صبحي حديدي : القبس الكويتية
في أواخر نيسان (أبريل) 2011 قامت وحدات من الفرقة الرابعة المدرعة ـ مدعومة بعشرات الدبابات وآلاف الجنود، وبعد قصف مدفعي تمهيدي مباشر ـ باقتحام مدينة درعا، واجتياح ساحاتها والكثير من شوارعها الرئيسية.
الفيديوهات التي نُشرت على موقع ‘يوتيوب’ آنذاك، والتي سُرّبت من عناصر النظام أنفسهم، بقصد الردع والترهيب، أظهرت عشرات المواطنين من أهل درعا، وقد بُطحوا أرضاً على بطونهم، وجنود الفرقة الرابعة يدوسون على ظهورهم، وسط تعالي الهتاف الهستيري: ‘الله! سورية! بشّار وبسّ!’.
قبل درعا، وبعدها بأسابيع قليلة، كانت الفرقة الرابعة تنتشر أيضاً في ريف دمشق، وحمص، وحماة، واللاذقية، وحلب، وإدلب، ودير الزور، والحسكة، والسويداء، وكان ماهر الأسد، القائد الفعلي للفرقة، بمثابة آمر الفرقة الأوحد، ورئيس أركانها المفوّض بصفة مطلقة، يعاونه (بسبب من انعدام الخبرة العسكرية) جمهرة، منتخَبة ومنتقاة بعناية، من ضباطه الخلّص المقرّبين.
روح العجرفة لدى جنود الفرقة، من ضباط وصفّ ضباط وأفراد، كانت في أوجها، ولم يكن المرء بحاجة إلى التدقيق في وجوه الجنود، أو الإصغاء إلى هتافاتهم، لكي يدرك أنّ هؤلاء هم العمود الفقري لأمن البيت الأسدي، ونظام ‘الحركة التصحيحية’ عموماً، من جانب أوّل.
كان جلياً، من جانب ثانِ، أنّ المنخرطين في تحقير المواطنين، على غرار ما جرى في درعا وبانياس وعشرات المناطق الأخرى، يدركون أنّ أساليب الإهانة هذه ليست ناجعة فحسب، من أجل كسر روح الانتفاضة، بل هي الوحيدة اللائقة بكلّ معارض، أو متظاهر، أو محتجّ (لم يكن أحد يرفع عصا، في تلك الحقبة، وكانت الصدور العارية هي السلاح الوحيد الذي يُشهره الحراك الشعبي).
بعد نحو عام، مطلع نيسان (أبريل) الماضي، وفي حمص هذه المرّة، تسرّب فيديو جديد يُظهر اللواء بديع العلي، القائد الجديد (الشكلي، أيضاً) للحرس الجمهوري، وهو يتحدّث إلى مجموعة مختلطة من ضباط الحرس والفرقة الرابعة، في مناسبة ما اعتبره النظام، آنذاك، نصراً عسكرياً حاسماً في حمص (اللواء العلي سخر من معركة ستالينغراد، بالمقارنة مع سقوط حيّ بابا عمرو!).
الهتاف، بادىء ذي بدء، لم يعد يتذكّر سورية، وصار مقتصراً على رأس النظام (بالروح! بالدمّ! نفديك يا بشار!)، كما استُبدل الخجل من صفة الشبّيح، بالفخار بها (شبيحة للأبد! لأجل عيونك يا أسد!). وأمّا أقوال اللواء نفسه، فقد كشفت ـ دون وعي منه، أغلب الظنّ ـ بعض خفايا، ومزايا، هذه الوحدات الموالية: الترغيب الصريح، عبر التلويح بالترفيع والسيارات، والاعتراف باستحداث ‘وحدات مغاوير’ للعمليات الخاصة، يدربّ عناصرها مدربون من داخل القطر ومن خارج القطر (في أوّل تلميح/ زلّة لسان حول وجود ‘الحرس الثوري’ الإيراني)، والتلفّظ بتعبير ‘المناطق الآمنة’ داخل القطر، التي ينتمي إليها بعض أفراد الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، ويمكن بالتالي أن يسافروا إليها لقضاء إجازاتهم…
اليوم، في المقابل، قياساً على أمثلة الفشل العسكري المتعاقبة، في ريف دمشق ودرعا وحلب وريف حلب وحماة وإدلب ودير الزور وريف الرقة وجبل الزاوية وجبل التركمان، فضلاً عن دمشق العاصمة ذاتها، أو حيثما انتشرت أو تنتشر وحدات من الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، لم يعد النظام يزجّ هذه الوحدات في قتال مباشر على الأرض، خسرته أصلاً في معظم نقاط الاشتباك، وصار يعمد إلى تأمين انتشارها ضمن وضع غير قتالي، أو سحب بعضها هنا وهناك، تمهيداً لإشراكها في معارك ختامية، يلوح أنّ رأس النظام ينوي خوضها في مواقع ذات طبيعة مفتاحية و’ستراتيجية’، مثل دمشق العاصمة، ومناطق حمص المتاخمة لمحافظة طرطوس، وبعض البلدات الكبرى في جبال الساحل السوري.
