ما يحدث في المدن السورية منذ ثلاثة أعوام ، تجعل المتابع يفقد الثقة بانسانيته ، وبالمنظمات التي تتحدث باسمه على امتداد بقعة الأرض . والاّ بايّ منظار يرى هذا العالم الذي يدّعي التمدن ملايين المشردين السوريين ، من الاطفال والنساء والشيوخ ، بكلّ اتجاهات الارض ، ومجاهيل البحار ومخيمات اللجوء ، هرباً من براميل النار وقنابل الغاز السام والسلاح الكيمياوي ؟ وبايّ ذريعة يسمح هذا العالم المتبلد بتجويع سكّان مدن باكملها ، كما حدث في المعظمية ، ويحدث الان في حمص ومخيم اليرموك وغوطة دمشق وداريا وسواها ؟ أليس في هذا الحريق الهائل وذلك التجويع القسري ، تنفيذا ً صريحا ً لشعارات نظام الأسد ذاته ، المكتوبة على الجدران والدبابات التي تجتاح المدن السورية : الأسد أو نحرق البلد ، الأسد أو لا أحد ، التجويع أو التركيع ؟ أم ان كل اجهزة المخابرات الدولية المتواجدة على الأرض السورية لا تجيد القراءة ؟ خصوصا ً بعد ان انكشفت مسرحية ( داعش ) التي جلّ طاقمها من خريجي سجون سوريا والعراق ، وايران التي تشرف وتدرّب وتعطي التوجيهات ، والدواعش ينسقون مع الاجهزة الامنية لتلك الدول لتنفيذ السيناريوالمطلوب ، والذي قرأه المواطن العادي ولم يقنع به ، رغم رخاوة اوباما الذي أراد افهامنا بانّه قد ابتلع الطعم و سمّاه ارهابا ً ، لا لشئ الا من اجل زرقة عيون نتنياهو، الذي مرّر مقولته ( نارهم تاكل حطبهم ) فليقتلون بعضهم بايديهم ، ومعهم حزب الله وايران ، وكل من يرغب بالجهاد او المشاركة في حلبة قتال المسلمين من كل بقاع الارض ، على الارض السورية ، وهاهي الحدود مفتوحة ومشرعة ، للمخبرين واللصوص والغرباء والمرتزقة والدسائس ، وكل اشكال التهريب .
سوريا أقدم مجتمع مدني عرفته البشرية ، واهل معلولا مازالوا يتحدثون بلغة المسيح الاولى ، أليس هنالك في هذا العالم من يدافع عن مثل هذه القيم ، فلم نر في الواقع سوى الأب باولو النبيل ( جيفارا شعوب الصليب ) الذي اختطفته داعش وسلمته لنظام الأسد ، كما فعلت مع السيدة رزان زيتونة ( روح الثورة السورية وشعلتها الانسانية ) وزميلاتها الاخريات ؟
سوريا عصيّة على التقسيم ، بحكم مدنية المواطن السوري ، ووعيه التسامحي الفطري ، المتراكم عبر مئات السنين ، مع الآخر المغايروالجار المختلف ، وفي غير ذلك ، فيعني انشاء اقليم علوي مثلا ً استمرارا ً لحرب أهلية قد تمتد مئات السنين ، ولايخدم هذا اي استقرار اقليمي او دولي منظور . وبات العالم يدرك ان نظاما شموليا كنظام البعث الطائفي الملكي الدموي ، لايمكن ان يتنازل لشعبه او لاْية قوى سورية معارضة ما لم يكن هنالك ضغط دولي حقيقي ، وتشريع قوانين على وجه السرعة ، تقود هذا النظام الى المحاكم الدولية أسوة ً بمجرمي الحروب وقاتلي شعوبهم .
هذا الكلام كله يذهب ادراج الهباب ، ويعود الانسان لاحتقار ذاته ، حتى مقابل حقيقة المقولة الواقعية التي تقول ( ابحث عن المستفيد لتعرف السبب ) . وقد بات هذا معلوما ً عند الجميع حتى التخمة ، بمن فيهم الصم والبكم من بنينا ، ومن بني اسرائيل ، ولكن الا يكفي كل هذا الخراب بعد ثلاثة اعوام ؟ كما لم يكن أحمقا ً ( رامي مخلوف ) ابن خال الأسد حين أعلن في الاشهر الاولى للتظاهرات السلمية في سوريا من ان ( أمن سوريا من أمن اسرائيل ) .. فها هي سوريا الان منهكة ومدمرة ومنتهكة ، بينما اسرائيل آمنة ومتفرجة ومبتسمة . ومع هذا لا يمكن الا ان ندين هذا العالم المتواطئ ، الصامت ، المتخاذل ، المتبلد ، ازاء ما يحدث لسوريا وللسوريين ، بعد كل تلك الاعوام ، وتلك المجازر والحرائق والويلات .
