كان الطابع الباستيلي لهبات الربيع العربي – على نسق ثورة الباستيل الفرنسية التي كانت انفجارا ثوريا غاضبا يفتقد للقيادة وللرؤية الاجتماعية- هو الجانب الضعيف الذي ترك الأبواب مشرعة لسيطرة قوى دينية حسنة التنظيم والتمويل في مجتمعات عربية لم يترك لها حكامها الا اوهام الخلاص بتدخل مباشر من السماء.
يمكن ان نلخص النتائج بالقول ان التنظيمات الوحيدة التي ظلت على الساحة، بفضل الدعم المالي الواسع الذي كانت تتلقاه من مصادر عربية وغير عربية، بهدف لا يخفى على أحد ، شكلت مؤسساتها الاجتماعية وشبكة واسعة من الخدمات الاجتماعية وغير الاجتماعية، مهدت لها نجومية واسعة في أوساط الفقراء والمعدمين، في أنظمة عربية حولت 80% من الشعوب العربية إلى شعوب فقيرة ومسحوقة وشبه جاهلة تعليميا أيضا.. تلك هي التنظيمات الإسلامية الأصولية.
أصلا لم تقم أي تنظيمات إسلامية غير أصولية. وشاهدنا كيف يتحالف النظام مع تلك التنظيمات، وكثيرا ما خطب ودها. وسابقا قال الكواكبي :” الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني”…. فالويل من لقاء الاستبداديين!!
ليس بالصدفة أن المكانة السياسية للأصولية الدينية ارتفعت لتحتل الصدارة، رغم موقفها البعيد عن المشاركة في حركة الربيع العربي. ورغم تناقض أطروحاتها الاجتماعية مع أطروحات ثوار ميادين التحرير.
لست متفائلا من التطورات. ولكني لست متشائما من المستقبل. ما يقلقني هو الثمن الذي ستدفعه المجتمعات العربية لتتخلص من أوهام الدين السياسي أو السياسة الدينية، أو الاستبداد الديني…وطبعا الاستبداد السياسي !!
من ناحية أخرى لن أتفاجأ إذا قام قادة إسلاميين لتعقيل حركاتهم، فكرة تبدو غيبية، وربما غبية، هل يوجد عقلنة بدون قوة تفرضها كما هو الحال في تركيا “الاتاتوركية” ؟
طبعا واقع تركيا اليوم مع “السلطان اردوغان” في طريق العودة الى العثمانية الدينية!!
إن تعزيز علمانية المجتمع في عصرنا الحضاري المتنور سيقود إلى ردود فعل تطيح بتنظيمات الدين السياسي وتسقطه سياسيا أو تقلص تأثيره السياسي. السؤال ما هو الثمن الذي سيدفعه المجتمع في مثل هذه الحال؟ ربما هذا واضح في تونس بشكل نسبي. في مصر الصورة مركبة أكثر. لكن تحرك السيسي، رغم كل التعقيدات السياسية، يبشر بآفاق جديدة. في سوريا كل الأوراق مبعثرة الآن. كنا بمشكلة النظام ، المفاضلة اليوم بالغة التعقيد، لا نريد ان نرى تسلط قوى داعشية، الثورة التي بدأت بيضاء حولها النظام الى دموية.ما هي آفاقها اليوم؟ هل يمكن ان نرى بها البديل في الظروف المعقدة والآخذة أكثر بالتعقيد؟ تأييدنا للتدخل الروسي ليس حبا بالنظام، لكن هل من حل أفضل اليوم؟ هل صرنا مضطرين لقبول النظام لأن تفضيل داعش عنه مستحيلة؟
لا بد ان نؤكد ان علمانية المجتمع هي الأكثر أهمية، هي المقررة في مواقفنا من التطورات وكل تجاوز او تهديد لعلمانية المجتمع السوري يجب صدها بأي ثمن كان.
ما اعنيه بتجاوز علمانية المجتمع، هو قيام أنظمة دينية بدل أنظمة القمع الفاسدة التي نريد اسقاطها. الحل المفترض الذي توقعت ان يفرضه الربيع العربي ، هو نظام ديمقراطي ليبرالي يفصل بين الدين والدولة، وينهج على أساس حرية للدين وحرية من الدين.
