راغدة درغام: الحياة اللندنية
القراءة المعمقة لحديث الممثل المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية الى سورية، الأخضر الإبراهيمي، الى «الحياة» أول أمس الأربعاء، تفيد أن الأداة الوحيدة لإنقاذ سورية من «تعفّن الجرح» والشرذمة والتفتيت تكمن في تفاهم أميركي–روسي يؤدي الى توافق مجلس الأمن الدولي على مبدأ ووسائل الإنقاذ. نائب الرئيس الأميركي جو بايدن سيجتمع خلال العطلة الأسبوعية بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في ميونيخ، فيما سيتوجه مستشار الأمن القومي الأميركي توم دونيلون الى موسكو الشهر المقبل للبحث في ملف بدء جولة مفاوضات جديدة حول معاهدة تخفيض نسبة السلاح النووي (ستارت) بهدف اطلاق «بداية جديدة» لتجديد تلك المعاهدة وللعلاقات الأميركية–الروسية. رئيس الحكومة الروسية ديمتري ميدفيديف قال في «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس الأسبوع الماضي، إن مواقف البلدين ما زالت متباعدة «فللولايات المتحدة رأيها وللاتحاد الروسي للأسف رأيه المخالف»، ذلك لأنه «ليس هناك حلول سهلة لمسألة الدفاع المضاد للصواريخ». العلاقة بين المفاوضات الأميركية–الروسية على درع الصواريخ أو معاهدة «ستارت جديدة» تدخل في عمق مستقبل سورية. العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني حذر -من دافوس كذلك– أن «كل من يتوقع سقوط النظام (في دمشق) خلال أسابيع إنما لا يعرف الحقيقة على الأرض»، متوقعاً «تنامي قوته العسكرية على الأقل حتى منتصف العام الحالي». حذر أيضاً من تنامي نشاط «القاعدة» في سورية مع استمرار القتال، قائلاً إن «طالبان الجديدة التي سيكون علينا التعامل معها هي في الواقع موجودة في سورية»، وقال إن سورية تواجه اليوم إما «الانفجار» من الداخل
Implode
أو «الشرذمة». والسؤال الذي يُطرح في المحافل الدولية يدخل في صلب الدور الأميركي–الروسي في مصير شرذمة وتفتيت سورية كأمر واقع، إما بسبب اعتمادهما عملياً سياسة الاستنزاف والإنهاك (موسكو نحو الجهاديين، وواشنطن نحو النظام في دمشق ومن يدعمه، والجهاديين معاً)، أو نتيجة ارتهانهم سورية ورقة في علاقاتهما الثنائية حتى إشعار آخر.
واضح أن الأخضر الإبراهيمي المكلف دولياً وعربياً بالبحث عن حلول سياسية للمعضلة السورية قد توصل إلى استنتاج بأن لا الدول الإقليمية ولا الأطراف السورية قادرة على حسم المسألة السورية بصورة أو بأخرى، لا عسكرياً ولا سياسياً. وقال: «ليس هناك مجال الآن للتعامل مع هذه القضية وبحث إنقاذ سورية إلا من خلال مجلس الأمن»، حيث هناك «فتحة صغيرة جداً، أولاً بين الأميركيين والروس في ثلاثة لقاءات كما بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن: الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا.
الملفت في تقويمه للمسألة الروسية أن الإبراهيمي استنتج أن لا مجال لتطبيق نموذج 6+2 الذي اعتمده عندما فاوض وتوسط في المسألة الأفغانية. ذلك النموذج شدد على الشراكة الضرورية للدول المجاورة لأفغانستان مع الداخل الأفغاني في البحث عن حل، بل إنه فتح المجال لأول تواصل مباشر بين الولايات المتحدة وإيران عبر لقاءات 6+2.
