الهدف الرئيس المعلن لمؤتمر «جنيف 2» كما شرحه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، هو إنهاء الحرب الأهلية والتوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة المتجذرة في سوريا منذ شهر مارس (آذار) 2011. لكن احتمالات النجاح ضئيلة للغاية. الانطلاق هو من وثيقة مؤتمر «جنيف 1» التي يختلف طرفا المفاوضات على تفسيرها. أهمية وثيقة «جنيف 1» أنها الوثيقة الوحيدة التي اتفقت حولها الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن، إضافة إلى دول أخرى.
بعد افتتاح المؤتمر، بدأت المفاوضات بين وفد الحكومة السورية ووفد الائتلاف الوطني المعارض، ورغم خبرة الوسيط الدولي والعربي الأخضر الإبراهيمي فإن المفاوضات بين الطرفين ظلت هشة وقد تنهار في أي لحظة.
الوفد الرسمي، وقبل البدء بالمفاوضات السياسية، أراد – كما يقال – أن يأتي «من فوق»، فقدم ورقة تنص على نبذ التعصب والتكفير واحترام سيادة سوريا واستعادة أراضيها وحق الشعب السوري في اختيار نظامه السياسي.
المعروف عن المفاوضين السوريين شطارتهم، بأن يأخذوا الطرف الآخر إلى البحر والعودة به عطشان. اعتقدوا في «جنيف 2» أن يقفزوا على «جنيف 1»، ولما رفض الائتلاف، أطلق الوفد الرسمي العنان لأسلوبه المعروف بقوله: «إن الورقة التي جرى تقديمها لا يمكن لأي سوري شريف يفتخر بسوريته ويحب وطنه أن يرفضها». عدنا إلى إدخال الشرف في المزايدات.
الفريقان دخلا القاعة، وكل ينظر إلى ساعته؛ متى تحين ساعة الانتهاء. روسيا ضغطت على دمشق، والأميركيون هددوا المعارضة بقطع المساعدات عنها إذا لم تحضر. لكن الفريقين يعتقدان إمكانية الحسم العسكري، رغم توافق كل المراقبين العسكريين على عدم قدرة أي منهما على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر.
وكان تردد في كواليس قاعات المفاوضات بجنيف، أنه إذا حصل ووافق الائتلاف الوطني على دعم وقف إطلاق النار من دون أن يشترط رحيل الأسد، فإن وزير الخارجية السوري وليد المعلم لديه تفويض بعرض حقائب وزارية على الائتلاف، لا تتضمن أي وزارة استراتيجية. ومن بين تلك الوزارات: الزراعة، الري، الثقافة، النقل، الصناعة والاتصالات.
في هذا الوقت، تحولت ساحة المعركة إلى حرب استنزاف تتمتع فيها قوات الرئيس الأسد بالتفوق، لكنها غير قادرة على توجيه ضربة عسكرية حاسمة.
في لقاء مصغر مع أحد القادة العسكريين الغربيين بلندن، رأى أن المعارضة في موقف أضعف مما كانت عليه في السنة الماضية، فاتفاق نزع الأسلحة الكيماوية أعاد النبض إلى شرايين النظام، وموازين القوى التي كانت تتأرجح على الأرض صارت في مصلحة النظام منذ منتصف عام 2012 عندما بدا كأن الثوار سيلحقون هزيمة بالقوات النظامية. إلا أن روسيا قامت بتعزيز الأسد عسكريا، وكذلك فعلت إيران ومقاتلو حزب الله، ومن جهتها صارت المعارضة عرضة للكثير من الانقسامات الداخلية في صراعها على السلطة، وبعدما ارتكبت الخطأ الجسيم باعتبارها «النصرة» و«داعش» في البداية جزءا من الثورة، واعترض معاذ الخطيب، الرئيس السابق للائتلاف، على وضع الولايات المتحدة «النصرة» على قائمة الإرهاب، ثم كشف مقاتلو «النصرة» و«داعش» بالذات عن أهدافهم الحقيقية، وهي إقامة «الخلافة» التي تطلبت منهم ارتكاب جرائم بحق سكان الأراضي المحررة، وتوجيه أسلحتهم إلى الجيش السوري الحر. وتشعبت معارك المعارضة، ولا مجال لتعداد الألوية التي يقاتل بعضها بعضا. وكان الغرب بدأ يشتري حجة الأسد بأن كل المعارضة السورية فريق مختلط من الإرهابيين، فأعطاه القتال الداخلي دعما لادعائه أن المعركة الحقيقية في سوريا هي ضد «الإرهابيين» و«الخونة».
ويضيف المصدر العسكري: «حقق النظام تقدما في دمشق وعلى الحدود السورية – اللبنانية، وحمص وضواحي حلب، أي المناطق التي يعتبرها ذات أولوية استراتيجية بنظره، وعليها ركز الهجمات العسكرية. في حمص وعلى الحدود مع لبنان، ساهم مقاتلو حزب الله في ترجيح كفة ميزان العمليات العسكرية لمصلحة النظام، كما أن الأسد استطاع المحافظة على وسط دمشق وحماه وإدلب والمدن الساحلية».
