عبدالله حبه – موسكو
يحتفل في روسيا الآن بـ ” عام بروكوفييف” بمناسبة ذكرى مرور 125 عاما على مولده. ان هذا الموسيقار الفذ (1891-1953) ثار مبكرا على الرومانسية في التأليف الموسيقى في مطلع القرن العشرين مع زميله ايجور سترافينسكي، وأعلن بدء مرحلة جديدة في التعامل مع اللحن والايقاع والنبرة والهارموني، لكنه مال الى ” الاعتدال” في هذا المجال بعكس الملحنين الآخرين من معاصريه وكوّن أسلوبه الخاص المميز له (“دومينانته بروكوفييف”). وحدث هذا في فترة صعود تيار الحداثة في الفن التشكيلي والادب والعمارة وظهور حركات “المستقبلية” و” الرمزية ” و”التكعيبية” وغيرها. وتعرض بروكوفييف إلى هجوم النقاد واوساط الموسيقيين، لكنه واصل هذا الدرب وتعرض للمنع والعزل لاحقا ايضا لدى اتهامه سوية مع شوستاكوفيتش وموسيقيين آخرين بـ” الشكلية ” في العهد السوفيتي. وألّف بروكوفييف الملحن وعازف البيانو وقائد الاوركسترا 11 اوبرا و7 باليهات و7 سيمفونيات و8 اعمال كونشرتو وعددا كبيرا من الاعمال الموسيقية الاخرى. وقد هرب من روسيا بعد ثورة اكتوبر 1917 لكنه عاد اليها في عام 1933 واصبح ممنوعا من السفر في عام 1936. ومارس نشاطه في اوروبا والولايات المتحدة حيث قدم في شيكاغو في عام 1921 اوبرا ” عشق ثلاث برتقالات” المستوحاة من حكاية للكاتب الايطالي كارلو غوتسي وكتب اللبريتو (النص المسرحي) المخرج المسرحي السوفيتي الشهير فسيفولود مييرهولد. كما قدم بروكوفييف اوبرا ” المقامر ” المستوحاة من رواية دوستويفسكي في بروكسل عام 1929.
مارس بروكوفييف التأليف الموسيقي منذ طفولته بتشجيع من والدته التي كانت تجيد العزف على البيانو. وكان يعيش مع والديه في قرية سونتسوفكا بمقاطعة دونيتسك الاوكرانية . وألف في سن التاسعة اوبرا ” العملاق” واوبرا ” في الجزر المهجورة” بالاضافة الى الاغاني والمقطوعات الأخرى. وعندما رأى والداه تفتح موهبته الموسيقية، ارسلاه في عام 1904 الى العاصمة سانكت-بطرسبورغ حيث إلتحق بالكونسرفتوار هناك وتتلمذ على يد ريمسكي- كورساكوف احد عمالقة جماعة “القبضة الجبارة” الذي أخذ منه الكثير في أساليب التلحين. علما انه درس في عدة اقسام منها العزف على البيانو والتلحين ونظريات الموسيقى وبرع في كل فرع منها . ومنح جائزة انطون روبنشتين الذهبية أسمى جائزة موسيقية في روسيا آنذاك.
في اواخر عام 1917 قرر بروكوفييف مغادرة روسيا الى امريكا هربا من الفوضى الضاربة اطنابها في البلاد بعد ثورة فبراير عام 1917 وثورة اكتوبر التي اعقبتها. وفي 7 مايو 1918 استقل القطار العابر لسيبريا ومن ثم توجه الى طوكيو وانتظر شهرين للحصول على التأشيرة الامريكية. وبدأت مرحلة الهجرة والتنقل بين امريكا واوروبا حيث حققت أعماله الموسيقية نجاحا كبيرا بدعم من سيرجي دياجيليف منظم ” المواسم الفنية الروسية ” في باريس.
يُعد بروكوفييف من رجال الثقافة الروس الذين اعتبروا حياتهم الابداعية مرتبطة بأرض الوطن ولا يمكنهم العمل طويلا في المهجر . ولهذا عاد الى روسيا في عام 1936 حيث عمل استاذا في كونسرفتوار موسكو . وقد غادر البلاد عدة مرات فقط لتقديم حفلات موسيقية في الخارج بموافقة السلطات السوفيتية. علما ان هذه السلطات اعتقلت زوجته الاسبانية لينا حيث انها لم تعترف بزواجه منها وفق قوانين دولة أخرى ، وارسلت الى معسكرات الاعتقال في عام 1941 ثم اخلي سبيلها وأعيد اليها الاعتبار في عام 1956 وغادرت البلاد وتوفيت في بريطانيا في عام 1989. وتزوج بروكوفييف في عام 1948 ميرا مندلسون بصورة رسمية ورافقته في العيش في البيت الريفي حتى وفاته في 5 مارس عام 1953 . وشاء عبث الاقدار ان يموت بروكوفييف في اليوم نفسه الذي توفي فيه الزعيم السوفيتي يوسف ستالين. وبينما كان مئات الآف الناس يودعون جثمان ستالين في قاعة الاعمدة بوسط موسكو، توجه نفر قليل من اصدقاء الملحن من شقته القريبة من المكان حاملين نعشه الى مثواه الاخير في مقبرة العظماء “نفوديفيتشيه”.