قال إن «الإخوة في سورية عاجزون عن أن يتكلموا ويحلوا مشكلتهم بأنفسهم. ولو كان هذا ممكناً لكان هو الخيار الأفضل. ولو تستطيع دول المنطقة أن تساعد، لكان هذا أيضاً خياراً جيداً… ولكن من الواضح أن هؤلاء جميعاً… غير قادرين على الحل… والدور الذي حددته دول المنطقة لنفسها لم يوصل إلى نتيجة»، لذلك قرر الإبراهيمي أن يطرق باب مجلس الأمن «لنحاول أن نفتحه، وهو لم يُفتَح بعد». الموافقة الأميركية–الروسية على أخذ الإبراهيمي ما اتفقا عليه في اللقاء الثلاثي إلى الدول الخمس الدائمة العضوية في لقاءٍ سداسي لأول مرة، لربما يؤدي إلى صدور موقف عن مجلس الأمن «وعندها يصبح إصغاء الأطراف (للجهود) بطريقة مختلفة».
تلك «الفتحة» التي تحدث عنها الإبراهيمي تكمن في زحفٍ بطيء لروسيا نحو إنهاء «الغموض الخلاّق» لجهة دور الرئيس السوري بشار الأسد في العملية السياسية الانتقالية في سورية. تكمن أيضاً في زحفٍ بطيء للولايات المتحدة نحو تحييد عقدة الأسد كي لا تكون المطالبة بتنحيه شرطاً في مطلع المفاوضات.
«الفتحة» التي توضحت معالمها هذا الأسبوع هي التحدث علناً عن إزالة الغموض في شأن دور الأسد في الهيئة الانتقالية أو «الحكومة التي ستُشكَّل لتمارس الصلاحيات بكل معنى الكلمة»، وفق تعبير الإبراهيمي. بوضوح أكثر، هناك الآن تفاهم أميركي–روسي على أن لا دور لبشار الأسد في تلك الحكومة الانتقالية البديلة من حكومته، «وهذا التعريف يجب أن يأتي من مجلس الأمن» عبر قرار رسمي يُخرج التفاهم هذا من الخانة الثنائية الخلفية إلى الخانة العلنية لكامل مجلس الأمن.
الغموض البديل، إذا شاء التعبير، والذي لربما ما زال يشكل ما يسمى الآن بـ «عقدة الأسد» يكمن في ما إذا كانت الإدارة الأميركية جاهزة للقفز على مواقفها الداعية إلى تنحية أو تنحي الأسد، أقله كمطلع أو كجزء من «الفتحة» التي تجعل روسيا مستعدة للمقايضة بين إزالة غموض دور الأسد في الحكومة الانتقالية وإضافة الغموض حول دور الأسد في مستقبل سورية. هنا يبدو أن الخلافات ما زالت مستمرة، ولذلك لم يتم التوصل إلى اتفاق على إصدار قرار لمجلس الأمن يعالج هذه «العقدة». فالزحف إلى معالجتها بطيء ربما لأسباب ذات علاقة بالمسألة السورية ذاتها أو لأسباب ذات علاقة بالمقايضات الثنائية الأكبر.
التطور الآخر الذي وقع هذا الأسبوع هو زحف بطيء آخر نحو إلزام مجلس الأمن أن يتصرف بموجب المسؤوليات المنوطة به للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين بدلاً من القبوع في ظل الإحباط والاختباء وراء لوم الآخر. روسيا والصين منعتا مجلس الأمن، باستخدامهما الفيتو المزدوج ثلاث مرات، من تبني أي قرار يضغط على النظام في دمشق ورئيسه بشار الأسد. الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا وفرنسا إلى درجة أقل، وجدت في الموقفين الروسي والصيني عذراً لإلقاء اللوم عليهما وتعييبهما لتغطية التردد والتلكؤ وعدم الرغبة لدى واشنطن بالانخراط في المسألة السورية.
لقاء سفراء الدول الخمس مع الأخضر الإبراهيمي لأول مرة يشكل «فتحة» أخرى في الزحف البطيء نحو استصدار قرار لمجلس الأمن يعكس عند صدوره تحولاً مهماً في معادلة الحلول السياسية مقابل الحلول العسكرية. فإذا صدر قرار جدي وحازم (تريده الدول الغربية أن يكون ملزماً بموجب الفصل السابع من الميثاق وترفض روسيا أن يصدر تحت ذلك الفصل)، لربما يكون ذلك مؤشراً على تعليق سياسة الاستنزاف والإنهاك المتبادل.
