لا تحتمل المرحلة التي نمر بها أن يكون لنا أي هوية أخرى غير هويتنا السورية. ولا مبالغة في القول: إن من لا يكون سوريا لا يستطيع ولا يمكن أن يكون شيئا آخر: عربيا كان أم كرديا أم تركمانيا أم آشوريا أم كلدانيا أم شركسيا أم شيشانيا.. إلخ. يكون العربي عربيا بقدر ما يكون سوريا، أي وطنيا سوريا من دون أي إضافات، ويكون الكردي كرديا بقدر ما يكون سوريا، أي بقدر ما يضع مطالبه الخاصة المحقة في إطار سوري، ويراها في ضوء حقبة الحرية والديمقراطية التي ستلي حقبتنا الاستبدادية الراهنة، ويستحيل أن نجتازها بنجاح، إذا ما فقدنا سوريتنا كهوية عليا وجامعة أو عجزنا عن أن نكون سوريين بامتياز: محض سوريين يرون أنفسهم وأدوارهم في ضوء انتمائهم لسوريا كشكل وحيد لوطنيتهم، يعينهم دون سواه على خوض صراعهم الضاري من أجل حريتهم، ويربط النظام انتصاره فيه بتنكرهم لسوريتهم، ويحاول لهذا السبب اصطناع هويات جزئية يفرضها عليهم، إن استجابوا لها كان فيها هلاكهم وخراب وطنهم ودولتهم، خاصة إن نجح في تضخيمها وشحنها بأحكام مسبقة مفعمة بالتعصب، من شأنها أن تجعل منها أدوات حرب تقاتل غيرها، وتشتغل وكأنها ليست جزئية أو هامشية بل هويات أصلية، يستخدمها النظام كأسافين تمزق المجتمع وتثير فيه أنماطا من صراعات قاتلة، تنخرط فيها كتل هوجاء متناحرة ومتحاربة، تشتد ضراوة عنفها بمرور الوقت إلى أن تبطل الصراع الوحيد الذي يستحق أن يخاض ويضحى في سبيله: صراعنا كشعب من أجل الحرية والعدالة والمساواة والكرامة، الذي سيكون محكوما بفشل مؤكد، إذا لم يرتبط بانتمائنا الحصري إلى هوية سورية عليا هي اليوم شكل وطنيتنا العملي، وإطار جامع لهوياتنا يضمنا كشعب واحد، ويمنحنا القدرة على مواجهة نظام معاد لنا كمواطنات ومواطنين.
لا محل في أيامنا لأي مفاضلة بين كوننا سوريين وانتمائنا إلى خصوصيات وهويات فرعية، مهما كانت أصالتها وديناميتها. لا مجال لهذه المفاضلة اليوم، بسبب خصوصية وضعنا كشعب يقتل، وأهمية أن نتحد بالنسبة إلى نيل حريتنا، التي ستغني خصوصيات شعبنا بعد سقوط الاستبداد وستغتني بها، ضمن فضاء الحرية، الذي ستكون لحمته وسداه ومكونا رئيسا منه لن يقبل الانفكاك عنه. اليوم، تعبر سوريتنا عن نفسها في مشتركاتنا العامة، التي تتخطى أي انتماء جزئي أو فرعي أو سياسي وأية مصلحة خاصة أو ضيقة، وتفرض علينا تأسيس رؤانا وممارساتنا على أرضية حد أعظم من الانسجام والتكامل، ليس فقط من أجل ضمان نجاح ثورتنا، بل كذلك لأننا بحاجة إلى التفاعل المتبادل والجدي في إطار جامع ومعرف بوضوح، تملأه مصلحة وطنية ليس لها أي مداخل أخرى غير مدخل هويتنا الوطنية العليا: القادرة وحدها على التعبير عن مصالح وهويات جميع المكونات السورية، من دون أن تثير أي تناقض جدي بينها.
لن يستقيم مع الانتماء إلى سوريتنا الثائرة على الظلم والتمييز أن تمارس أطراف معارضة أي تمييز بين السوريين لأي سبب أو مسوغ، مهما كانت خلفياته السياسية والإثنية والثقافية. ويقيني أن فطرة السوريين الوطنية لن تقبل حيدانهم أو حيدان أي فريق منهم عن مشتركاتهم الوطنية، الحاضنة الآمنة التي صنعها التاريخ ونضالهم المشترك، لتمدهم بالحماية وبما يحتاجون إليه من وحدة وقوة في نضالهم ضد طغيان سلطوي وشخصي مفترس دأب طيلة نيف ونصف قرن على تمزيقهم وإثارة العداء والبغضاء بينهم، ووضعهم بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر، وربط مصيره بنجاحه في شحن هوياتهم الدنيا والجزئية بقدر من التنافر والبغضاء يرفضون معه عيشهم المشترك، كمبدأ وكممارسة، وينخرطون في نزاعات إقصائية تتحول إلى صراعات عنيفة عند نشوب أول أزمة بينهم. ومن يراقب ما فعلته الأسدية منذ انفجار الثورة وحتى اليوم، سيضع يده على خيط أحمر يسم سياسات النظام، يتمثل في سعيه إلى إثارة نزاعات داخلية وتفجيرها بأقصى ما في الكراهية والعنف من قدرات تدميرية، لإدراكه أن انخراط أطراف متناقضة ومختلفة فيها يعني نهاية الثورة والقضاء – وإن لبعض الوقت – على فكرة الحرية وحلم الدولة الديمقراطية، وتمكينه من التقاط أنفاسه واستعاد سيطرته كاملة على البلاد والعباد.
ليس لدينا خيارات كثيرة، فإما أن نكون سوريين من اليوم وحتى انتصار الثورة، أو أن نضيع كل شيء ونعود إلى بيت طاعة الأسدية، التي ستقتلنا بالملايين بتهمة الإرهاب. أن نكون «سوريين وبس» يعني أن ننتصر ونصير أحرارا. أما أن نعطي اليوم الأولوية لكوننا عربا وكردا وتركمانا وآشوريين و… إلخ، فهذا معناه نجاح النظام في دق أسافينه بيننا وانتصاره هو علينا. ماذا نختار؟
منقول عن الشرق الاوسط