لو رسمنا خطا بيانيا للحدث السوري لوقعنا على ثلاث حقب او منحنيات متباينة:
1 ـ حقبة اولى تصاعد فيها خط الثورة وتراجع خط النظام، وبدا وكأن منظومة قيم تتصل بالحرية والمواطنة والدولة والمجتمع المدني تحل في الوعي وستحل في السياسة محل منظومة رسمية سائدة لا تعرف شيئا من هذا كله، تقوم على التسلط والقمع والتخويف والنهب والتنكر لاية حقوق خاصة بالانسان كمواطن. هذه الحقبة شهدت اعمال عنف سلطوي اعتبرت العلاج الشافي لأدواء سوريا، التي تجرأت وتمردت على النظام، وصار من المبرر بالنسبة له معالجتها بطريقة لا تعود ترغب معها في غير العودة الى بيت الطاعة الأسدي، راضية مستسلمة. ومع أن فشل هذه الطريقة بدا واضحا وحتميا بالنسبة إلى كثيرين، بينهم كاتب هذه المقالة، فإن النظام اندفع الى تطبيقها بحماسة الواثق من انتصاره، فكان سلوكه افصح دليل على عجزه عن فهم ما يجري، والتعامل معه بعقلية لن تفلح في التصدي له او حتى في الحد منه.
2 ـ حقبة ثانية شهدت توازنا عاما نتج عن تنامي الثورة وارتباك النظام وتراجعه مناطقيا وشعبيا، وتبلور صورة اوضح عن ثورة لن تكون سلمية وقصيرة، ستفرض تطوراتها الناجمة عن اصرار السلطة على الحل الامني تحولات جدية على مسارها واهدافها. وستعبر عن نفسها في التحول من السلمية الى المقاومة فالعسكرة من جهة، وفي التخلي عن فكرة المصالحة مع النظام لاجباره على قبول الاصلاح، ومن ثم في رفع شعار اسقاطه، الذي ما لبث ان طاول كل رموزه واركانه. في هذه الحقبة، صعد النظام جهوده لاحتواء الثورة، التي تسارع تصاعدها وانتشارها وصار عاصفا، وفاضت امواجه عن جميع السدود التي حاولت احتجازه. ولكن، وبالنظر الى حجم القوى الهائل الذي وظفه النظام، فإن التوازن بين السلطة والمعارضة لم ينكسر، وساد الساحة ما اسماه صاحب هذه الكلمات: “عجز النظام عن اخراج الشعب من الشارع، وعجز الشارع عن اسقاط النظام”، ودخول المواجهة بينهما في حقبة من التراكم الكمي، فقدت الاحداث معها قدرتها على إحداث تراكم نوعي. رغم ما انجزه المقاومون من انتصارات محلية، ونجاح «الجيش السوري الحر» في احتواء العنف الرسمي المتصاعد بلا حدود، واستخدام جيش النظام المفرط لكميات هائلة من الاسلحة والذخائر، كانت لديه، او تم إمداده بها خلال المعركة، من روسيا وايران. هذا التوازن استمر رغم انحسار رقعة المناطق التي يسيطر النظام عليها، وظهور مناطق محررة لم تعد له اليد العليا فيها، ولم تعد مؤسساته وتنظيماته السياسية والشعبية ممسكة بها، وإن كان قد عاد إليها من حين لآخر. كما استمر التوازن رغم توسع رقعة انتشار قوى المقاومة، لأسباب بينها أن كثيرين من قادتها هم زعماء محليون، لم يضمهم نسق سياسي تنظيمي وطني او واحد، ولم يلتزموا ببرنامج عمل موحد أو بمصالح عليا حسنة التعريف ومقبولة من الجميع. وقد حكم هؤلاء مناطقهم وحولوها في أحيان كثيرة إلى اقطاعات أداروها كأمراء حرب فقدوا الرغبة والمصلحة في الخروج منها، والمشاركة في المعركة ضد النظام بما هي معركة وطنية عامة وملزمة لهم ايضا. كما اكتفوا بالدفاع عنها عندما كان الجيش الرسمي يهاجمها.
