كامل النجار
يقول علماء سيكلوجية الأديان إن الخدمة الرئيسية التي يقدمها الدين للإنسان هي محاولة الإجابة على السؤال: ما معنى الحياة وما الهدف منها؟ والإجابة على هذا السؤال تقع ضمن محاور علم النفس الثلاثة، وهي
cognition, motivation, social life
أي الإدراك و التحفيز والحياة الاجتماعية. وحاجة الإنسان للإدراك أو الإلمام بما حوله وموقعه من العالم حوله كانت قد شغلت الإنسان منذ عشرات الآلاف من السنين. وقد حاول الإنسان البدائي فهم الحياة وإدراك أسرارها عن طريق خلق ميثولوجيا خيالية تتكون من قوى ميتافيزيقية غير مرئية إليه، ألبسها صفاته الجسدية وجعلها آلهة في السماء، خلقت العالم والإنسان. ولما كانت هذه الآلهة تحمل نفس صفات الإنسان الذي خلقها، فقد كانت تتشاجر وتتآمر على بعضها البعض ويقتل الخيرون منها الشريرين حتى يخلصوا العالم من شرورهم. ثم جاءت الأديان الإبراهيمية وسرقت هذه الميثولوجيا وطورتها وجعلت الخالق إلهاً واحداً متغطرساً يفعل ما يشاء، ولا يُسأل عما يفعل. وقد خلق هذا الإله المتغطرس شعباً يهودياً هو شعبه المفضل، وجعل بقية الناس
the gentiles
(الأميون) خدماً لهم. ثم جاءت المسيحية وعمت جميع العالم المعروف وقتها باستثناء الصين وأقاصي آسيا. المسيحية في البدء جعلت الناس كلهم أبناء الله وأوصتهم بحب أعدائهم وأن الله خلقهم ليكونوا فاضلين ولكي يساعد يعضهم بعضاً. ولكن بعد البداية المعقولة للمسيحية، دخل الإمبراطور قسطنطين مسرح الأحداث وأدخل السياسة في الدين بجعله المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. والسياسة إذا دخلت الدين أفسدته كما يفسد الدين السياسة. فقد انحاز الإمبراطور إلى أفكار الأسقف أليكساندر وتلميذه أناستاسيس ضد آريوس، وبذا بدأ مفهوم الأقانيم الثلاثة في المسيحية وانشقت الكنيسة إلى أرثودوكس وكاثوليك. وتشعبت آراء الكنيسة ولم تعد وصاياها تحل مشكلة الإنسان الأساسية، ألا وهي عملية الإدراك ومعنى الحياة. فظل الإنسان يبحث عن هذه الإجابة. وعندما كتب القس ريك وارن
Rick Warren
في عام 2002 كتاب
the purpose-driven life
بلغت مبيعات ذلك الكتاب أكبر رقم بعد مبيعات الإنجيل (كتاب سيكلوجية الأديان ص 13). فالناس في العالم الغربي، وبعد أكثر من ألفي عام من بدء المسيحية ما زالوا متعطشين إلى إدراك معنى الحياة ودورهم فيها. بالنسبة للإسلام فالأمر كان في غاية البساطة (وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدونِ). ولهذا السبب لا يزعج المسلم نفسه بالتفكير في مغزى الحياة، ولا يكتب شيوخ الإسلام كتباً عن مغزى الحياة، فهي بالنسبة لهم دار فناء لا هدف لها غير تحضير الإنسان إلى الحياة الأبدية في جنة الحور العين. فهل الأديان أفادتنا في المحور الأول، محور الإدراك؟
منذ بدء التاريخ وحتى نهاية القرن الثامن عشر لم يتقدم إدراك الإنسان تحت المظلة الدينية إلا خطوات قليلة متعثرة، تخللتها حروب عديدة باسم ذلك الإله المتغطرس. وعندما يعجز الإنسان مثلاً عن فهم لماذا أعطاه الله طفلاً جميلاً ذكياً أحبه كل الحب، وفجأة أصابه الله بمرض لا شفاء منه ومات الطفل بينما جدته التي بلغت المائة عام من عمرها وخرّفت ما زالت عائشة، يجيبه رجال الدين بأن الله يعمل بطرق خفية
God works in mysterious ways
. وطبعاً مثل هذه الإجابة لا تقدم ولا تؤخر في فهم المصيبة. ولكن في العقود الثلاثة الأخيرة طفر بنا العلم طفرات جبارة في طريق فهم كيفية نشأة الكون وما سوف يؤول إليه مستقبله. وترك لنا العلم موضوع معنى الحياة ليقرره كل إنسان بنفسه، سواء أراد أن تكون حياته منذورة لحماية البيئة أو لنشر السلام بين شعوب الأرض، أو أن ينذر حياته للإجرام وقتل الآخرين. ولهذا يقول الفيلسوف شارلز تيلور Charles Taylor في كتابه
Secular age 2007
(لا حاجة للإنسان إلى اللجوء إلى قوى ميتافيزيقية خارجية ليعرف معنى الحياة، وإنما عليه أن يعثر على ذلك من داخل نفسه التي هي جزء من الطبيعة.)
