لم توفر الجماعات الإسلامية المتطرفة التي وصلت للجهاد في سوريا البشر، والحجر، والشجر، من عنفها وإجرامها، حتى إنها شنت بعضها ضد بعض عمليات إبادة، وخطفت البنات، وأعدمت الأطفال.
بعد أشهر قليلة من بدء الحرب في سوريا أبلغ مسؤول سوري سابق كان يقيم في الخارج سياسيا لبنانيا بأنه مع الأيام سوف تصبح سوريا قاعدة لتنظيم القاعدة. بعد أكثر من ثلاث سنوات صارت سوريا فعلا «مهدا» لطفرة جديدة من فروع «القاعدة» وجاذبا لتجنيد الجهاديين.
عمدت حكومة الرئيس بشار الأسد إلى اتهام الآخرين بأنهم السبب في تدفق الجهاديين الأجانب إلى سوريا، واتهمت دولا خليجية وأخرى إقليمية بأنها تمد المقاتلين بالأسلحة، لكن ما يجب ألا يغيب عن البال أن طابخ السم آكله، وأن النظام السوري يواجه عدوا أسهم هو في إنشائه.
في التسعينات، وبسبب ضغوط وقمع النظام، صار المجتمع السوري أكثر تدينا. لم يكن ذلك بسبب تنظيم «الإخوان المسلمين» كما كان الأمر في مصر، بل تطلع السوريون إلى توجهات إسلامية أخرى، واتبع البعض الحركة السلفية، وقد وصلتهم عبر أقنية تلفزيونية خليجية، فصار بعضهم من أهل الجهاد.
لاحظ النظام الأمر وقرر التحكم في تلك الظاهرة، ولكونه يعتمد على الاستخبارات قرر منذ بداية تلك الحركات اختراقها، لكن التغيير الفعلي وقع مع غزو الأميركيين للعراق، حيث هاج السلفيون السوريون، وصاروا متصلبين. أرادوا الذهاب إلى العراق لمقاتلة الأميركيين، ولم يعد باستطاعة الاستخبارات السورية السيطرة عليهم، وبدلا من عدم تشجيعهم استغلت الاستخبارات الفرصة وعملت على تشجيعهم للذهاب. كان أمل النظام التخلص من كثيرين صاروا يسببون مشكلات داخلية، ورأى أنه كلما طال التورط الأميركي في العراق كان هذا أفضل للنظام السوري.
في 7 يونيو (حزيران) 2007، قال شحادة جوهر، وهو فلسطيني من مخيم عين الحلوة في صيدا، قاتل في العراق، لتلفزيون «العربية»: «جاء ضباط من الاستخبارات السورية والتقوا (أبو مصعب الزرقاوي) عارضين عليه السلاح، لكنه رفض كي لا يقال إنه أخذ السلاح من الاستخبارات السورية (…) لم يكن من مصلحة سوريا أن تهدأ في العراق لأنه إذا ارتاح الأميركيون هناك فسيفكرون في دول أخرى. حتى إيران أرادت أن تورط الأميركيين أكثر في العراق للسبب نفسه، فحركت شيعة في العراق وأمدتهم بالسلاح لمقاتلة الأميركيين».
هكذا في فترة وجيزة صارت سوريا نقطة لقاء لكل الجهاديين الأجانب الذين يتوقون للانضمام إلى الجهاد في العراق، وسمحت الحكومة السورية للجهاديين بإقامة منازل آمنة، ومد خطوط إمدادات تسمح للجهاديين الأجانب بالمجيء إلى سوريا من أجل التوجه إلى العراق. أغلب تلك المنازل الآمنة وخطوط الإمدادات لا تزال تستعمل الآن إنما ضد نظام بشار الأسد. يقول شحادة جوهر: «ذهابنا كان منظما تنظيما دقيقا. تحركنا من صيدا إلى شتورا، حيث كانت في انتظارنا مجموعة من السوريين، وعلى الحدود السورية أخذنا شاب سوري إلى قلب دمشق، ومن هناك حتى الحدود العراقية حيث استقبلونا في مضافة قبل أن نتوجه إلى داخل العراق».
بعد ذلك، جاءت مرحلة «الصحوات» في العراق، ولم يعد بالتالي الكثير من الجهاديين راغبين في البقاء هناك، وبدأوا العودة إلى سوريا، عندها أقدمت الحكومة على ثلاثة أمور: اعتقلت البعض وزجت بهم في السجون، وهذا ما أثار حفيظة هؤلاء فأضمروا العداء. الأمر الثاني الذي أقدمت عليه الحكومة السورية أنها أرسلت كثيرين إلى لبنان، وإلى بعض المخيمات الفلسطينية هناك حيث لا سلطة للدولة اللبنانية عليها، أما من بقوا منهم فقد تسببوا في العديد من المشكلات في طول البلاد وعرضها.