هذا التوازن تخلخل من دون ان يلاحظه القادة، من جهة، بسبب ظاهرة أمراء الحرب هؤلاء، ومن جهة اخرى نتيجة للطابع المحلي ـ الحاراتي لكثير مما سمي” كتائب الجيش الحر”. تلك لم تكن كتائب حقيقية ولم تنتسب يوما الى اي جيش، وطاب لقادتها ان يمثلوا جيشا لا وجود حقيقيا له، لهم غنمه وليس عليهم غرمه، افادوا من سمعته الوطنية كجيش يقاتل دفاعا عن الشعب، دون أن يلتزموا بأية مدونة وطنية أو اخلاقية، أو يكلفوا أنفسهم عناء الحرص على حياة وممتلكات وحقوق الشعب. أكل امراء الحرب وزعماء الحارات المسلحة وجود “الجيش الحر” وحالوا دون تحوله إلى جيش وطني، بينما كان جيش السلطة يعيد تأهيل وتجهيز نفسه، ويعد لمعركة فاصلة تفيد من ثغرات ونواقص وعيوب عسكرة شوهت المقاومة، وجعلتها عبئا على السكان في مناطق كثيرة، وقلبتها إلى بعبع مخيف يفترسهم، مثلما حدث في قرى مختلطة مذهبيا، او حكمها أمراء حرب منافقون ادعوا الإسلام كي يغتنوا ويضطهدوا اتباع المذاهب الأخرى. وإلا ما معنى أن يمنع فلاحون مسيحيون في ريف جسر الشغور من فلاحة ارضهم، وأن يتصدى لهم “الجيش الحر”، فيصادر آلاتهم ويعتقلهم ويعذبهم، رغم أن بعضهم طاعن في السن (لدي اسماء هؤلاء، إن حدث وكان هناك من يهمه الأمر). وكيف تقبل اركان الجيش العامة ممارسات كهذه باسمه، وتتهاون مع المقاومة التي يبديها هؤلاء حتى اليوم لإعادة تجميع المقاتلين الذين انشقوا عن الجيش الرسمي، وتحويلهم إلى جيش وطني حقيقي؟
3 ـ حقبة ثالثة تباطأ فيها سقوط النظام، الذي كان ملحوظا في فترة غير قصيرة من المرحلة الثانية، وبدأ سقوط ما صار يعرف بـ”الثورة”، الذي انطلق في القسم الثاني من المرحلة الثانية، وتسارع خلال الأشهر الاخيرة حتى صار خطرا داهما لا مفر من التصدي له. من علاماته أن السلطة تنقض بنجاح ملحوظ على مواقع استراتيجية وحاكمة في المناطق المحررة، وتنشر جيشها في كل مكان. حيث اخذ يطوق ويحاصر بؤر المقاومة الجدية، ويشن هجوما عاما ومتزامنا امتد من حوران إلى دير الزور والحدود التركية، استعاد بفضله مناطق مهمة، أو هز وضعضع وخلخل وجود الثورة فيها وسيطرتها عليها، مستفيدا من فترة ركود وتوازن، أفلح خلالها في إحداث اختراقات أمنية واسعة ومؤثرة في الصف المقاوم، كانت بديلا فاعلا لوجوده العسكري المباشر، أمدته بقاعدة معلومات وبيانات مهمة جدا عن عدوه، ومكنته من استغلال التناقضات والتباينات والخلافات السياسية والعسكرية والتنظيمية داخل ما سمي «الجيش الحر»، وبينه وبين ما صار يعرف بالأصولية، وداخل التكوينات التي تتكون هذه منها، مدعوما بالطبع من إيران وروسيا، بالسلاح والخبرات والرجال، واخيرا بمقاتلين متعددي الجنسيات تزايد عددهم إلى أن صاروا جيشا بكل معنى الكلمة، وشرعوا يخوضون قتالا ضاريا كانت القصير أحد ابرز مواقعه، تجلى فيها الشلل الذي سببه الارتجال والفوضى داخل” كتائب” الجيش الحر، الذي تأكد مرة اخرى عجزها عن إجراء ما هو مطلوب من تنظيم وتخطيط.
في مقابل هذا الصعود السلطوي، الذي ترتب على تدخلات إقليمية ودولية واسعة، وقع هبوط تدريجي في قدرات المعارضتين السياسية والعسكرية، تجسد في تهميش «الائتلاف الوطني» وانعدام فاعليته وتركيز معظم جهوده على صراعات تياراته ومكوناته الداخلية، وفي تفتت وانفلاش عمل عسكري محلي الطابع غالبا، وخروجه عن أي تخطيط استباقي وتنسيقي، وأية سيطرة ميدانية مباشرة، وأي تعاون عملي ورؤية شاملة ومترابطة لمجريات القتال والسياسة. هكذا بدت سوريا المعارضة طيلة عام ونيف وكأنها دويلات متلاصقة لا رابط بينها، يسوسها إما «ائتلاف» لا قدرة لديه على الإمساك بزمامها، او قادة عاجزون عسكريا، وامراء حرب محليون يعطلونها أو يخضعونها لأهوائهم وأمزجتهم وما ينتمون إليه من ايديولوجيات مغلقة لا يعرفون منها غير اوجهها التعصبية والتهويشية.
واليوم، وبعد أن كشفت معركة القصير وما رافقها من تقصير عسكري وسياسي، تمس الحاجة إلى وقفة صدق مع الذات، والى مراجعة تبتعد عن الرغبات، وتتأمل بإمعان ما هو قائم على الأرض من وقائع، لتضع يدها على سبل وآليات تعديل الموازين لصالح الشعب الثائر، وتعيد النظر في تموضعات القوى السياسية عموما والصف المعارض والمقاوم، وتوحد قواه وجهوده حول حدود دنيا ملزمة لاطرافه جميعا، وتعيد للسياسة مكانها القيادي والمعياري في العمل الوطني، وتساعد «الجيش الحر» على أن يصير جيشا وطنيا بحق، ينتهي بوجوده سلطان امراء الحرب وتزول سيطرة بعض ارباب الحرف الدنيا على العسكريين والعمل الميداني، وتنتهي عمليات “السلبطة” على المواطنين وجرائم التمييز الطائفي بينهم، وتسود علاقة انضباط وتراتب عسكرية، مهنية وقانونية، في علاقات المقاومة وتنظيماتها.
اذا لم يحدث هذا الانقلاب في المعارضة، واذا لم تقع ثورة في الثورة، فإن التطور المتفاوت الحالي، الذي نقل السقوط من النظام الى المعارضة، سينتهي بهزيمة الثورة، او بدخولها في سياقات تحولها إلى عمليات عنف اعمى، اجرامية الطابع غالبا، يكون لها ضحية واحدة هي: الشعب. عندئذ، لن يكون هناك من “مخلص” غير تدخل خارجي سيكون بالتأكيد والقطع واحدة من أعظم المصائب التي يمكن أن تحل بوطننا.
هل بلغت، اللهم فاشهد !
بدت سوريا المعارضة طيلة عام ونيف وكأنها دويلات متلاصقة لا رابط بينها، يسوسها إما «ائتلاف» لا قدرة لديه على الإمساك بزمامها، او قادة عاجزون عسكريا وامراء محليون ينتمون إلى ايديولوجيات مغلقة لا يعرفون منها غير وجوه التعصب والتهويش.
* نقلا عن “السفير” اللبنانية