الجهاديون ربما يشكلون القاسم المشترك بين السياسة الأميركية والروسية في سورية، القائمة على مسار الاستنزاف والإنهاك. لكن النظام في دمشق، وكذلك إيران التي تلعب دوراً مباشراً دعماً للنظام، يشكلان نقطة الاختلاف والخلاف الأميركي–الروسي في سياسة الاستنزاف والإنهاك. ذلك أن واشنطن قد تريد الاستنزاف والإنهاك المتبادل بين الجهاديين والنظام وطهران، فيما تريد موسكو التركيز قطعاً على إنهاك واستنزاف الجهاديين، لأن التطرف الإسلامي من وجهة نظرها قضية داخلية وليس فقط تصوراً سورياً.
روسيا تخشى الانسحاب الأميركي من أفغانستان، لأنه سيعيد الجهاديين إلى جيرتها، وسيشكل نقطة الانطلاق لهم إلى الجمهوريات الإسلامية الخمس التي تطوقها، وسيؤثر في الأقليات الإسلامية داخل روسيا، لكن موسكو ترى أيضاً أن انسحاب قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أفغانستان سيسفر عن ورطة أميركية أكبر من ورطتها، لأن باكستان ستكون المحطة الأولى في هجرة الجهاديين أو توسعهم خارج أفغانستان. وهذا الأمر يشكل ناحية أخرى مهمة في الحديث الثنائي الأميركي–الروسي الأوسع والأبعد من المسألة السورية.
عقدة الإسلاميين لدى القيادة الروسية أدت إلى استملاكها الخوف لدرجة تعمي بصيرتها لجهة إفرازات سياساتها نحو سورية على مصادر قلقها. عقدة ضرورة الانسحاب لدى القيادة الأميركية أدت إلى استملاكها الهوس لدرجة تعمي بصيرتها لجهة إفرازات التنحي على ما هو أولوية أميركية بغض النظر إن سميت «الحرب على الإرهاب» أو المعركة ضد «التطرف الإسلامي».
في سورية تتفجر اليوم العقدة الأميركية والعقدة الروسية، وواجهتها عقدة الأسد. هناك من يعتقد أن لا مجال من تدخل عسكري في سورية لوقف النزيف والعفن في الجرح والشرذمة والتفتت والتمزق في حرب أهلية ستطاول الجيرة السورية، إذا استمرت.
نموذج التدخل بلا صلاحية من مجلس الأمن، على نسق نموذج كوسوفو أو على نسق آخر، يلوح في الأفق البعيد جداً، لكنه موجود في أذهان الجميع، أولئك الذين يخشونه وأولئك الذين يتمنونه.
هناك إمكانية لتطور الأمور إلى تمزق نوعي في سورية، لدرجة أن تصبح معارضة الغد، بعدما يتحول النظام الحاكم إلى معارضة، كابوساً من نوع آخر، إذ ستكون مسلحة بامتياز وأخطر بأضعاف وأكبر مساهم في مسيرة التمزيق والتشرذم.
الأخضر الإبراهيمي محق في قوله «لنترك جانباً الحديث عن أين يتجه النظام أو الرئيس السوري، ولنتحدث في التاريخ. المياه لا يمكن أن تعود وتجري صعوداً. ما فات فات. وسورية غداً ستكون مختلفة عن سورية اليوم، وسورية العام المقبل هي سورية أخرى مختلفة عن سورية التي كانت قبل سنتين». محق في قوله: «إن التغيير المطلوب يجب أن يكون حقيقياً، وفترة الترقيع انتهت». محق عندما يقول إن «أي حكومة تستطيع أن تقود هذا التغيير (في سورية والمنطقة العربية)، وإن لم تفعل، فإنها ستكون مُتجاوزَة».
هذا الشهر يسجل مرور سنتين على وصول عربة المطالبة بالتغيير المطلوب في المنطقة العربية إلى سورية. بدأت المطالبة بالإصلاح والتغيير بتظاهرات سلمية ووجهت بالمعالجة الأمنية على أيدي الحكومة السورية. هكذا تم تجاوز الحكومة السورية، بقرارات صدرت عنها أسفرت عن أفغنة سورية بكل ما تعنيه الأفغنة من تحويل سورية إلى ساحة حروب بالنيابة ولمقايضات إقليمية ودولية.