محمد البدري
لم تنطلي فكرة زيارة رئيس مصر بعد الثورة لايران علي انها تقاربا بين ايران الصامدة والمتصدية للمشروع الصهيوني الامريكي الذي ظلت الشتائم له تتردد في فضاءات العرب دون احراز اي مكسب لاي وطن من اوطان المنطقة، فالزيارة كانت مبرمجة سابقا كونها ضمن برامج منظمة عدم الانحياز. ولولا ثورة المصريين لكان مبارك هو الحاضر هناك. وليس التأكيد في مقدمة زيارته علي عدم شق صف المسلمين بين سنة وشيعة الاعضاء في المنظمة من دول الاسلام سوي دعم للسعودية في مواجهه الالتفاف الشيعي في العراق وجنوب لبنان وتاييد حماس ثم محاولة احتواء الثورة السورية لصالح النظام السوري وليس لصالح الثورة. ولولا زيارة مرسي للسعودية مرتين متتاليتين كاول زيارات له الي عواصم اخري لكان للمواطن المصري او العربي ان يعتقد ان لمرسي موقفا ثوريا ضد النظم المحافظة في المنطقة. ولولا انتماء مرسي لجماعة الاخوان وهي جماعة محافظة، تسعي لتحقيق مشروع عفي عليه الزمن مهما اقسم قادتها ومرشدها علي عكس هذا الطرح، لكان ممكنا ان تشوب مرسي بعضا من الثورية التي ظهرت عندما وقف مع الثورة السورية وابدي نوعا من الغضب ومطالبته لرئيس سوريا بالتخلي عن السلطة توافقا من نظام الامبريالية العالمية.
فلا احد يمكنه الجزم بان مرسي هو رئيس ثوري تتناسب افعاله مع مطالب ثوار التحرير خاصة وانه لم يتخذ اي قرار ثوري منذ توليه السلطة سوي احالة من حموا شباب الثورة من بطش مبارك ورجال امنه في واقعة احالة المشير طنطاوي ورئيس اركان الجيش للتقاعد!!! والتي شاع مؤخرا انها اتفاق مسبق بينهما برعاية الراعي الكبير للمنطقة برمتها.
فعندما خرجت وسائل الاعلام المصرية التي لم تختلف في اداءها كثيرا عن زمن مبارك لعقد مشابهه بين مرسي وعبد الناصر فإن ما فاتهم ان الظروف برمتها باتت مختلفة وان خرائط المنطقة تغيرت ومناهج التفكير تبدلت. بل ان هناك قوي كانت من الضعف والهزال زمن الستينات فاصبحت الان ديناصورية ماليا وانخفض مستوي عقلها السياسي الي ادني من عقول القشريات. وهو ما يكبل آفاق الفكر عند رئيس مصر الحالي (الجاصل علي دكتوراه في فيزياء المعادن) إذا ما اخذنا في الاعتبار انه سيراعي التوافقات العقائدية قبل اي مصالح اخري بحكم الارضية العقائدية لتلك الدول ومثيلتها الاخوانية. لكنه ولمقتضيات الرئاسة لدولة ثقيلة التاثير علي العالم بكونها مصدرا لكل خرافات الاديان وبين مراعاته للمؤسسة التي اتي منها ويقودها مرشد محافظ الفكر يجعله متجانسا مع نفسه لولا الزعامة التي يحاول اكتسابها كلما بدي له شبح زعامة عبد الناصر وهيبة طلعته أو السادات بانجازه اما اسرائيل (بعبع العرب) التي يتمني كل حاكم عربي أو اسلامي الحصول ولو علي قدر يسير منها. الرئيس مرسي لن يسني ان عبد الناصر كان عضوا بالجماعة ولن ينسي ايضا انه الذي مرغ جباه المصريين في التراب. فباتري اي وجه منهما يريده مرسي ان يرتديه وهو العليم بانه كان لاعبا احتياطيا وليس رئيسيا في سباق الرئاسة؟
لكن دعنا من قدرات الرئيس مرسي الهشة والتي ما خفي منها اعظم مما هو معلن. ففي التعامل مع القوي الاقليمية سيكون التردد والارتباك صفة اساسية فيها، فالانتماء للعرب يولد جينات النفاق والكذب. فما بالنا والقوي العالمية الكبري التي تحتاج الي القوة وصلابة الموقف علي قواعد من الاقتصاد القوي والبني الاساسية العميقة الجذور بالحقيقة وليس بالخرافة والدين. خاصة لو اخذنا في الاعتبار انه تربي في بيئة تتطلب الانصياع والطاعة لمن هو اعلي واقوي. ونشأ في تنظيم دولي تشرف عليه نفس القوي العالمية التي لو حاول مرسي تقليد عبد الناصر في تعامله معها لارتدت عليه بافدح مما تعاملت هي مع عبد الناصر. مرسي عليم بذات الامر وهو ليس غافلا عنها، اضافة ان مرشده في التنظيم يعلم هذا الشان علمه باسماء ابنائه. فرؤوس الاموال والاستثمارات والبنوك التابعة للتنظيم الدولي للاخوان ليست في مناي عن القوي العالمية، بما فيها المافيا وتجارة السلاح، بل تحت رحمتها مباشرة. وربما لهذا السبب حاول مرسي الظهور بمظهر البطل القومي علي حساب من لفظتهم الامبريالية الامريكية وكانه استثمار سياسي مجاني لن يكلفه شيئا. لهذا فإن اي تماس من اي نوع مع اسرائيل ليس سوي تحاشي تلوث السمعة أو مجابهة القوة والتي ستكشف مدي كفاءة مرسي وتنظيم الاخوان كامتحان حقيقي لهم امام شعوب المنطقة.
