يؤلمنا جداً أن تنشغل الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الأنطاكية، كبرى الكنائس السورية وأم الكنائس المشرقية، بقضايا خلافية داخلية صغيرة في هذه المرحة الصعبة والخطيرة، والشعب الآشوري ( سرياناً وكلدنا) تعصف به رياح وارتدادات العنف والعنف المضاد في سوريا والمنطقة، ويتعرض الى عمليات تطهير عرقي وديني من مناطقه التاريخية وفي أوطانه الأم، وكادت أن تلغي وجوده من الخريطة الديمغرافية في المنطقة!. فمنذ أن اعتلى البطريرك (افرام كريم) قبل نحو ثلاث سنوات عرش الكنيسة السريانية (مقره بدمشق) والمنتشرة ابرشياتها في مختلف قارات العالم، وقداسته لم تهدأ له بال، متنقلاً من ابرشية الى أخرى، عله يُحصن امبراطوريته المترامية الأطراف المهددة بالسقوط والانهيار، بسبب تفاقم أزماتها واستفحال أزماتها المتراكمة. لكن يبدو أن كل الرياح تجري بما لا تشتهي سفينة البطريرك افرام. حتى كادت هذه الرياح أن تقضي عليه في محاولة اغتيال فاشلة تعرض لها في مدينته القامشلي في حزيران الماضي بينما كان يرعى إحياء مذابح السريان الآشوريين المعروفة ب (سيفو 1915) زمن الخلافة الاسلامية العثمانية.
لا ننفي صعوبة الظرف والمرحلة التي تمر بها المؤسسة الكنيسة السريانية والشعب السرياني(الآشوري) في سوريا والمنطقة . لكن البطريرك افرام من دون شك يتحمل جزء كبير من المسؤولية في تفاقم أزمة كنيسته وتحولها الى ما يشبه بـ”كرة الثلج” المتدحرجة من قمة الجبل وهي تزداد حجماً واندفاعاً وخطراً . طبعاً، هنا لست بموقع الدفاع عن أحد أو اتهام أحد . ولا أريد أن اكون “محامي الشيطان” في هذه القضية. وإنما أكتب وجهة نظري ومن باب الحرص على وحدة ومستقبل الكنيسة السريانية الارثوذكسية الأنطاكية. كأحد أبناء هذه الكنيسة، أعتقد بأن ما يجري داخل طبقة الاكليروس والمجمع السرياني المقدس تحديداً( معاقبة ست مطارنة) هو صراع مصالح وتصفية حسابات بين المطارنة وعلى النفوذ داخل الكنيسة، وفي جزء منه، والغير معلن،هو صراع على “هوية الكنيسة السريانية” التي تتجاذبها ثلاث تيارات رئيسية( آرامي، سرياني، آشوري) . حقيقة، أن أزمة الكنيسة السريانية لم تبدأ مع مشكلة المطارنة الست الخارجين عن طاعة البطريرك، التي هي اليوم حديث الساعة في مختلف الأوساط السريانية، وإنما هي أزمة بنوية مزمنة تعاني منها الكنيسة السريانية، كما تعاني منهما معظم الكنائس المشرقية. هي نتاج عقود بل قرون طويلة من الفوضى الادارية والفساد المالي واللاأخلاقي داخل المؤسسات الكنسية وداخل طبقة الاكليروس. طبعاً علينا أن لا نغفل التحولات المجتمعية والفكرية والثقافية التي حدثت في المجتمع السرياني، وبشكل خاصة لدى الأجيال الجديدة في دول الشتات، وعجز القائمين على الكنيسة عن مواكبة هذه التحولات والتكيف معها وتفهمها.
