كان راصدو انتفاضة الشعب السوري ومآلاتها خلال السنوات الخمس الأخيرة رهينة لتجاذبين: بين حسن الظن بالمواقف الدولية، وعلى رأسها الموقف الروسي – وتاليًا، الموقف الأميركي – على أساس أنه ليس بمقدور أي دولة كبرى، مهما بلغ عمق تحالفها مع نظام تابع السكوت إلى ما لا نهاية على قمعه الإجرامي لشعبه، وبين تعامل أكثر واقعية واثق بأن روسيا، على الأقل، لن تتخلّى عن نظام آل الأسد مهما كان الثمن.
في البداية نبّه استخدام موسكو حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، بالتحالف مع الصين، لمنع اتخاذ أي قرار حازم ضد نظام بشار الأسد، بعدما اختار «التحاور» مع مطالب شعبه بالقتل والتهجير، كثيرين إلى أن لدى روسيا حسابات جمّة معقّدة في المسألة السورية. غير أن الصورة ظلت «ضبابية» بالنسبة لأولئك الذين فضّلوا قراءة موقف موسكو على أنه لا يخرج عن كونه مجرّد رسالة موجّهة إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية عنوانها «نحن هنا» الغاية منها منع إهمال موسكو كما حدث في ليبيا.
كانت تلك قراءة البعض بعد «الفيتو» الروسي-الصيني الأول. إلا أن عددًا متزايدا من هؤلاء أخذوا يغيّرون قراءاتهم بعد «الفيتو» المزدوج الثالث، ويتنبّهون لجديّة وعناد لا لبس فيهما في الكرملين يعبّر عنهما أسوأ تعبير وزير الخارجية سيرغي لافروف.. ومعه أبواق الإعلام الأمني الروسي في وسائل الإعلام العربية والعالمية. إذ غدا واضحًا لكثيرين أن المسألة تجاوزت «التذكير» وقاربت ما هو أخطر، ولا سيما، أن موقف واشنطن الحقيقي أخذ ينكشف خطوة خطوة بالتوازي مع مسيرة «تطبيعها» النووي والسياسي مع طهران، ومسلسل تساقط «الخطوط الحمراء» سوريًا.
ولم يطل الوقت حتى تأكد أن الولايات المتحدة ما عادت جزءًا من مجموعة «أصدقاء سوريا» – وهذا إن كانت كذلك أصلاً – بل صارت في أفضل الحالات طرفًا «محايدا». ومن ثم، أضحت لقاءات لافروف مع نظيره الأميركي جون كيري أقرب إلى جلسات انسجام وصفاء ودية منها إلى اجتماعات بحث جادّ في قضايا خلافية.. على وقع المجازر والمآسي في مختلف أنحاء سوريا، ناهيك بغرقى البحار ومعاناة نازحي اللجوء.
خلال السنوات الأخيرة، مع تخلّي باراك أوباما عن السوريين.. وتذرّعه بالتصدّي لخطر «داعش» الذي اعتبره أولوية الأولويات بالنسبة لواشنطن، لم تكتف موسكو بدعم نظام الأسد بالسلاح والذخائر والدبلوماسية في أروقة السياسة الدولية، بل نشطت على مسار ضرب المعارضة السورية الحقيقية، وضرب صدقيتها، واصطناع «معارضة» عميلة أخرجتها من تحت عباءة النظام ودهاليز استخباراته، بل وفي حالات معينة، من وزرائه وساسته والناطقين باسمه «سابقًا».
وللأسف، عند هذه النقطة نجحت موسكو في استثارة حساسيات معيّنة داخل بعض الدول العربية، راهنت عليها لتستقوي بها في مؤامرتها الهادفة إلى تفجير المعارضة السورية من الداخل. وبالفعل، بوشر باصطناع «معارضة» مزيفة من أزلام النظام وعملائه بهدف تحويل أي «حوار» سياسي يتبنّاه المجتمع الدولي إلى «دردشة» يجريها نظام الأسد مع نفسه، لتنتهي بإعادة إنتاج الطغمة ذاتها.. كي تمارس دورها ذاته، ولكن بوجوه بعضها غير مستهلَك في أعقاب إحالة المستهلَكين إلى التقاعد.
