دعوا عنكم الاشتراطات واللاءات، فالمتن أهم من العناوين. لأشهر خبأ المتفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون سرا عظيما في البئر، وفي اليومين الماضيين ظهرت ملامح مشروع حل سياسي بإقامة دولتين بعد أن كنا نظن أن الحلول دفنت إلى الأبد. حل الدولة الفلسطينية الذي يتأبطه وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ويدور به في العواصم المعنية، الأرجح أنه سيفشل، ومع هذا أعتقد أنه سيرسم الحل النهائي ربما بعد عشر سنين أو أكثر، إن جاءت اللحظة التاريخية لذلك، للمنطقة وللجانبين.
الفكرة تقوم على تبادل الأراضي والسكان معا. ماذا لو تخلص الفلسطينيون من المستوطنات والمستوطنين اليهود في الضفة الغربية المحتلة، وتخلص الإسرائيليون من مدن وقرى بغالبيتها من أراضي فلسطينيي 48، وقامت دولتان مستقلتان بحدود جديدة، بعد تبادل المدن والقرى ذات الكثافة من الجانبين؟
الفكرة مختلفة، ولو رسمت ونفذت بشكل عادل ستكون أفضل من مشروع أوسلو المقبور، إنما في التفاصيل تختبئ الشياطين، مثلا معظم «فلسطينيي إسرائيل» لا يعيش معظمهم في مناطق مجاورة لحدود الضفة أو غزة، وبالتالي تنفيذ التبادل السكاني سيعني اقتلاع أكثر من مليون إنسان من بيوتهم ومن على أراضيهم.
من حيث الفكرة، أي لمّ معظم الفلسطينيين في دولتهم، فإنها ليست سيئة لأنها ستعظم حجم الدولة الفلسطينية، وستعزز قدراتها، على اعتبار أن فلسطينيي الداخل، أي إسرائيل، أفضل تعليما وتأهيلا، وسيمكّن ضمهم من قيام دولة فلسطينية حديثة قوية.
مع هذا أستبعد نجاح مشروع كيري لأسباب كثيرة، أبرزها أن الجانب الإسرائيلي سيفرض شروطه لكونه الفريق الأقوى، والجانب الفلسطيني، حتى لو اعتقد أنه حصل أخيرا على الدولة التي يريدها بالحد الأدنى من الشروط والحقوق، فهو ليس في وضع سياسي قوي يجعله يحصل على تأييد فلسطيني كبير. التشرذم الفلسطيني اليوم في أسوأ أزمانه، وبسبب ذلك لن يوجد هناك ما يكفي من الأصوات لتبنيه عندما يحين موعد الاستفتاء عليه. مع هذا نتوقع أن تبقى الفكرة تراوح مكانها لسنوات حتى تدق الساعة بأن الوقت حان للسلام، وبعد أن تكون معظم الرؤوس الصلدة قد لانت.
إسرائيل إلى فترة قريبة كانت تعد فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة مجرد ملهاة تضيّع بها وقت الأطراف الدولية، ولا تنوي أبدا القبول بها. الحل المثالي لإسرائيل الذي قبلت به حكم فلسطيني بلدي محلي محاصر تحت سلطة إسرائيلية عليا، كما هو الحال عليه الآن. وهي تظن أن الوقت سيأتي في يوم ما، في أزمة ما، تدفع بملايين الفلسطينيين إلى خارج الضفة الغربية، أي إلى الأردن، الذي كانت تجاهر بتوصيفه بالوطن البديل. لكن مع الوقت، خمسون سنة على مثل هذا الطرح الإسرائيلي الفاشل، يبدو أن هناك تبدلا في التفكير، حتى عند غلاة يهود إسرائيل، بأن التخلص من ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة وغزة لا يكفي، لأنه سيتركهم يعيشون مع نحو مليوني فلسطيني، وبالتالي سيبقى فلسطينيون على أرضهم ولن تكون إسرائيل خالصة لليهود. هذه الأمنية تبخرت، كل فلسطين بلا فلسطينيين للإسرائيليين اليهود خرافة يستحيل تحقيقها. ويبدو أن هذا ما دفعهم للتفكير نحو خيارات أخرى، إعادة تقسيم فلسطين القديمة، لا الاعتراف بالضفة وغزة فقط.
نحن لا نعرف بعد التفاصيل، إنما نعرف أننا أمام تبدل تاريخي في التفكير والتوجهات، لكن عليكم ألا تأملوا الكثير، فالقضية معقدة ونزاعها سيستمر.
alrashed@asharqalawsat.com
منقول عن الشرق الاوسط