ثلاث إشارات كبيرة حول سوريا، حملها مطلع السنة الفاصلة، الممتدة بين صيف العام الحالي وصيف العام 2017، القرار الدولي 2254 الصادر في 18 ديسمبر (كانون الأول) 2015، وضع جدولاً زمنيًا يمتد على 18 شهرًا تنتهي بمحطة سياسية رئيسية هي إجراء انتخابات حرة ونزيهة على أساس دستور سوري جديد تحت إشراف الأمم المتحدة.
لا شيء يوحي أن هذه المهل تتجاوز في الواقع دلالاتها الرمزية، بوصفها أول جدول زمني للحل السياسي في سوريا، صادر بقرار أممي. لكنها في الوقت نفسه رمزية كبيرة لا بد أنها تدخل في حسابات الدول وتدفعها لتهيئ المعطيات والتوازنات والإجابات المناسبة حين تحل المواعيد المضروبة في القرار.
وبالتالي ما تشهده سوريا من تجاذبات بين الأعداء وأنصاف الأعداء وأشباه الحلفاء يشير إلى أن مرحلة جديدة آخذة في التشكل.
إشارة أولى: بعد مقتل القيادي في ميليشيا «حزب الله» مصطفى بدر الدين في دمشق في 13 مايو (أيار)، بدأت الماكينة الإعلامية والسياسية للحزب ولبقية مكونات محور الممانعة، متأهبة لما سمته معركة حلب الفاصلة. وقد سبق ذلك تصريحات نارية لمسؤولين إيرانيين أبرزهم تأكيد وزير الدفاع الإيراني، حسين دهقان، أن «المناطق التي يحتلها الإرهابيون في حلب السورية ستتحرّر على يد قوات محور المقاومة». وكان بدا بالتزامن مع سقوط بدر الدين أن الهدنة الروسية الأميركية المتفق عليها في فبراير (شباط) الفائت قد انتهت صلاحيتها وانهارت إلى غير رجعة، بدل أن يتم تمديدها لتشمل حلب. عاود الطيران الروسي والسوري قصفه المكثف للمدينة، بالتوازي مع حديث روسي مبهم عن الهدنة ورفع مستوى التوقعات حول معركة حلب من قبل إيران، إلى أن انعقد الاجتماع الثلاثي في طهران والذي ضم وزراء دفاع روسيا وإيران وسوريا مؤكدًا في ختام مداولاته على الهدنة. قاومت إيران الهدنة، ثم ما لبثت أن رضخت لها. عُمِدَ رضوخ إيران للمنطق الميداني الروسي بدماء واحد وثلاثين قتيلاً لـ«حزب الله» في خلصة السورية، وهي الخسارة الأكبر له في معركة واحدة، ليقول بشكل حاسم إنه لا قدرة لإيران ولميليشياتها الحليفة على التلاعب بمعطيات الميدان السوري، من دون غطاء جوي روسي كان غائبًا تمامًا عن خلصة.
موسكو أخضعت طهران حتى الآن. وألزمت الجميع بسقف ميداني في سوريا، لا يسمح بسقوط الأسد ولا يتوهم انتصاره وفق التصور الإيراني، أو تصور الأسد نفسه الذي انتقل من الاعتراف العلني بعجز جيشه، واضطراره للتخلي عن مناطق لحماية أخرى قبل التدخل الروسي، إلى التبجح باستعادة كل شبر من سوريا بعد التدخل الروسي. روسيا تمهد لحل سياسي هي من يملك أوراقه وليس نظام الملالي.
من لم تكفه هذه الإشارات سيجد المزيد في زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى دمشق، وما رافقها من مشهدية مهينة للأسد، وسط تسريبات جديدة عن توجه موسكو نحو البحث في مجلس حكم عسكري انتقالي كمدخل للتسوية السياسية.
إشارة ثانية: تزامنًا مع ما سلف، كشفت الصحافية الأميركية لورا روزين نقلاً عن مصادر التقت وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في أوسلو، أن ظريف حرص على إعطاء الانطباع أنه بات يتمتع بتحكم أكبر في الملف السوري، وأن إيران تبدو أكثر مرونة حيال الحل السياسي والتعامل مع مصير الأسد، وأكثر اهتمامًا بشكل النظام السياسي ما بعد الأسد وطبيعة عقد الشراكة داخل النظام. بعد أيام قليلة من تقرير روزين أعلن ظريف عن تغييرات جوهرية في وزارة الخارجية الإيرانية أبرزها، تعيين حسين جابري أنصاري مساعدا له للشؤون العربية والأفريقية، خلفا لحسين أمير عبد اللهيان المحسوب على الحرس! وقد أثارت الخطوة صخبًا كبيرًا في الأوساط السياسية والإعلامية الإيرانية المحافظة التي رأت أن التعيينات «انتصار لعصابة نيويورك» كما يطلق على مجموعة ظريف السياسية.
إشارة ثالثة: سياسة تبريد الرؤوس طالت أيضا موقف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي أسقط ممانعته لإشراك المقاتلين الأكراد ضمن وحدات حماية الشعب، في الحرب ضد «داعش» شرق الفرات على أن يقتصر الدور الكردي على القتال، وتحل مكان القوات الكردية قوات عربية تمسك بالمناطق المنتزعة من «داعش». كما إيران والسقف الروسي، هنا إشارة إلى أن أنقرة حسمت خيارها في مواجهة «داعش» وأعادت ترتيب أولوياتها بين محاربة «داعش» أو محاربة الأكراد منخرطة هي الأخرى ضمن سقف واشنطن في الميدان السوري.
الجميع يعد العدة للعام 2017، عام الرئاسة الأميركية الجديدة وعام الجدول الزمني للحل في سوريا.
في واشنطن بات واضحًا أن أي إدارة جديدة لن تستمر بسياسة باراك أوباما في سوريا، لا سيما إن فازت مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون. قبل أيام وقع 51 مسؤولا في وزارة الخارجية الأميركية مذكرة احتجوا فيها على سياسة الإدارة الأميركية في الملف السوري. وطالبوا بتنفيذ غارات ضد أهداف تابعة لنظام بشار الأسد، والتأكيد على أن تغيير النظام هو السبيل الوحيد لإلحاق الهزيمة بـ«داعش». بعدها قالت ميشيل فلورني، المسؤولة المدنية رقم ثلاثة في البنتاغون، والمرأة التي من المحتمل أن تكون وزيرة دفاع إدارة كلينتون، إنه لا بد من عمليات عسكرية تدفع الأسد لمغادرة السلطة، ومن بينها إنشاء مناطق آمنة.
واشنطن تتغير وستتغير. روسيا وتركيا وإيران تعرف ذلك، ويبدو الجميع في لحظة تهيؤ للجديد الأميركي، ما بعد أوباما.