لكن هذه الخطة في حدّ ذاتها ما كانت كافية، في ظل إخفاق الميليشيات الإيرانية «المتعددة الجنسيات» في حسم المعارك على الأرض، واحتفاظ قوى الثورة والمعارضة بقوة الدفع والعزيمة، رغم كل التفخيخ والتفجير السياسي عبر «المعارضات المزيفة» والتفجير العسكري عبر «داعش» الذي كان – ولا يزال – يقاتل الثوار مدعومًا بتواطؤ النظام.
أكثر من هذا، كان هناك قلق في أوساط بعض الأقليات الدينية والمذهبية مما تعنيه هيمنة ملالي طهران وحرسهم الثوري على سوريا، وحملة الاستحواذ الإيرانية على الأراضي في مختلف أنحاء البلاد عبر التهجير والتبادل السكاني والشراء الإغرائي والقسري والتحايلي (ومنها بيع عقارات المهجّرين).
وهكذا، تضافر عاملا «صمود الثورة» ميدانيًا و«القلق الأقلياتي» – ولا سيما المسيحي – من الهيمنة الإيرانية، لإقناع موسكو بضرورة التدخل العسكري المباشر. وتيسّر لها ذلك في سبتمبر (أيلول) 2015 دون أي مشكلة بفضل «عقيدة أوباما» القائمة على الاصطفاف مع «الشيعية السياسية» على امتداد الشرق الأوسط بمواجهة «التطرّف الإرهابي السنّي» ممثلاً بـ«داعش» و«القاعدة» وإفرازهما السوري «جبهة النصرة».
اليوم تخوض روسيا وإيران الحرب الميدانية في سوريا على الأرض، بينما تواصل واشنطن التملّص من أي التزام لها مع المعارضة السورية. بل إنها تنسّق ليس فقط مع الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي (أحد الوجوه المعتدلة للشيعية السياسية على مستوى المنطقة)، بل تطلِق في العمق وعلى مستوى عالٍ مع أكراد العراق وسوريا مسارًا يهدّد بالتعجيل بتقسيم العراق وسوريا، وربما تركيا أيضًا.
واشنطن تتعامل راهنا مع سلطات إقليم «كردستان العراق» كدولة ناجزة السيادة، سياسيا وعسكريًا وماليًا، من دون المرور حتى بحكومة العبادي. أما بما يخصّ سوريا، فهي تتجاهل تمامًا التدخل الإيراني العسكري المباشر، وتتبنى التفسير الروسي لكل الوثائق والتفاهمات السياسية في جنيف، وتصمت على مساعي موسكو الحثيثة لاصطناع «معارضة» عميلة تنسف بها فعليًا أي مفاوضات تنتهي بحل سياسي.
هذا الموقف الأميركي، كما سبقت الإشارة، تفسره أبلغ تفسير «عقيدة أوباما»، لكن ما ليس أقل منه أهمية فهم «السيناريو» الروسي في ظل التفويض الفعلي الأميركي لموسكو.
إن محوَرية التصوّرات الروسية للمنطقة تؤكدها هذه الأيام ليس فقط زيارة قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني لموسكو، وسط سكوت أميركي تام، ولا إصرار موسكو الشديد على وجود كردي موالٍ لها منفصل عن المعارضة في أي مفاوضات مقبلة، بل الحوارات المستمرة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.. أيضًا.
إسرائيل لاعب أساسي في كل ما يحدث في المنطقة، وتصوّر وجود «نأي بالنفس» إسرائيلي – على الطريقة اللبنانية – عن أوضاع المنطقة وخرائطها المستقبلية وهمٌ كبير.
نعم، إسرائيل لاعب مؤثر وحاسم، ومحسوب حسابه في واشنطن وموسكو وطهران، ولا خرائط للمنطقة بغير علمها وبمعزل عن مصالحها ومطالبها.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”