بالنسبة للمحور الثاني وهو التحفيز أي
motivation
فالأديان للأسف فعلت العكس وثبطت من همم الباحثين عن الحقيقة ومعنى الحياة. فموقف الكنيسة الكاثوليكية من العلماء والفلاسفة في قرون ما قبل التنوير موقف لا يشرف أحداً، وقد اضطر البابا يوحنا بولس الثاني أن يعتذر من العلماء لما أصابهم وأصاب العلم بسبب موقف الكنيسة منهم. وللأسف ما زالت الكنيسة الكاثوليكية تقف في طريق العلم في أشياء مثل محاربة داء فقد المناعة المكتسب
AIDS
. فمثلاً يقول الكاردينال الفونسو لوبيز، رئيس مجلس الفاتيكان لشؤون الأسرة (إن الواقيات الذكورية بها ثقوب ميكروسكوبية وضعتها الشركات المصنعة سراً حتى يتسرب منها الفيروس ويقضي على المؤمنين)
(God is not great, Christopher Hitchens)
ص 45. فأين التحفيز هنا لتحسين حياة العائلة الكاثوليكية الفقيرة التي تئن تحت وطأة الفقر وتزايد عدد الأطفال ومرض الايدز؟ ولم يكن الكاردينال في الفاتيكان هو الوحيد الذي قال بذلك. فالكاردينال أوبادو برافو من نيكاراجوا، وكبير أساقفة كينيا، والكاردينال عمانيويل وامالا من يوغندا، كلهم قالوا للمؤمنين إن الواقي الذكري ينقل الايدز (نفس المصدر ص 46). ولم نرَ الكنيسة الكاثوليكية تفعل شيئاً لتحفز مئات الآلاف من أطفال الشوارع في المكسيك ليتعلموا أو يفعلوا شيئاً يُحسن من أوضاعهم ويجلهم يفهمون دورهم في الحياة.
أما الإسلام فلم يأت بأي آية في قرآن يتألف من أكثر من ستة آلاف آية تحفز المؤمنين ليتعلموا أو يصنّعوا شيئاً، واكتفى بنصيحتهم أن يتأملوا في مخلوقات الله وفي آياته وفي الجبال والبحار. وأضاف الفقهاء مقولتهم الشهيرة (تأملوا في مخلوقات الله ولا تتأملوا في ذاته). والحديث الوحيد الذي يذكر العلم هو (اطلبوا العلم ولو في الصين) والمقصود بالعلم هنا هو علم القرآن والشريعة. حتى السؤال الذي هو مفتاح العلم قد منعه القرآن (لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم). وبالنسبة للتحفيز على العمل أو العلم فقد حث فقهاء الإسلام على قيام الليل وقراءة القرآن وحفظه وسياقة الناس إلى المساجد بالعصا كما يفعل موظفو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، وتوأمها الجديد في تونس. فإن كان الإسلام قد حفّز على العلم والعمل، فتحفيزه قد وقع على آذان صماء إذ أن حاضر المسلمين لا يكشف لنا غير الأمية والجهل والاكتفاء باستهلاك منتجات الغرب. أما أمراض الايدز والتهاب الكبد الوبائي فهي عقاب من الله للمسلمين الذين تخلوا عن دينهم. وموقف الإسلام من العلماء والفلاسفة لا يختلف عن موقف الكنيسة الكاثوليكية، فقد أحرقوا العلماء وصلبوا بعضهم وأحرقوا كتبهم، ثم قالوا لنا: اطلبوا العلم ولو في الصين
ونأتي الآن إلى المحور الثالث، وهو الحياة الاجتماعية. ركزت الأديان كلها على المرآة في موضوع الحياة الاجتماعية كون المرأة هي الأضعف جسدياً وبالتالي يمكن السيطرة عليها جسدياً وعقلياً. فرضت اليهودية على المرأة الحجاب وجعلتها نجسة وأقل من الرجل، وطلب يهوه من اليهود أن ينذروا أول طفل ذكر له إذ لم تكن له حاجة إلى البنات، كما قال إله القرآن (أله البنات ولهم البنون). ويطلب التلمود من اليهودي عندما يصلي الصبح أن يقول (الحمد لله الذي لم يخلقني امرأة) (المصدر السابق ص 54). وتبعت المسيحية اليهودية في عزل المرأة ومنعها من ممارسة منصب القسيس أو القيام بأي وظيفة دينية غير وظيفة الراهبة التي كانت تعمل قابلة للتوليد في أغلب البلاد المسيحية. وجاء الإسلام بثالثة الأثافي وجعل المرأة كلها عورة وناقصة عقل ودين. ونتيجةً لهذا الفكر الديني أصبح نصف المجتمعات معطلاً لا ينتج غير الأطفال.
