الشرق الاوسط
تسارعت الحملات الإعلامية خلال الأسبوعين الأخيرين من جانب وسائل إعلام حزب الله وحلفائه في لبنان والعراق، مُهَوِّلةً من شأن «التكفيريين» الذين تأخر «الحزب» كثيرا في مواجهتهم. وقد لام الحزبَ على هذا التأخر والتردد قوميون ويساريون أيضا. وهذا ليس غريبا على الطوائف والإثنيات الحزبية والآيديولوجية في سوريا ولبنان وفلسطين. فالبعثيون والشيوعيون والقوميون السوريون هم مع النظام السوري ومع حزب الله وإيران منذ أكثر من عقدين. وهؤلاء يتقاضون بدلات مادية أو سلطوية ومن إيران إلى لبنان وسوريا وفلسطين بالطبع. كل هذا – كما سبق القول – ليس جديدا وليس غريبا، فالمشكلة لدى هؤلاء وبالدرجة الأولى إيجاد طرف داعم يستطيعون الاستناد إليه بعد الانهيار التدريجي ثم الزلزالي للأنظمة الاستبدادية الحاكمة أو التي كانت حاكمة (وهم شركاء صغار لها) باسم العروبة أو الحداثة أو العلمانية أو المقاومة. والطريف وغير الظريف أن هذه الحداثة كلها التي مثلها بالنسبة لهم الأسد والقذافي وصدام حسين، صارت الآن (من دون أن يجدوا حرجا في ذلك!) بأيدي آل الأسد، وحكومة ولاية الفقيه بطهران! وقد كانوا (وبينهم الحزب القومي السوري العلماني جدا) إلى ما قبل ثلاثة أشهر يدافعون عن بقايا نظام الأسد باعتبار أن انهياره يمثل انهيارا لمنظومة المقاومة، كما يمثل استسلاما للتنظيمات «الإرهابية» التي تقاتل ذلك النظام! وحزب الله يقاتل في سوريا منذ أكثر من عام. لكنه قبل ستة أشهر (وعلى لسان أمينه العام) حصر قتاله بالدفاع عن «اللبنانيين» في سوريا. ثم تقدم خطوة مع الأمر الإيراني بالقتال الكامل مع النظام وفي سائر أنحاء سوريا، فأضاف: «من أجل حشد الحزبيين، وإسكات تذمرهم من ازدياد عدد قتلاهم هناك» إلى هدف الدفاع عن اللبنانيين الشيعة بسوريا: الدفاع عن المقدسات الشيعية مثل السيدة زينب والسيدة سكينة وحجر بن عدي.. إلخ، لكنه في خطابه الأخير قبل أسبوعين حدد هدفين واضحين: مقاتلة التكفيريين، ومنع سقوط النظام. بعدها انطلقت وسائل إعلامه من كل ناحية في حملة على جبهة النصرة والسلفية الجهادية و«القاعدة»، (وهي بحسبهم تسميات متعددة لجهة واحدة). فأما وسائل الإعلام الشيعية فهي تتوجه إلى الشيعة في سائر أنحاء العالم لمساعدة حزب الله والمالكي في الحيلولة دون إبادة الشيعة بسوريا ولبنان والعراق، وأما وسائل الإعلام الأخرى (العلمانية والقومية واليسارية سابقا) فتعتبر أن «الظاهرة الإسلامية» التي أتت بها الثورات ما استطاع الوقوف في وجهها حتى الآن غير الأسد ونظامه، ولذلك لا بد من دعم النظام بشتى الوسائل من جهة، وحزب الله من جهة ثانية، لأن العدو واحد، فضلا عن فضائل الحزب في مقاومة إسرائيل من قبل ومن بعد!
لقد دخل في هذه الحملة على «التكفيريين» (الذين يسميهم الأميركيون والروس والأوروبيون: إرهابيين) الغربيون أيضا، وقبل حزب الله. بل إن وزير الخارجية الروسي رد أخيرا على وزير الخارجية الأميركي ومسؤولي حقوق الإنسان الذين طلبوا الرأفة بالمدنيين في القصير، بأن الأسد إنما يضرب الإرهابيين هناك، وليس من المنطقي أن يوقف النظام أو حزب الله إطلاق النار من جانب واحد!
