لا تكاد تفتح صحيفة يومية، أو مجلة أسبوعية أو شهرية أو فصلية، وتقرأ افتتاحية سياسية، أو دراسة فكرية، أو مقابلة أدبية، أو فنية، أو رياضية… قصيدة عمودية أو حديثة، إلا ولها تتمة على الصفحة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، أو العاشرة!!
من أين يأتون بهذا الكلام؟ من أي منجم أو مستودع أو اهراءات؟ لا أحد يعلم. مع أنه، في الحياة العامة أو الخاصة، قلما تجد حديثاً مشتركاً بين الأب وابنه، والزوج وزوجته، والحبيب وحبيبته. أو حتى بين طلاب الصف الواحد، وركاب الحافلة الواحدة، أو الطائرة الواحدة، أو نزلاء الفندق الواحد، أو المعتقل الواحد. الكل غارق في همومه الخاصة كالفيلسوف، وإلأ لماذا أخذ المارة يتحدثون إلى أنفسهم في الشوارع العامة كالمجانين؟
ثم :
في المهرجانات الثقافية
أو الندوات الشعرية
وفي المناسبات الوطنية والقومية
في ذكرى احتلال أو استقلال
انتصار او نكسة
استقبال أو وداع
احتفال ديني، أو حفلة تأبين، عرس أو كارثة…
ما من محاضر يختصر قافية
أو مطرب يختصر وصلة
أو رجل دين يختصر موعظة أو نصيحة!
أو ثوري ينسى هتافاً أو مقولة، ولو تساقط الحضور تباعاً، الواحد تلو الآخر، وصفّاً وراء صف، ونقلوا أمام أعينهم إلى غرف الانعاش والمستشفيات المجاورة.
لأن كل واحد منهم، أياً كان شأنه ومقامه، يعتقد بأن جميع وسائل الإعلام مستنفرة في تلك اللحظة، لالتقاط الدرر التي يفوه بها لتحليلها كلمة كلمة، وجملة جملة، لمعرفة أهدافها ومراميها وتوقيتها وأبعادها المحلية والعربية والدولية في هذه الظروف بالذات!!
وأنا على مدار الساعة، أقلب المقاعد، وأمزق الستائر، وأحطم الأدراج وكل ما تصله يدي بحثاً عن كلمة… عن حرف… كما يبحث المدمن عن زرقة المخدر.
في الأيام الخوالي، أيام الإقطاع البغيض، والاستعمار الغاشم، عندما كانت طاولتي هي ركبتاي في وسط النقل، والحدائق العامة، والمقابر. كان إذا ما نفد الورق مني، أكتب على القبور، والأشجار، وخشب المقاعد. أجمل قصائدي كتبتها في تلك الأيام على القبور، وشواهد القبور، على برق العواصف وضوء النجوم!!
والآن… أمامي كل أنواع الورق الحديث والقديم وحتى ورق البردي، وأقلام أكثر مما عند العاهرة من أقلام الحمرة والتبرج، والمصابيح الملونة تشع من كل الأركان والزوايا، وموسيقى تهز الحجر من حولي.. ومكتب أكبر من مكتب التحقيقات الفيدرالي.. ولا حرف .. ولا كلمة!!
ساعات وأيام وشهور، والورقة البيضاء الفارغة، تحدق بي بثبات ولا مبالاة كعين الأعمى، وأنا أذهب وأجيء مشيحاً عنها، محدودبا معقود الذراعين مثل نابليون في “سانت هيلانة”.
لا يهزني نصر، ولا تذلني هزيمة. ولا يربكني احتلال، ولا يسعدني استقلال. لا تشغلني مفاوضات، ولا يؤرقني حصار، ولا يشدني مسلسل، ولا تمتعني رواية، ولا تضحكني مسرحية، ولا تطربني أغنية ولا يزعجني مواء أو عواء. لا يعنيني تراث، أو حضارة، أو موقع استرتيجي، أو ثروات طبيعية، أو نهضة عمرانية أو فنية، ولا أوابد أثرية، ولا ملاحم عربية.
لا أتذمر من شيء، ولا أطمح لشيء!
أي طعام آكل
وأي لباس أرتدي
وأي حذاء أنتعل
ولأي طائفة أنتمي
بأية شروط أقبل
على أية ورقة أوقع
وحيث يدركني النعاس أنام كالحيوان!!
لا أخجل من شيء، لا أحن إلى شيء، ولا أبالي بشيء.
وشكراً للثورات العربية المباركة!
الثورات العربية: لا شكر على واجب!!
وأنا أضع اللمسات الأخيرة لتمثال “اليأس الخالد” من كل شيء عربي، وأطرح مطرقتي وأزميلي جانباً، وأتأمل بكل فخر واعجاب وخيلاء وثقة بالنفس، عضلات الحزن والقهر والاحباط المفتولة والنافرة من العنق والصدر والفخذين والذراعين، وأكاد أقول له: انطق!! كما قال مايكل انجلو لتمثال موسى من قبل.. يأتيني فدائي مجنون، من الجنوب … أو الشمال… ويرشق وجهي، ووجه ثمتالي، وعضلاته المفتولة والنافرة بدمه، ووحل حذائه ” إذا كان عنده حذاء” ويمضي إلى غير رجعة.
فألتقط مطرقتي وأزميلي، وأحاول من جديد!!
فليستمروا في محاولاتهم، وسوف أستمر في محاولاتي، لنعرف من سينتصر في هذه المعركة، لأنني لن أسمح أبداً بأن ننتهي بلا غالب ولا مغلوب على الطريقة اللبنانية. لأنها معركة حياة أو موت.
ولكن ، في سري، أتمنى لأول مرة في حياتي أن أهزم في معركة، وأجرجرَ في الساحات، والسلاسل في قدمي، مثل زنوبيا في شوارع روما قبل ألفي عام…!!محمد الماغوط (مفكر حر )؟