وفي الوقت الحاضر تقدم المسارح العالمية اعمال بروكوفييف من اوبرات وعروض باليه ومؤلفات موسيقية أخرى باستمرار. ولا تفارق خشبات المسرح الروسية اوبرات ” الحرب والسلام” و” سيميون كوتكو ” و” المقامر ” و” قصة رجل حقيقي” وباليهات ” روميو وجوليت” و” كولوشكا ” و” حكاية الزهرة الصخرية ” و” الابن الضال” وغيرها. كما تعزف باستمرار الاعمال السيمفونية السبع وموسيقى فيلمي ” الكسندر نيفسكي ” و” ايفان الرهيب” التي ألفها بروكوفييف بطلب من المخرج العظيم سيرجي ايزنشتين بالاضافة الى موسيقى افلام ” الملازم كيجه ” و” ملكة البستوني” و” ليرمنتوف ” و” كوتوفسكي”.
وتجذب الانتباه على الاخص المقطوعة السيمفونية لمغني السولو والكورال والاوركسترا المعروفة بتسمية ” تعويذة كلدانية” أو أكدية. وفي البداية كتب بروكوفييف العنوان بـ” عددهم سبعة “. وشرح في مذكراته سبب اختياره للموضوع الاكدي قائلا :” اجتاحت روسيا الاحداث الثورية ، وتسللت تطوراتها بلا وعي الى دخيلة نفسي وكان لا بد لي من أن استجيب لنداء الذات. ولم أكن أعرف كيف يجب القيام بذلك ، وحدث لدي انعطاف حين قررت تناول موضوع قديم جدا من احداث التاريخ القديم. وبما ان الافكار والاحاسيس في تلك الفترة كانت تجسد معاناة الآف السنين لذا فأنها تملكت خيالي. وقد وجدتها في تعويذة كلدانية نقشت بالكتابة المسمارية على جدران معبد أكدي فك رموزها فينكلر وصاغها بلمونت بأبيات شعر”. علما ان بلمونت اعطى للنص تسمية :” نداء الدهر”. وجاء فيه ان هناك سبعة عمالقة طغاة رهيبين يتحكمون بالعالم يمثلون قوى الظلام . ولا يمكن ان توقفهم عند حدهم سوى تعويذة روح السموات. ان “عددهم سبعة” من تأليف بروكوفييف هي مقطوعة موسيقية متعددة الصيغ التعبيرية ففيها تتحسس العناصر المسرحية الرذمية السريعة وغناء السولو والكورال ويصدح ” صوت ” الاوركسترا العنيف الايقاع.
ان الخطة الدرامية – الموسيقية للمقطوعة تتحدد بالصور الشعرية تحديدا دقيقا . فالموجات الهوجاء لقوى الدمار التي تجتاح العالم يقابلها صوت الانسان المنفرد الضعيف الذي يناشد روح السموات ان تقدم المساعدة له. وتكون خاتمة المأساة الرمزية انطلاق التعويذة التي تمثل مشيئة القدر. وعزفت المقطوعة لأول مرة في باريس عام 1924 قبل ان يغادر بروكوفييف روسيا وحظيت بنجاح كبير لدى الجمهور.
لقد حاول بروكوفييف لدى عودته الى الوطن في عام 1933 مهادنة السلطة الشمولية والانعزال في عالم الابداع فكتب موسيقى باليه ” روميو وجوليت” المستوحاة من مسرحية شكسبير التي تظهر انتصار الخير على الشر والحب على الحقد. وحقق الباليه نجاحا كبيرا لدى الجمهور واعترفت به السلطات. لكن محاولة بروكوفييف “الانعزال عن المجتمع ” لم تفلح. وكان لابد له ان يتماشى مع واقع الاوضاع السائدة في وطنه. فكتب كانتاتا” في الذكرى العشرين لثورة أكتوبر، واستخدم فيها قول ماركس حول شبح الشيوعية الذي يجوب اوروبا. كما كتب مقطوعة ” نخب صحتك ” بمناسبة الذكرى الستين لمولد ستالين. لكن السلطات الحزبية اعتبرت موسيقاه في قرار صادر في 10 فبراير عام 1948 بأنها ذات ” نزعة شكلية ” وغريبة “عن الشعب السوفيتي”. هذا بالرغم من ان راديو موسكو كان يذيع يوميا في ايام الحرب نشيد بروكوفييف “انهض ايها الشعب الروسي ” الذي كتبه من اجل فيلم ” الكسندر نيفسكي”.
وفي احتفالات عام بروكوفييف الجارية في روسيا الآن ستقدم 1200 فعالية موسيقية في جميع انحاء روسيا، منها حفلات مهرجان عيد الفصح الخامس عشر بموسكو وتقديم اوبرا ” عشق ثلاث برتقالات ” في مسرح مارينسكي في بطرسبورغ وباليه “ايفان الرهيب ” واوبرا “الحرب والسلام ” في مسرح البولشوي بموسكو . كما تجري فعاليات موسيقية في المدن الروسية الاخرى ويعقد المنتدى الموسيقي الدولي ” بروكوفييف القرن 21″ ومسابقة المحلنين ” زمن بروكوفييف”. وسيقام نصب للملحن عند مدخل المبنى الذي عاش فيه بروكوفييف في زقاق كاميرجير بموسكو .
24/4/2016