مقاربة البطريرك افرام لأزمات ومعضلات كنيسته، هي مقاربة غير موضوعية، تفتقر الى الحكمة والحنكة الدبلوماسية. بدا فيها البطريرك مُداراً وليس مديراً / راعياً .فرغم خدمته الطويلة رئيساً لأبرشية في بلد ديمقراطي(امريكا)، تعاطى مع قضية المطارنة الست،وفق مفاهيم وقواعد النظام البطريركي القديم والقائم على الدكتاتورية والصرامة والتشدد في الالتزام بالنظام الكنسي- الذي أخذت به النظم السياسية والعسكرية الدكتاتورية- جاهلاً أو متجاهلاً بأن العالم تغير من حوله، وأن زمن السلطة الكنسية الالهية المطلقة ولى من غير رجعة. فلم يسبق في تاريخ الكنيسة السريانية، أن تم معاقبة ست مطارنة وكاهن وراهب دفعة واحدة. ربما من المفيد هنا التذكير بأن خلافاً عميقاً حصل بين رئيس ابرشية حلب، المطران المخطوف( يوحنا ابراهيم) و البطريرك الراحل (زكا عواص)، أدى الى قطيعة تامة بينهما دامت لسنوات طويلة. رغم عدم انصياع المطران لرغبات البطريرك زكا، لم يتخذ هذا الأخير أي إجراء عقابي بحق المطران يوحنا، بل هو تحمل وصبر وسكت الى حين تدخل بعض الخيريين من أبناء الكنيسة وجرت مصالحة بينهما. اعتقد بأن إبعاد وإقصاء المطارنة وطردهم، سيأتي بنتائج عكسية على الكنيسة السريانية . لأن المطارنة لن ينصاعوا لقرارات المجمع السرياني، خاصة وإن جميعهم ليسوا في سوريا حيث “سلطة دكتاتورية” يمكن للبطريرك اللجوء اليها والاستنجاد بها إذا ما تطلب الأمر. ( كما فعلى المطران قرياقس في ثمانينات القرن الماضي إبان أزمة الكنيسة في القامشلي). المطارنة في أوربا، لا شيء يحد من حراكهم بين الجاليات السريانية. ليس بالضرورة أن يكونوا على حق، لكنهم سيجدون من يتضامن معهم، لأسباب واعتبارات عديدة . لديهم من المال ما يكفي لتغطية تنقلاتهم لسنوات طويلة.
يبدو أن الأمور وصلت الى مرحلة اللارجعة بين البطريرك افرام والمطارنة المتمردين. والأزمة تنذر بتفكك وسقوط الامبراطورية السريانية الكنسية. فقد أخفق المجمع السرياني (أعلى سلطة تشريعية في الكنيسة السريانية) في اجتماعه الأخير في دير العطشانة بلبنان في إيجاد مخرج مناسب لقضية المطارنة الست المتمردين، يضمن حقوقهم الكهنوتية وبنفس الوقت يحفظ مكانة وهيبة الكرسي البطريركي، ويحمي الكنيسة من خطر الانقسام والتشرذم.. حتى لو تم احتواء أزمة المطارنة، برضوخهم لابتزاز ورغبة المجمع السرياني ( التوقيع على بيان اعتذار) كشرط للاعفاء عنهم وعودتهم الى حضن الكنيسة السريانية، لا يعني طي ملف أزمة الكنيسة السريانية، التي باتت كـ “النار تحت الرماد”، ستشتعل كلما هبت رياح مناسبة عليها. خاصة، بوجود من ينتظر الفرصة المناسبة لتنصيب بطريركاً للكنيسة السريانية الارثوذكسية في اوربا، بحجة تحول الثقل البشري السرياني الى دول الشتات، وتحرير الكرسي السرياني البطريركي من وصاية الحكومات العربية الاسلامية في سوريا والمنطقة.
أخيراً: من أسرار( اركان) الكنيسة السريانية، “سر الاعتراف والتوبة”، يقضي بأن يعترف المؤمن بخطاياه أمام الكاهن ليكفر عن ذنبوه. المثير أن ما من رجل دين في الكنيسة السريانية، اعترف بخطاياه. طبعاً لو أنهم التزموا بهذا السر الكنسي لو فروا على أنفسهم وكنيستهم ورعيتهم، الكثير من المشاكل والخلافات.
باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات
shuosin@gmail.com
المصدر ايلاف