وإذا كان المقصود الأول من خطاب نصر الله تحشيد الشيعة بالذات، وتبرير المخاطرة رغم كثرة القتلى واحتمال انفجار الصراع الشيعي – السني، فإن الهدف الثاني هو الالتقاء مع الغرب والروس على «مصالح مشتركة»، يصبح معها الأسد ونظامه تفصيلا بين التفاصيل. فتحت وطأة هذا التصعيد من شأن جبهة النصرة إرادة إرعاب للأوروبيين بعد الأميركيين. وقد اضطر ذلك الفرنسيين إلى التراجع بعض الشيء، كما اضطر وزير الخارجية البريطاني المتحمس لدعم الثوار السوريين إلى القول إنه لن يفعل ذلك إلا بعد مؤتمر «جنيف – 2» الذي لا يعرف متى ينعقد، هذا إذا انعقد! وقد ادعى أحد الكتاب المعروفين في صحيفة بارزة، أن وزير الخارجية البريطاني هو من المحافظين الجدد الكارهين للعرب والمسلمين! كما اكتشف فظاعة «جبهة النصرة» الكاتب الفرنسي المعروف برنار هنري ليفي (الذي كان شديد الحماس للثورة الليبية)، وعشرات المعلقين الإسرائيليين. وما عاد سرا خافيا أن بين أسباب تردد الأوروبيين وجود قوات لهم في جنوب لبنان، واحتمال تعرض حزب الله لها، شأن الأميركيين الذين كانوا خائفين من تعرض الإيرانيين لجنودهم في العراق، وانتهى بهم الأمر إلى تسليم العراق لإيران وخروجهم منه عام 2010 – 2011!
ولنعد بعد وصف المشهد المصنوع في الإعلام ودوائر القرار خلال شهور عام 2013، إلى حقائق المسألة. هناك مشكلة كأداء في وعي المسلمين الذين يعتبرون أنفسهم من أهل الاعتدال، والذين ينهمكون دائما في مناقشة الغربيين وخطاباتهم الإعلامية إرادة كسبهم. هؤلاء يريدون التسوية بين جبهة النصرة وحزب الله باعتبارهما وجهين لعملة واحدة هي التطرف، وهم يرون أنهم بذلك يتبرأون من «القاعدة» والجهاديين، ويسهلون على أنفسهم وعلينا عمليات النقاش والجدال مع الغربيين الذين لا يزالون متحيرين في كيفية إدانة حزب الله أو معاقبته، خوفا على الأمن في لبنان، وخوفا على المفاوضات مع إيران وروسيا. وهذه التسوية بين حزب الله وجبهة النصرة، وإن كان المقصود بها تخفيف الضغوط، وتمكين الثورة السورية من الحصول على الدعم هي خطأ، بل خطيئة في الوعي وفي قراءة الواقع أو فهمه. فجبهة النصرة المتشددة هي جبهة سوريا، وتقاتل النظام السوري. وهي تهدف لإسقاطه مثل الليبراليين والعلمانيين والإسلاميين الآخرين. بينما حزب الله هو جزء من المنظومة الأمنية والعسكرية الإيرانية، وهو يقاتل في لبنان وسوريا وجهات أخرى، وهو يجمع مقاتلين على أساس طائفي يقاتل بهم في كل مكان يكلفه به الولي الفقيه، ويقوده جنرال إيراني. وكما أن جبهة النصرة لا تقاتل في سوريا لنصرة الدين، فكذلك الحزب لا يقاتل بسوريا بقصد تحويل السنة إلى شيعة. السبب من الطرفين سياسي واستراتيجي. لكن الفارق الأساسي أن المتشددين في الجبهة هم مواطنون سوريون في الأعم الأغلب، بينما مقاتلو حزب الله هم مجموعات مسلحة من عدة بلدان وليس بينهم سوري واحد، ويجمعهم أمران: المذهب الديني، وإمرة المرشد. ونحن اللبنانيين، بل والعرب الآخرين، لا ننكر على حزب الله قتاله في سوريا لأنه حزب شيعي، بل لأنه تنظيم إيراني القيادة والتمويل والأهداف، وهو والتنظيمات المشابهة له ينشرون الانقسام والاضطراب والموت في لبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين!
إن الشعب السوري الذي يقاتل من أجل حريته، والذي فقد مئات الألوف، وتهجر منه الملايين، هو الكفيل في المستقبل القريب بتحديد مصيره ومن يحكمه، وهو من أجل حرية القرار ضحى ولا يزال. ولا شأن بذلك لا لإيران ولا لحزب الله ولا لروسيا. فاستناد النظام إلى هؤلاء وإلى كوريا الشمالية وأمثالها هو الذي مكنه من البقاء عقودا على أعناق الشعوب العربية في سوريا ولبنان وفلسطين.
لقد أسقطت الثورة السورية كل الثنائيات: الأسد أو نحرق البلد، ونظام الأسد أو لا يبقى لروسيا موطئ قدم في المنطقة، وإيران في سوريا ولبنان أو لا مقاومة، وحزب الله أو جبهة النصرة! إن الحقيقة الوحيدة الباقية هي الشعب السوري المقاتل من أجل حريته، وحرية العرب أجمعين.