يبقى شمال البلاد الواقع تحت سيطرة الثوار والجماعات الجهادية، ومع ذلك حافظ النظام على وجود محدود له في بعض المناطق مثل الرقة ودير الزور. هدفه احتواء هذه المناطق في الوقت الحالي قبل محاولته في مرحلة لاحقة استعادة السيطرة الكاملة عليها. في الشمال الشرقي (حيث الأكراد)، فإن «الحزب الاتحادي الديمقراطي» عمّق قبضته على الأرض بالتعاون مع النظام، وأعلن الأسبوع الماضي تشكيل حكومة الحكم الذاتي، وأطلق على الشمال الشرقي لسوريا اسم «روجوفا» أي غرب بلاد كردستان.
في دافوس وأثناء لقائه مديري شركات النفط العالمية، قال ممثل حكومة كردستان العراق: «سنعلن استقلال كردستان في السنوات الخمس المقبلة».
وحسب المصدر العسكري، فهناك حالة من عدم الاستقرار في جنوب سوريا وحلب، حيث من الصعب تقييم أي من الطرفين له اليد العليا. يبدو أن النظام قد اكتسب زخما في ضواحي حلب، لكن في الجنوب فإن الثوار يقوضون قبضة النظام على الحدود مع الأردن. ويبذل النظام كل ما في وسعه لبسط سيطرته على المدن، ومنع طرق الإمداد للمعارضة عبر الحدود مع الأردن ولبنان.
الذي عزز قوة النظام، وسهل له تسجيل انتصارات تكتيكية على المعارضة، هو الدعم الخارجي الذي يحظى به في مختلف المجالات. حزب الله قوى النظام إلى درجة كبيرة في حمص وبالقرب من الحدود اللبنانية، في حين أن الثوار في شمال سوريا تلقوا الجزء الأكبر من الدعم عن طريق تركيا، وهم ركزوا على قصف أهداف استراتيجية مثل مرافق تخزين الأسلحة والمطارات، لكنهم يجدون صعوبة في السيطرة بسبب دأب النظام على محاولات استعادتها. كما أن تمدد الثوار تباطأ في الأشهر الأخيرة.
ويضيف المصدر العسكري، أنه ورغم أن النظام لديه ميزات عسكرية بما فيها التفوق الجوي والتكنولوجي، فإن هذا لا يعني أن النصر الحاسم بانتظاره، فهو أصبح يعتمد بشكل متزايد على حزب الله وإيران اللذين ينظران إلى سوريا كجسر جيو – استراتيجي بينهما، ومع دعمهما قد يحقق النظام مزيدا من المكاسب في المناطق التي تدخل في أولوياته الاستراتيجية، لكن النصر العسكري الحاسم سيظل بعيد المنال، لهذا فإن «جنيف 3» سيتحدد لاستكمال طريق الحل الدبلوماسي، حتى ولو لم يؤد «جنيف 2» إلا إلى تغيير القليل من التوقعات الأكثر تشاؤما.
وفي ظل الإمدادات العسكرية الواضحة التي يتلقاها النظام، كانت لافتة جرأة الوفد السوري في جنيف، باعتراضه يوم الثلاثاء الماضي على تصويت الكونغرس الأميركي على تزويد المعارضة بأسلحة غير فتاكة. بثينة شعبان اتهمت واشنطن بأنها تدعم الإرهاب. فالعقلية المتحكمة في الوفد الرسمي هي التركيز فقط على مكافحة الإرهاب، أي إن كل من يصنفه النظام معارضا له يقع فورا في خانة الإرهاب، وفي المساء أطل فيصل المقداد على شاشة الـ«بي بي سي» ليدين هو الآخر الموقف الأميركي، وليضيف أن وفده يتطلع أيضا – كما طالب الائتلاف – إلى سوريا ديمقراطية وتعددية.
الأميركيون يعرفون أن المفاوضات ستكون مملة وطويلة، والروس كذلك. هناك من يقول إن تعزيز المعارضة عسكريا هو خطوة أولى يجب أن تكون جزءا من استراتيجية سياسية أكبر. وبعض الأوساط تدرس اقتراحا لتقاسم السلطة في سوريا على نسق ما جرى في البوسنة، مع فيدرالية فضفاضة تشرف على مناطق الحكم الذاتي، للأكراد، والسنة والعلويين جنبا إلى جنب مع منطقة مركزية مختلطة قد تتطلب قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة بهدف المساعدة على تهدئة التوتر والمخاوف. وبموجب هذه الخطة، قد يكون عندها للأسد دور، ليس لأنه يحق له ذلك، بل لأن المعارضة لا تملك الوسائل للإطاحة به.
للتذكير في هذا المجال، فإنه تم يوم الثلاثاء الماضي في لاهاي استئناف محاكمة الصربيين راتكو ملاديتش القائد العسكري، ورادوفان كاراديتش الزعيم السياسي في البوسنة إبان الحرب الأهلية.
منقول عن الشرق الاوسط