وإذا كان هذا الخيار بمثابة إقرار ضمني بإخفاق الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، في مهامّ كسر روح الانتفاضة شعبياً، وكذلك دحر القدرات العسكرية لمختلف تشكيلات المقاومة المسلحة، فإنّ الخيارات البديلة (استخدام سلاج الجو، والمدفعية الثقيلة والصاروخية، والبراميل المتفجرة، والألغام البحرية…)، تتجاوز مستوى اليأس، أو ‘خيار اللاخيار’ على حدّ وصف الصحافية الروسية صوفي شيفارنادزة بعد لقائها مع بشار الأسد مؤخراً.
هذه، في وجهة أولى، خيارات انتحارية لا تضمن للنظام أيّ ثبات على الأرض، بل تكفل له العكس من حيث تعرّض مواقعه للقضم التدريجي من جانب كتائب الجيش الحرّ، وهي، في وجهة ثانية، خيارات تسير على نقيض ما ينصح الحلفاء، لأنها تؤذي جهودهم المحمومة لإيجاد مخرج للنظام ذاته، ولهم أيضاً، وتُكسب المعارضة مزيداً من هوامش المناورة المضادة.
على سبيل المثال، يتردد أنّ الخبراء الروس، العسكر مثل رجال الاستخبارات، ضاقوا ذرعاً بعدم إصغاء النظام إلى نصائحهم، وخاصة واحدة ‘ذهبية’ بينها، مفادها أنّ القصف الجويّ لن يبدّل شيئاً على الأرض، مقابل انهيار وحدات النظام الكلاسيكية (كما في سقوط الكتائب والأفواج الصاروخية هنا وهناك، وسقوط مدرسة المشاة في حلب، وحصار المطارات العسكرية والمدنية…).
وهذا اعتبار يتعزز أكثر، بالمعنى العسكري واللوجستي الصرف، حين توضع في الاعتبار حقيقة تمكّن المقاومة من الحصول على أسلحة مضادّة للطيران، غنمتها من الترسانات التي انسحبت منها وحدات النظام الموالية، أو التشكيلات العسكرية الكلاسيكية التي ظلّت على هامش المواجهات، بقرار من الأسد في الواقع، خشية مسارعتها إلى الانشقاق عن النظام إذا سنحت الفرصة.
على الجانب الإيراني، يتردد أنّ بعض المراجع الدينية، وتلك الأمنية أيضاً (في مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي، شخصياً) لم تعد تخفي خشيتها من لجوء الأسد إلى تحويل الطائفة العلوية، على المستوى المدني والأهلي الصرف، وفي الضيع والقرى والبلدات، إلى حطب يشعل معارك النظام الاخيرة.
ذلك لأنّ طهران باتت ترى في علويي سورية جزءاً منتسباً، بالإرادة أو بالقسر، إلى التيار الشيعي الإقليمي العريض.
ولهذا صار واجباً على إيران، التي تزعم تصدّر الصفّ الشيعي، أن تتصدّر أيضاً جهود حماية سواد العلويين المدنيين من أيّ أذى جماعي قد يلحق بهم، سواء أتى من طوائف أخرى، لأسباب سياسية أو طائفية شتى، أو تسببت فيه سيناريوهات الكارثة، التي قد يلجأ إليها الأسد في محاولات أخيرة، قصوى وانتحارية.
الفارق بين فيديو درعا، أواخر نيسان 2011، وفيديو بابا عمرو، أوائل نيسان 2012، هو، على نحو بليغ، خلاصة مآلات، وتناقضات، هذا الطراز من الوحدات العسكرية الموالية، التي تتقهقر اليوم على الأرض، وبالتوازي معها تتقدّم سيناريوهات الكارثة، حيث اليأس والروح الانتحارية هي الطاغية على ذهنية الطغاة. هي، في مستوى أوّل، ذراع النظام الضاربة في قمع الانتفاضة، انتشرت حيثما اقتضت عمليات حصار المدن أو اقتحامها أو قصفها، عبر المدرعة أو الدبابة أو الحوّامة، فضلاً عن كامل الأسلحة النارية الأخرى.
وهذه، الفرقة الرابعة في المثال الأبرز، وحدة مدرّعة في الأساس، لكنّ تسليحها نخبوي ومتميّز، وترسانتها لا تقتصر على العدّة العسكرية بل تشمل أدوات القمع الأخرى (من العصا الكهربائية إلى الغاز المسيل للدموع، مروراً بالهراوة والقنابل المسمارية…)، وامتيازات عناصرها، من حيث الراتب والتعويضات والسكن والتأمين، لا تُقارن بما يحصل عليه العسكريون في جميع وحدات الجيش السوري الأخرى.