كان ظهوره التالي في الجامعة العربية وكانه يحاول احياء الموتي فهو الاعلم بمدي عجز هذه المنظمة. فلا هو ولا اعضاء الجامعة يعيرون العروبة اي اعتبار فهو ابن مشروع الخلافة الاسلامية وليس العنصرية العربية. فصدي عقيرته فيها تلاشي باسرع مما تلاشي رفرفات جناح الفراشة. وفي مقابل موتها (الجامعة) فهو يعلم مدي نجاح اموال اعضائها النفطيين في ادارة السياسات داخليا وخارجيا بها وفي صياغة قرراتها التي لا تسعف احدا ولم تنقذ طفلا في اي بلد عربي من بطش حكامها او بطش الاعداء، هذا من ناحية ومن ناحية أخري مدي تحالفهم ودفاعهم عن الفساد والفاسدين في اي مكان في العالم. وهنا يكمن السؤال للرئيس المصري لما بعد الثورة كيف سيقاوم اغراءات من زارهم في بداية توليه للسلطة ومن جاءه ليضع عنده وديعة بملياري دولار وهما اكثر الدول انحيازا لامريكا واسرائيل، عدوة العرب والاسلام حسب قول اعضاء الاخوان المسلمين في قطاع غزة؟ !!!
من السهل إذن معرفة السبب في وقف كل الحملات الدعائية ضد امريكا واسرائيل منذ تولي الاخوان السلطة في مصر وحتي الان والتي كانت تلوكها السنة اعضاء مكتب الارشاد طوال عصر مبارك مزايدة عليه حتي يقضي الله امرا كان مفعولا بالانتخابات التي اوصلت مرسي لرئاسة مصر بنسبة ضعيفة لعدد المصوتين وبنسبة لا تذكر في مواجهه مرشح مبارك؟ وكذلك التكتم علي ما يجري في سيناء من اعمال ارهابية شارك فيها بعضا ممن افرج هو عنهم بعد توليه الرئاسة ومعهم فلسطينيين من قطاع غزة.
في زمن عبد الناصر طالت وصلات الردح لامريكا واسرائيل باكثر مما ينبغي ولم يطور الرجل موقفا يتفق واهداف من أتوا به الي السلطة في انقلاب 1952. فقد كان مطلوبا منه عمل سلام بينه وبين اسرائيل حسب مذكرات رجال الادارة الامريكية وقتها، لكنهم وكاي ادارة تتخذ من الاكاديميين ومؤسسات البحث قواعد لهم في التعامل مع العالم فان البديل الذي لم يألوا جهدا في اخفاؤه كان دائما في متناولهم بعد تخلصهم منه. هكذا تولي رؤساء مصر (السادات ومبارك) أمور البلاد وبنفس النهج وبذات الفلسفة الامريكية بالتتابع منذ وفاة الاول الي خلع الثالث. فمن يصل الي نهاية مشواره عليه بالخروج من السباق ويسلم الرئاسة لمن تقرر ان يخلفه. فالوظائف الشاغرة في النظام العالمي لا مكان لها لان هناك ما ينبغي عمله دائما. فمهما اختلفت ادوات التغيير فان الهدف ثابت وهو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
بعد انقلاب 1952 لم يعد هناك من مخزون بشري في مصر يمكنه افراز سياسيين في قامة من كانوا يحكمون في الفترة الليبرالية قبل الانقلاب. حل الاحزاب وفك التنظيمات ومحاكمة السياسيين ومطاردة القيادات النقابية مع الاحلال المستمر بضباط (مديوكر) بحكم تعليمهم وانتمائاتهم الطبقية الي حد لم يعد هناك سوي ذات التنظيم الذي انشأه الانجليز بعد الحرب العالمية الاولي وتبناه الامريكين بعد الحرب الثانية واوصلوا بعضا من اعضائها الي سدة الحكم، واقصد الاخوان المسلمين. فالموقع الوظيفي في مصر مشغول دائما وليس هناك فراغ يمكن ان تقلق بشانه الادارة العالمية للكون من علي كرسيها الذي وسع كل شئ في سدرة المنتهي بالبيت الابيض. ولن تجد مصر نفسها ولفترة طويلة قادمة احدا ترضي عنه الادارة الامريكية من خارج التيارات الدينية بكل تصانيفها. ففي طابور الوظائف يوجد حزب النور السلفي وآخرين يجري اعدادهم وتاهيلهم علي قواعد من الكتاب والسنة بفهم سلف الامة برعاية امريكية وصهيونية حسب طبائع الامور منذ انشات بريطانيا العظمي جماعة الاخوان المسلمين.
