المذهبية.
نقلا عن الشرف الاوسط