لكنها، في مستوى ثانٍ، ترنّحت تحت عدد من الضغوطات اليومية، أبرزها الأوّل هو اهتراء معنويات أفراد الفرقة أمام الصمود الأسطوري للتظاهرات، وارتقاء الشعارات يوماً بعد يوم، في علاقة طردية مع اشتداد آلة القهر. كلّما حوصرت منطقة، ودُمّرت بيوتها وسُفكت دماء أبنائها، نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، ارتفعت أكثر فأكثر روحية المطالبة بإسقاط النظام، والتعريض المباشر برموزه العليا، بشار الأسد وشقيقه على نحو محدد. وكلما أوغلت الفرقة في الإجراءات الكفيلة ببثّ الفرقة بين السوريين (مثل قصف مئذنة هنا، أو العبث بمسجد هناك، أو كتابة شعارات مذهبية وطائفية بين حين وآخر…)، جاء الردّ الشعبي أكثر تمسكاً بالوحدة الوطنية، وأعلى وعياً بمخططات النظام.
نمط الضغط الثاني كانت تصنعه حقيقة أنّ الفرقة هجين مختلَط من بقايا وحدات عسكرية سابقة، كانت لها صولاتها وجولاتها في التاريخ القمعي لـ’الحركة التصحيحية’، وتوجّب على حافظ الأسد أن يفككها ويعيد تركيبها، بين حقبة وأخرى. تلك السيرورة فرضتها اعتبارات تخصّ قطع الطريق على الأجندات الخاصة لقادة تلك الوحدات، من أمثال رفعت الأسد (قائد ‘سرايا الدفاع’)، وعلي حيدر (قائد ‘الوحدات الخاصة’)، وعدنان الأسد (قائد ‘سرايا الصراع’)… صحيح أنّ هؤلاء باتوا خارج المشهد القيادي، حتى قبل أن تبدأ عمليات توريث الأسد الابن، إلا أنّ ما جرى تكريسه على نطاق التوريث داخل البيت الأسدي، جرى أيضاً استلهامه بصياغات متغايرة على صعيد مناقلة النفوذ والامتيازات بين قادة الصفّ الأوّل، ووكلائهم قادة الصفوف الثانية والثالثة.
وفي العموم، يعرف الضابط في الفرقة الرابعة أنّ ماهر الأسد اختار له البقاء في كتائبها، فلم يشمله بأعمال التطهير التي أعقبت اندلاع الانتفاضة، لأنّ ولاءه ثابت، وقد تمّ التحقق منه خلال هذه العملية أو تلك، كما لا يجهل، وهنا التفصيل الأهمّ، أنّ انتماءه إلى هذه العشيرة أو تلك، من هذه الضيعة التابعة لهذه المنطقة، وليست تلك التابعة لمنطقة أخرى، كان حاسماً في ترشيحه للبقاء. لكنه، أغلب الظنّ، لم يتطهر تماماً من ذاكرة شخصية تضمنت ولاءاته السابقة، وامتيازاته التي لم تكن أضأل، بل كانت أوفر ربما، مع ضباط من أمثال العقيد معين ناصيف (صهر رفعت الأسد، والضابط الأبرز في ‘سرايا الدفاع’)، أو العميد هاشم معلا (بطل حصار حلب، 1980، و’مدمّر الإخوان المسلمين’ حسب التسمية المفضّلة لدى محبّيه)، أو العميد محسن سلمان (حاكم لبنان العسكري أواسط الثمانينيات، إسوة بحاكمها الأمني غازي كنعان).
اليوم صارت أقلّ ظهوراً تلك الفيديوهات التي تصوّر همجية أفراد الوحدات الموالية ضدّ أبناء الشعب السوري، والمدنيين العزّل بصفة خاصة، ليس لأنّ التسريبات صارت نادرة، بل ربما لأنّ مستوى المشاركة في الهمجية انحسر على الأرض، وانتقل إلى السماء! وما تتعرّض له هذه الوحدات من ضغوط بنيوية تخصّ تركيبها الأصلي، وأخرى لوجستية وعسكرية ناجمة عن هزائمها على الأرض، لا تبدو وكأنها تبدّل الكثير في سلوك الولاء الأعمى، والذهاب أبعد في خيانة الوطن والشعب.
ولهذا فإنها تتقهقر على الأرض، ولكنها لا تنفصل عن الخيارات الأخرى التي تنذر بسيناريوهات الكارثة، والأرجح أنها لن تتورّع عن الانخراط فيها. كيف لا، وهي صفّ ‘الشبيحة للأبد’!