لم يتغير شئ إذن بعد ثورة يناير 2011 فنفس التنظيم يدير شؤون البلاد أما بحذاء العسكر ودعايته القومية وأما بلحية الداعية وخلافته الاسلامية. وهنا ينبغي طرح السؤال الاكثر الحاحا عن الطوعية والهدوء الذي خرج به مبارك ثم خرج من بعده قادة المجلس العسكري بنعومة أكثر. فهل البيت الابيض هو مقر المرشد العام الاعلي لتنظيم الاخوان المسلمين وما ذاك الصرح الضخم الذي كان في منطقة الروضة، حيث مقر المماليك البحرية قديما، ثم انتقل الي المقطم حديثا ليس سوي فرع للمقر الاصلي ويقبع به احد الموظفين ذوو الرتب العالية في التنظيم بهدف ادارة الفرع؟
في التبادل السلعي وفي التجارة، وبما للهيمنة الراسمالية من تامين، تجري عملية التسليم والتسلم بهدوء وسلاسة طالما ان السلع مشروعة والاتفاق ساري المفعول والاسواق متعطشة للاستهلاك والماكينات في موقع الانتاج تضخ كغيث من السماء وببركة من قوة العمل. وهل هناك من شرعية باكثر من شرعيات الثورة سياسية كسلعة جري عليها اتفاق وتنتظرها جماهير بفارغ الصبر منذ عقود واقيمت لها موالد واحتفالات ونبوؤات كلها بامل الا يكتشف فيها جمهور السيرك السياسي الالاعيب والتآمرات الصادرة كارشاد من المقرات الرئيسية الي مقرات الفروع.
فإذا كان للسذج أن يعتقدوا أن ثورة يناير 2011 ستستعيد بها مصر دورها الذي توهموه في ستينات القرن الماضي ضد الهيمنة الاميركية فان الهيمنة الاميركية احرزت نصرها مرة أخري بصعود جماعة الاخوان المسلمين وتسليمهم السلطة كتسليم الشقق علي المفتاح دون اي اعتبار لمجلس عسكري او جيش أو حتي شعب. هكذاعدنا الي لحظة 1952 بلحية وبعقل ديني تجاري. ولهذا آثر الرئيس مرسي الصمت وعدم ذكر اسرائيل باي شكل والاقلال بقدر الامكان من الحديث عن امريكا ووثائق كامب ديفيد لانه علي علي يقين ان اي تشاكل مع اسرائيل وامريكا سيصل في منتهاه الي الدبابة والمدفع بينما حكم الداخل بالايات البينات والدعوات الصالحات والبسملة والحوقلة في اللحظات الحرجة. لكن ما فات الرئيس مرسي ان هناك من ينتظر وما بدلوا في عقائدهم تبديلا من المتهورين واصحاب نفس مشروع الخلافة وعلي استعداد للانطلاق من قراءة القرآن الي امتطاء صهوة الدبابة دون ادني اعتبار للقواعد والظروف. وهذا بالضبط ما جري في سيناء اكثر من مرة ووصلت زروة احداثها في شهر رمضان الماضي. فلا يهم من المقتول فالجميع في عرف هؤلاء كفارا لا يستحقون سوي القتل اسرائيليين كانوا أو مصريين، يهودا كانوا او مسلمين. الاهم من مجرد وجودهم انهم علي قائمة الانتظار في اللوح المحفوظ بالبيت الابيض.