لا استعمل اصطلاح “ديمقراطية ” بمعناه التاريخي الفلسفي، إنما بمعناه التطبيقي العملي المعاصر بصفته نظاما للتعددية السياسية وتبادل السلطة، أما بالتطبيق، الديمقراطية تعني بناء نظام سياسي للدولة على أسس قانونية تفصل بين السلطات وتفرض الرقابة القانونية على أجهزة الحكم وكوادر السلطة، ونظام يحمي أمن المجتمع وحقوق الإنسان والمواطن حسب جميع المواثيق الدولية، ويبني اقتصاد وطني على أسس متينة تكفل العمل والرفاه للمواطن، وتكفل تطوير مرافق التعليم والأبحاث التي بدونها لا تقدم ولا تطور.
المجتمع الديمقراطي يطور الحياة الحزبية (أو تنظيمات المجتمع المدني) للمنافسة على خدمة المواطن وليس للمنافسة على المصالح الشخصية لقادة الأحزاب والتنظيمات. لا أعرف نظاما ديمقراطيا إلا الأنظمة الأوروبية ودساتيرها وطرق تنظيمها لمجتمعاتها واقتصادها وخدماتها للمواطنين. في المجتمعات الديمقراطية، المجتمع في خدمة المواطن وليس المواطن في خدمة المجتمع، والدين في خدمة المواطن وليس المواطن في خدمة الكهنوت الديني ورجاله.
ربما يكون السقوط الكبير في هذه الثورات بروز عجز اليسار العربي عن التعامل الفكري السليم مع حركات التغيير، وهذا برز بقوة في الموقف من الثورة السورية.
في فترة ما عرفنا في فلسطين ما يعرف اليوم في الدراسات السياسية الإسرائيلية ب “الصهيونيين الماركسيين”، وأكاد أرى تماثلا كاملا بين نهجهم الفكري والعملي ونهج الماركسيين اليساريين العرب من ثورة الشعب السوري، أو لنسميهم ب “البعثيين الماركسيين”.
الصهيونيون الماركسيون، نَّظروا حول الضرورة العاجلة، لإعادة إيقاف الهرم الاجتماعي اليهودي على قاعدته السليمة، من أجل إتاحة المجال لنشوء الصراع الطبقي في المجتمع اليهودي العتيد، وهو تطور لن يتحقق إلا ، حسب تنظيراتهم، في إطار إقامة الدولة اليهودية القومية، وهذا يقود فيما بعد إلى الصراع الطبقي ثم إلى الثورة الاشتراكية وكل الحلم الرطب الذي لا يختلف عن أحلام سائر الماركسيين بكل تياراتهم .. وعليه كانوا نشطاء في احتلال فلسطين وتشريد شعبها في سبيل بناء حلمهم الماركسي. وليس سرا أن الاتحاد السوفييتي في تلك الفترة (1948- فترة ستالين)، لم يكن بعيدا عن نفس تلك الأفكار “الماركسية” ، فدعم الصهيونية ومدها بالسلاح، كما دعمها اليسار العالمي كله بفهمهم الصبياني انها حركة تناضل ضد الاستعمار البريطاني لفلسطين ( وبعضهم توهم انها حركة لبناء مجتمع اشتراكي في فلسطين (الكيبوتسات المشابهة للكولوخوزات السوفييتية- بشكل سطحي طبعا- لأن هدفها كان تجميع اليهود ، كلمة “كيبوتس” تعني “تجميع”،أي تجميعهم باطار خلية اقتصادية عسكرية استيطانية) اليسار والاتحاد السوفييتي في وقته تغاضوا عن الجرائم ضد الانسانية التي ارتكبتها الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني ( عرض للجرائم اوردها المؤرخ اليهودي الانساني ايلان بابه في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين”)!!
البعثيون بكل أطيافهم والماركسيون وقفوا بمعظمهم ضد ثورة الشعب السوري ، بتنظيرهم ،عن نظام الممانعة، النظام المقاوم للاستعمار، نظام الصمود في وجه المؤامرات، نظام وطني قومي ، والشعب السوري الثائر مجموعات متآمرين وخونة، وعملاء عرب للإمبريالية والصهيونية. لذلك يتصدى البعثيون والماركسيون لمشاريع إسقاط النظام السوري “المقاوم” .