عام 2000 وقعت عدة هجمات إرهابية في سوريا، وكانت أجهزة الأمن الغربية الموجودة في دمشق آنذاك ترسل تقاريرها عن وقوع عمليات إرهابية شهريا. بسبب أنواع الدعم التي وفرها النظام السوري للإرهابيين في الماضي صارت لديهم هيكلية وجود داخل سوريا ساعدتهم على الانضمام إلى الصراع الحالي عندما اندلع.
بعد عام 2011 فوجئ كثيرون كيف نجح الجهاديون في تكوين حركات إرهابية وبسرعة داخل سوريا، وكيف دخلت تلك البلاد خلال فترة قصيرة في حرب مذهبية.
كان الرئيس السوري ولا يزال يقول لشعبه وللعالم إن هذا الجنون الإرهابي بسبب دول خليجية وبسبب تركيا ولبنان، والتي تعطي السلاح والمال وتؤمن المعابر. لكن الحقيقة لها وجه آخر، إذ إن أحد الأسباب الرئيسية لما حل في سوريا الآن من أعمال إجرامية يقترفها الإرهابيون أنه هو نفسه ساعدهم لتجميع أنفسهم في بلاده عندما كان هذا من مصلحة النظام. كما أننا ومن ناحية أخرى نلاحظ كيف أن النظام رغم هجماته العشوائية الشرسة ببراميل المتفجرات يتجنب قصف بعض المجموعات الإرهابية وعلى الأخص «داعش» (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ورغم أنه ليس هناك ما يثبت أن المنظمة ككل تتحكم بها الاستخبارات السورية، فإنه من المؤكد أن عددا من قادة «داعش» لهم ملفات عند تلك الأجهزة منذ فترة التعاون.
أيضا في شهر أغسطس (آب) من عام 2003 ظهر موقع «البراق» كموقع سوري منطلق من «سيريا روم. نت»، كان يعبر عن المعارضة للسلطة الفلسطينية، ثم توقف ليعود للظهور عام 2006 كموقع ناطق باسم الجهاديين في العراق وعلى رأسهم «الجيش الإسلامي في العراق»، ثم كان تلفزيون «الزوراء» الذي أسسه العراقي مشعان الجبوري وكان يبث من سوريا أفلاما جهادية تحمل شعار «الجيش الإسلامي في العراق»، ولا ننسى قصة تنظيم «فتح الإسلام» في لبنان الذي حارب الجيش اللبناني وبذلت سوريا جهدا كبيرا لتنفي علاقات الاستخبارات السورية به.
في 26 يونيو 2006 قال الرئيس السوري في مقابلة إن بلاده لاحظت تمددا لتنظيم القاعدة في لبنان بعد انسحاب جيشه. وفي شهر يوليو (تموز) 2006 حذر وزير خارجيته وليد المعلم من أن لبنان سيصبح عراقا ثانيا يجذب نشطاء «القاعدة».
في الثامن من يونيو 2007 نشرت صحيفة «الرأي» الكويتية اعترافات محمد سليمان مرعي الذي قال إن شقيقه الأكبر أحمد القائد في «فتح الإسلام» على علاقات وثيقة برئيس الاستخبارات العسكرية السورية آصف شوكت، وإنه همزة الوصل بين شوكت وشاكر العبسي زعيم «فتح الإسلام»، وإن أحمد مرعي بمساعدة رجال شوكت استطاع أن يهرّب إلى شمال لبنان «أبو أحمد العراقي» من «القاعدة» الخبير في صنع المتفجرات، وبعدها أعاده إلى سوريا.
بعد انكشاف علاقة «فتح الإسلام» بسوريا اختفى عن الإعلام عدد من قادة «فتح الإسلام» الذين كانوا سابقا مسجونين في سوريا وأعيد إطلاق سراحهم إلى لبنان، مثل شاكر العبسي ونائبه شهاب القدور «أبو هريرة». وصار زعيم «فتح الإسلام» شاهين شاهين والناطق باسم التنظيم. في ذلك الوقت (11 يونيو 2007) ذكرت صحيفة «تشرين» السورية أن شاهين الشامي صار القائد العسكري لـ«فتح الإسلام»، فأوضح آنذاك رجل الدين الفلسطيني الشيخ علي يوسف الذي كان يقود المفاوضات بين «فتح الإسلام» والسلطات اللبنانية، أن الاسمين لشخص واحد. ثم أعلن شاهين الشامي في بيان أن «فتح الإسلام» انضم إلى تنظيم «القاعدة» واقسم الولاء لـ«أبي بكر السعودي» كأمير محل شاكر العبسي (صحيفة «النهار» اللبنانية – 11 يونيو 2007). في اليوم نفسه كتبت صحيفة «تشرين» السورية أن شاهين الشامي نفى أي علاقة بين تنظيم «فتح الإسلام» وسوريا.
إذن، قصة النظام السوري والمجموعات الإرهابية التي نشهد فصولها الآن، شتعود إلى ما قبل بدء الصراع السوري بسنوات!
نقلا عن الشرق الاوسط