فعندما يحاول البعض تفسير ما جري منذ الثورة وحتي تولي الرئاسة في مصر بانه تحالف العسكر والاخوان، فان الاحداث قد اثبتت صدق تفاسيرهم رغم أن شعار الثورة ” الشعب يريد إسقاط النظام” وما بدي بعده من انبساط للاسارير وارتياح لدي الثوار هو ليس سوي كابوس أشد من كابوس 1952 وكأن د. جيكل جري استبداله بمستر بهايد برعاية امريكية. فاسقاط النظام لا معني له الا اسقاط الاخوان بكل ارديتهم والتي يختبئ تحتها جماعات سلفية حاليا وبرعاية امريكية ايضا لعلمهم ان العمر الافتراضي لكل الماكينة الاخوانية قد ولي وليس هناك من امكانية لتجديد الدماء فيه لان الهدف الاكبر وهو الحفاظ علي النظام الوهابي يستلزم السلفية بكل انواعها وليس الاخوان والعسكر المدجنين دائما.
هنا يصبح العبئ علي القوي المدنية اكبر واشد قسوة لان اسقاط جيكل يستلزم قتل هايد، ولن يساعدهم لانجاز المهمة الا فشل كل الفصائل من ذوات اللحي، قصرت أم طالت، في حل مشكلات المجتمع التي تفاقمت بشكل اعنف مما كانت عليه قبل الثورة. فالقوي العالمية حجمت اهل المنطقة من بناء مستقبل لابنائها بتحقيق الفشل بوصاية عسكرية لمدة 60 عاما والان يكملون مشوار تعطيل اي محاولة بناء بالوصاية الدينية، وتعاونهم قوي عربية هي اصل الاسلام الذي ترعاه الولايات المتحدة. هكذا تبدو المنطقة عارية أمام جهاز الاشعة السياسي وبما تحمله من آفات وميكروبات ضمن صفائحها وكريات دمها الحضارية والعقائدية، وكأن التاريخ يعيد نفسه في دوائرضيقة لعدة عقود زمنيا مثلما تكرر قديما في دوائر اكثر اتساعا في نظم الخلافة التي استمرت دوائرها متسعة لمئات السنوات. فهل نصدق الاسلاميين ورجال الدين وبعض مثقفي القومية واليسار بان الغرب لا يعرف شيئا عنا نحن الشرقيين ام انه يعرف تكويننا الجيني سياسيا واجتماعيا وثقافيا.
في زمن الديموقراطية لا وصاية أو رقابة او إرشاد من قبل السلطة علي الشعب، انما العكس هو الصحيح حيث يسقط الشعب السلطة بطرق مدنية سلمية مشروعة لها اساسها في الممارسة الديموقراطية. وهنا يكمن تناقض جوهري واساسي بين سلطة الاخوان وبين ما يتمناه مجتمع بعد الثورة. فما يجري لتشكيل لجنة وضع الدستور سوي تجنب تفجير هذا التناقض بين طموحات شباب الثورة وبين اهداف القيادة الجديدة ذات الدماء القديمة. فليس غريبا إذن ان يسعي تيار اللحي في اللجنة وهو اغلبية لمحاولة الذهاب الي ابعد مدي في مطالبه الدستورية بتطبيق احكام الشريعة اسكاتا لاصوات شباب الثورة حتي يستقر النظام العالمي المائل لصالح البعض دون البعض الاخر. وكذلك لما يمكن تمريره ويصلح لبقاء النظام الديني (الاسلامي تحديدا) اطول فترة ممكنة. فمطالب عودة الرقيق تحت مسميات ناعمة والتجارة بالاناث ومضاجعة الاطفال ودفع الزكاة قانونيا استعدادا لفرض الجزية علي غير المسلمين دينيا كلها من مطالب التيار الاسلامي في اللجنة، وتصب بهدف الاقلال من درجات وعي البشر بذواتهم وفي مواجهه بعضهم البعض وتماسكهم الاجتماعي، لكن أغرب مطلب في تاريخ المصريين، لان مصر بلد العجائب، ما اقترحه البعض بوضع مواد لحماية الله بعدم التعرض للذات الالهية في بند حريات التعبير والابداع. فهل يدري مساطيل اللجنة ان اسم الله يذكر بغزارة مفرطة، عمّال علي بطّال، في لغة المصريين اليومية. يكذبون ويتحايلون باسمه ويستلهمون رضاه ورحمته علي الاموات والاحياء علي السواء ويطلبون منه الرزق ويخدعونه بكل انواع المعصية أم ان المقصود به الحماية للادارة العالمية للنظام التي تهيمن وترزق وتعز وتذل من تشاء. ولنا في الرئيس الحالي اسوة حسنة وفي المخلوع القابع وراء القضبان اسوة أحسن.