الصهيونيون الماركسيون شاركوا في سياسة تشريد الشعب الفلسطيني واحتلال وطنه، عمليا تنفيذ الأيديولوجيا الصهيونية التي قال عنها قائد صهيوني هو كورت بلومنفلد بأنها:”هدية أوروبا لليهود” والهدايا لا تقدم مجانا في السياسة الدولية. ربما كان الصهيونيين الماركسيين “إنسانيين” أكثر برفض المذابح ضد المواطنين العزل. وبرفض هدم هذا الكم الرهيب من القرى والبلدات الفلسطينية ( أكثر من 520 بلدة).
البعثيون والماركسيون لا يقلقهم عشرات الاف الفتلى برصاص قوى أمن النظام السوري، ولم يسمعوا عن 60 ألف معتقل( البعض يقول 100 ألف) منهم 20 ألف غير معلوم مصيرهم. وعشرات آلاف الجرحى من “المتآمرين الامبرياليين” أبناء الشعب السوري.
نظام ممانعة وصمود؟! لم نعرف ممانعته وصموده إلا في سحل شعبه المنتفض ضد فساد النظام وبطشه وإفقاره لشعبه، وسرقة ثروته الوطنية وتحالفه مع ملالي ايران ونظامها القمعي، وضمان أمن حدود الاحتلال في الجولان بشكل مطلق!!
لم أسمع عن شعب تحول كله إلى متآمرين على نظامهم. شعب يوصف بالعمالة للإمبريالية وكأن النظام السوري يشعلها حربا لا تتوقف ضد المحتل في الجولان، ولحماية منشئاته الوطنية المستباحة بشكل مذل من اسرائيل وطيرانها. ألم يشارك النظام السوري تحت القيادة العسكرية للامبريالية الأمريكية في ضرب العراق وضرب القوى الوطنية اللبنانية ، واحتلال مدمر للبنان استمر أربعة عقود مارس فيها النظام السوري القمع والنهب للثروة الوطنية اللبنانية، وما زال آلاف اللبنانيين مفقودين في السجون السورية ولا يعلم ذويهم عن مصيرهم شيئا.. الى جانب ما كشف عنه من مقابر جماعية لمذابح نفذتها المخابرات السورية ضد ابناء لبنان. وهل نسينا مخيم تل الزعتر الفلسطيني وجرائم النظام البعثي الأسدي ضد اطفاله ونسائه وسائر سكانه؟!
“نظام الممانعة الوطني” قاد سوريا الى حضيض اقتصادي، من رقي تعليمي إلى تدهور متواصل، هناك تراجع متواصل في مستوى eومستوى حياة المواطنين، من دخل 400 دولار شهري للعامل عام 1980 إلى ما دون أل 100 دولار شهري عشية الثورة ضد النظام. ال 400 دولار عي بحد ذاتها هي معاش لمواطنين مسحوقين. هناك فجوة مدمرة بين نمو سوريا الاقتصادي وازدياد عدد السكان ، التوقعات في دراسة اعدتها احدى مؤسسات الأمم المتحدة قبل الثورة انه في حدود العام 2015 ستزداد البطالة في سوريا بنسبة 100% ، أي أن النظام لا تعنيه مشاكل الزيادة السكانية وكيفية انتاج اماكن عمل جديدة. ونلاحظ ان معدل الدخل للمواطن من الانتاج القومي الاجمالي تسير من انخفاض الى انحفاض أي بزيادة افقار المواطنين.
هل سيصمدون بشعب جائع قرف حكامه بسبب سرقاتهم للثروة الوطنية وفرض رجالات السلطة ومقربيهم الخاوة على المصالح التجارية والمهنية حتى الصغيرة منها؟
قد ينقذ التدخل الروسي سوريا من الدواعش لكنه لن ينقذ شعبها من نظام انتهت صلاحيته.
هل يمكن ان يجري تحول سياسي يوحد بين القوى العقلانية مع النظام؟
اختلاط الأوراق خلق واقعا جديدا… حتى بعد القضاء على الدواعش الذي اراه أمرا ايجابيا وهدفا عاجلا وجوهريا .. يبقى المستقبل غامضا!!
nabiloudeh@gmail.com