الطقوس القديمة في القبائل البدائية كانت مهمتها الأساسية صهر الفرد في قبيلته أو عشيرته وتقوية ارتباطه بها، والتركيز على اختلاف تلك القبيلة عن غيرها. وتبنى رجالات الدين نفس الأيدولوجية وانقسمت كل ديانة إلى عدة طوائف يركّز كل منها على إبراز النقاط التي تفصلهم عن الآخر، والتشديد على أنهم الفرقة الوحيدة الناجية ومن خالفهم لا يتبع وصايا الإله الصحيحة. في خطاب من شهود يهوه المسيحية إلى فرقة إخوة بليموث، يقولون لهم (نحن الطاهرون والقلائل الذين اختارهم الله، وكل البقية ملعونون. فهناك أمكنة كافية لكم في جهنم، فنحن لا نريد ملكوت الله أن أن يكون مزدحماً). ومع أن الكنائس الثلاث الرئيسية: الكاثوليك والبروتستانت والأورثودكس تكفي لاستيعاب كل تعاليم المسيحية، إلا أنه لا تمر على المسيحيين سنوات بسيطة وإلا تظهر فرقة جديدة. فمنذ ظهور كنيسة المورمونز
Mormons
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ظهرت عدة مجموعات أخرى أدت إلى تقوقع أتباعها في معسكرات تفصلهم عن غيرهم من المسيحيين. فكانت هناك مجموعة تشارلي مانسون الذين جمعهم في مزرعة في مدينة جونزتاون وأقنعهم بشرب السم مع أطفالهم فماتوا جميعاً لأن العالم قد أصبح فاسداً لدرجة أنه لا يجوز لهم المشاركة فيه. وكانت هناك جماعة ديفيد كريش الذين تقوقعوا في معسكر واكو في في تكساس وخاضوا معركة عنيفة مع قوات الشرطة أدت إلى حرق المعسكر بمن فيه من أطفال ونساء. وفي عام 1984 أنشأ جوزيف دي مامبرو فرقة
The Solar Temple
في سويسرا وكان لها فروع في استراليا وكندا. رسالة هذه الفرقة كانت التحضير لمجيء يسوع الثاني ليخلص العالم من أشراره. وفي عام 1994، بعد أن تعشى اثنا عشر رجلاً منهم العشاء الأخير، انتحر جميع أفراد الفرقة في قريتين بسويسرا.
وهناك بعض الفرق المسيحية الغامضة مثل جماعة الايمش
Amish
في أمريكا. هذه الجماعة تعيش حياة ما قبل الثورة الصناعية فلا يركبون السيارات ولا القطارات ولا يستعملون التلفون أو التلفاز. لهم مدارسهم الخاصة ونساؤهم لا يعملن خارج المنزل. ويسمحون بتعدد الزوجات وزواج القاصرات. ونتيجة لتعاليم دينهم فإنهم لا يتزوجون إلا من نسائهم وبالتالي تنتشر عندهم أمراض وراثية كثيرة مثل الهيموفيليا التي تؤدي إلى نزيف متكرر، وكذلك مرض تورم العضلات
Muscular dystrophy
وهو مرض قاتل يصيب الأطفال. وكذلك أمراض تخزين الغذاء مثل
Gaucher’s disease
الذي يتلف الكبد والطوحال
(McKusick 1978).
أما الإسلام فحدث عن الفرق المذهبية فيه التي يصعب حصرها، بدءاً من الخوارج والمعتزلة والأشعرية والشيعة والفاطميين والعلويين والإسماعيليين والأحمدية والقدرية والسنة وغيرهم الكثير. كل فرقة من هذه الفرق كانت لها طقوسها التي تفصلها عن الآخر. كل هذا دون أن نتعرض للفرق العديدة في الهندوس والسيخ والشنتو والبوذية والديانات الإفريقية المحلية.