لم يقل لي أحد ، رأيت بعيني أنا العراقي ، كيف كان الشباب المتظاهرون يهتفون ( واحد واحد واحد ، الشعب السوري واحد ) ، وكيف كان يأتيهم الشبيحة من زقاق جانبي ، ويدّسون بين صفوفهم عربة من الاسلحة ( لعلهم يستخدمونها ) ثم ينهالون عليهم بالهراوات ، فينسحب المتظاهرون تاركين وراءهم الشبيحة لوحدهم مع عربة أسلحتهم ، ليزمجر الهتاف من شارع آخر ( سلميّة ، سلميّة ، سلميّة ) ، و( الله ، سوريا ، حريّة وبس ) .
رأيت بعيني ، لم يقل لي أحد ، أنا السوراقي ، كيف استلبت ايران العراق ، وكيف سمح لها بتكرار ذلك في احتلالها سوريا أمام انظار العالم ، وكيف بين ليلة وضحاها ، تجد على نقاش التفتيش في الحارات السورية ، من لا يجيد من العربية سوى بعض الكلمات ، في سؤاله عن اسمك واتجاهك ، وكلمات وقحة تأمرك بالابتعاد ، مما يدلل على انهم عرب ، ولكن من دول اخرى كأيران أو لبنان أو اليمن .
رأيت بعيني قناصا ً، يقنص رأس بائع الخضرة ، الشاب الجميل الطيب في حارتنا ، والذي كانت جل ّ معارضته للنظام ، تتمثل في حمله عدة رؤوس من البصل في كيس نايلون ، ليعالج بها المتظاهر الذي يغمى عليه في التظاهرة ، جراء استنشاقه الغاز الذي يطلقه عليهم النظام الأسدي .
رأيت بعيني سجينا ً أشبه بهيكل عظمي بعد ان أطلق سراحه ، فقط من اجل ان يخبر المتظاهرين من ابناء حارته بالذي فعلوه به ، والذي منه تعليقه بمروحة سقفية لايام متواصلة ، من دون ماء أو طعام أواستخدام الحمّامات ، هذا كي يكفوا عن التظاهر والهتاف للحريّة . لكنهم تظاهروا في اليوم التالي ، وفي مقدمتهم السجين الذي أطلق سراحه .
رأيت بعيني كيف أعجب المالكي بأداء الأسد الابن ( رغم انه قد اشتكاه لواشنطن من قبل ولمرتين قبل حراك الشارع السوري الاخير ، من انه ( اي الأسد ) يرسل الارهابيين والمفخخات الى العراق لإفشال العملية السياسية ) ، لكنه الان يكرر لعبة الاسد ذاتها في الرمادي ، بذات سيناريو داعش ، لذات السبب الا وهو التمسك بالسلطة . فسارع المالكي الى مدينة كربلاء ذات الدلالة الخاصة عند الشيعة ، ليعلن منها ان حرب يزيد مع الحسين مازالت متواصلة حتى اليوم ، ليحشد حوله عوام الطائفيين والمتعصبين لجهالة أو لعواطف متوارثة ، ولكن السيّد مقتدى الصدر ، الذي أوصل المالكي الى رئاسة الوزراء ، بتحالفه معه ، ردّ عليه قائلا ( أتحداك ان استطعت ان تثبت بانّ قاتل الحسين هو سنّي … ) ، وكتب وصرّح سياسي مرموق بصدد خطاب المالكي في كربلاء بان ( لو كان هنالك من يعمل باحكام الدستور العراقي ، لحوكم المالكي بسبب خطابه هذا بجريمة اشعال الفتنة ، وتأجيج الحرب الأهلية ) .
لم يقل لي أحد ، رأيت بعيني زيارة الرئيس الايراني السابق احمدي نجاد الى المالكي ، وبحدود ايام معدودات فقط ، وصل الامداد لبشار الاسد بأكثر من 1400 داعشي مرة ً واحدة ، توزعوا بين الرقة ودير الزور والرمادي ، تحت غطاء تمثيلة الهروب المفبركة ، من سجني التاجي وابي غريب .ولكن من سوء حظهما معا ، فالجيش الحر في سوريا ، والاهالي هم الذين يحاربون داعش بعد ان رفضتهم الناس ، وليس النظام ، وثوار الرمادي والعشائر العربية الوطنية الاصيلة هي التي تطارد داعش في العراق ، وليس سواهم .
سوريا ليست كلمة ، وأنا السوراقي ، أنهيت أكثر من ثلاثين عاما ً في المنافي ، بانتظار سقوط نظام القائد الضروري جدا ً صدام حسين في العراق ، والان أنزف ماتبقى من الايام في عمري المنهك ، بانتظار سقوط نظام الأسد أو لا أحد .. وكل ّ انتظار ٍ أمرّ من الآخر ، فعلى ايّ جانبيك تميل ؟ !
المصدر ايلاف