فبدل أن تجمع الأديان التوحيدية البشر على أساس أنهم جميعاً يعبدون نفس الإله، نجد أن رجالات الدين يعملون جاهدين على تفرقة الناس. فمثلاً نجد أن الحاخام الأندلسي موسى بن ميمون لم يذكر في كتابه “دلالة الحائرين” الأتراك، ولا السود، ولا الرعاة البدو لأن طبيعتهم مثل طبيعة الحيوانات العجماء
(God is not Great)
ص 65. بيما نجد أن سانت أوغسطين يقول إن تشتت اليهود في العالم وجعلهم رحالة هو عدالة إلهية بسبب قتلهم المسيح (نفس المصدر ص 250.) ونجد كذلك أن كنيسة
The Dutch Reformed Church
في جنوب إفريقيا كانت من دعاة الابارتايد في جنوب إفريقيا وفرضت على المسيحيين السود الصلاة في كنائس خاصة بهم وحرّمت عليهم دخول كنائس البيض.
فمن هذا العرض السريع يتضح أن الأديان قد فشلت في المحور الثالث، وهو تنظيم الحياة الاجتماعية للمؤمنين بها. فرغم هذا الفشل كيف يتسنى للأديان السيطرة على هذه الأعداد الغفيرة من البشر وفي القرن الحادي والعشرين، أي بعد أكثر من ثلاثة آلاف عام من ظهور الأديان الإبراهيمية؟
الجواب في رأي علماء سيكلوجية الأديان يرجع إلى سببين رئيسيين: السبب الأول هو وجود نوعية من الناس قابلة للإيحاء، والسبب الثاني والأهم هو الأدلجة أي غسيل الدماغ.
بالنسبة للإيحاء فهناك نوع من الناس، ربما بسبب تربيتهم كأطفال، أو بسبب جيناتهم، يميلون إلى تقبل الأفكار بسرعة خاصة إذا أتت من شخص ذي قوة أو منصب رفيع. ويظهر هذا جلياً في مسألة التنويم المغنطيسي. فالذي يقوم بالتنويم ربما ينجح في تنويم عدد بسيط من الناس أما الغالبية فلا يقعون تحت تأثيره. أما مصطلح “غسيل الدماغ” فمصطلح حديث كان أول من استعمله صحافي أمريكي اسمه هنتر كان يعمل عميلاً للسي آي أى في الصين وزعم أنه اكتشف اسلوباً حديثاً استعمله الحزب الشيوعي الصيني لتغيير الأفكار، فسماه
Brainwashing
. ويعتمد هذا الأسلوب على عزل الشخص في مكان منفرد ومحاولة استعمال الخداع معه وربما بعض الأدوية، وأخيراً استعمال الإكراه. وقد استعمل هذا الأسلوب شوكو أسهارا
Shoko Asahara
مؤسس جماعة أوم شريكو اليابانية التي فجرت قنابل غاز السارين السام في قطارات المترو اليابانية عام 1995. الجدير بالذكر هنا أن هذا الرجل البوذي استطاع أن يجند مهندسيين كيمائيين، بعضهم يقوم بالدراسات العليا في جامعات طوكيو. وقد استعمل معهم نفس الإسلوب الصيني الذي يتكون من إحضار مجموعات صغيرة من الناس وعزلهم في مجمع لا يتصلون فيه بأي شخص خارجه. ثم يقوم بتدريبهم على طاعته المطلقة وبعد ذلك يبدأ بتلقينهم مذهبه. وبعد استكمال تجنيدهم وتخرجهم يفرض عليهم عدم الاختلاط مع أي شخص لا ينتمي إلى مذهبهم. وقد استطاع أن يقنع هؤلاء المهندسين بانتاج غاز السارين السام ووضعه في قنابل ليقتل اليابانيين وبذلك يستعجل ظهور المخلص الذي سوف يملأ العالم عدلاً.
كل الجماعات الدينية تستعمل أسلوباً مشابهاً يبدأ في الطفولة في مدارس خاصة قد تكون مدارس تحفيظ القرآن أو مدارس الأحد في البلاد الغربية. وبالتدريج عندما يصل الطفل سن البلوغ يكون قد تشبع بالأفكار الدينية وبأنه يختلف عن بقية الناس ويحاول ألا يختلط إلا بمن ينتمي إلى مذهبه. وسوف يظل العالم مليئاً بالكراهية والحقد والقتل ما دامت الأديان تجند الأطفال.