نضال نعيسة
مرّت قبل أيام قليلة الذكرى المئوية الأولى، لتوقيع اتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة، التي أعادت رسم الخرائط الجيو-سياسية القديمة لحضارات المنطقة، وسمـّت تلك الدول المندثرة بأسمائها القديمة، بعدما كاد الناس ينسونها مع انطلاق عملية التطهير الثقافي الكبيرة ومحاولات محو تاريخ المنطقة الحضاري القديم بعد قدوم الغزاة العرب من أقصى جنوب الجزيرة العربية وانتشارهم في ما بات يعرف بالمشرق العربي ودول شمال أفريقيا، فيما يعتبرها-أي الاتفاقية- الكثير من العروبيين، والسلفيين، والقوى الرجعية مؤامرة على العرب والمسلمين، وعلى مفهوم ونمط حكم دولة الخلافة، الذي ظل قائماً طيلة 1300 عام تقريباً حتى يوم تقطيع أوصال التركة العثمانية.
وحقيقة، وفي القراءة العقلانية والمتأنية، وبعيداً عن المنظور القومي السلفي وكل ذاك الصخب والضجيج الانفعالي والوجداني، ومع ذاك التاريخ العسكري الصدامي الحربجي الملتبس الذي طبع دول الخلافة الدينية من أيامها الأولى وشهدت الاقتتال والحروب والانقسامات والتشرذم وسحل الخلفاء وعمليات الإبادة والتطهير العرقي والثقافي والصراعات الطائفية والمذابح المذهبية المزمنة التي خلـّفت عشرات الملايين من الضحايا، فإن ما قام به طيـّبا الذكر، المغفور لهما، سايكس- بيكو، هي محاولة لتطبيق وإرساء أنموذج الدولة الحديثة، بطابعها وشكلها الغربي، الذي انبثق هو الآخر عن حروب المائة عام وعام التي شهدتها أوروبا، وبالتالي للجم كل تلك الغرائز السلطوية والأحلام والهلوسات الإمبراطورية اللا قانونية، والاستعمارية التي أصبحت وسيلة ومطية لكل الطامعين بالسلطة، ولمنع تكرار تلك النماذج الحربجية الأسطورية التي لم تكن تراعي سيادة أمم وحرمة أوطان وحدود دول، والتي بات من المطلوب، والواجب وضعها تحت وصاية وإشراف القانون الدولي ونمط الإدارة الوطني العقلاني المدني الحديث، عبر رسم خرائط تـُحترم، وإنشاء كيانات عصرية ذات سيادة منضبطة خاضعة للقانون الدولي، وستنضم، في وقت لاحق، لمنظمة و”أسرة” دولية جامعة والقطع مع تلك التصورات والكيانات البدائية، وتكون قادرة على التعايش فيما بينها، ومنسجمة مع ذاتها، ومع شعوبها داخلياً على الأقل، حيث كانت الحساسيات العرقية والمذهبية والعائلية والاختلافات المذهبية والطائفية والتنابزات القبلية، هي المؤجج والصاعق، ووراء تلك الحرب الأطول في التاريخ التي امتدت اليوم لحوالي الألف وأربعمائة عام وما يزيد.
عاشت منظومة سايكس- بيكو، للأسف، ولفترة جنينية قصيرة في حالة ازدهار وطني، وترسخت ونمت نزعات وطنية عارمة لدى نخب محددة، وتأوّجت في فترة الخمسينات جيث بلغت نمواً اقتصادياً وتقدماً مجتمعياً وانفتاحاً ليبرالياً واضحاً يستشعره اليوم كثيرون ممن عاصروا تلك الحقبة، إلى أن بدأت ملامح جديدة لظهور نزعات قومية شوفينية عروبية فاشية متطرفة، رافقها، وبسبب الطفرة النفطية، صعود صاروخي لتيارات الإسلام السياسي المموّلة خليجياً مع عودة نمط الحياة والإنتاج البدوي الريعي الأبوي الفوضوي القبلي من جديد واقتحامه صلب الحياة العامة، ونيله من تلك الإنجازات الليبرالية والوطنية التي بدأت بالانكماش والتراجع، فعاد الجميع لمربع الخلافة الأول بكل ما فيه من جدل إشكالي مزمن، وتنابز سجالي أحيا حروباً وصراعات راقدة تحت الرماد، وكل ما تشهده الساحات اليوم، يمكن قراءته من منظور التنكر لـ، والانقلاب على فكر وأنموذج سايكي بيكو، علماً أن هذه المنطقة، لم تشهد في تاريخها كياناً سياسياً منظـّماً، ومنتظماً ودولة “عربية” واحدة تحت حكم مركزي واحد إلا في أحلام العروبيين والقوميين والإسلاميين وتصوراتهم الطوباوية الرومانسية الزاهية المضيئة والجميلة والمشرقة والوهمية عن أنموذج دولة الخلافة الديني الإمبراطوري العسكري التوسعي.
وحقيقة، وفي ظل حكم الخلافة، لم يكن لأحد أن يسمع بدولة اسمها سوريا، أو الأردن، ومصر، والعراق، والجزائر، ولبنان وتونس….إلخ، وهي الدول الوطنية أو الأسماء القديمة الأولى والأصيلة والتاريخية الحقيقية لتلك الجعرافيات والتي حاولت محوها دول الخلافة الأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية، وأخيراً وليس آخراً دولة الخلافة القومية الناصرية ودولة الخلافة البعثية في العراق والشام.
سايكس-بيكو، الأبطال الحقيقيون المؤسسون للدولة الوطنية الحديثة، والمحرّرون من نير الخلافة والدولة الثيوقراطية الاستبدادية المغلقة، وهم رواد توزيع تركة الخلافة الكهنوتية الأسطورية المؤدلجة، ومصححو مسار تاريخي طويل حاول الغزو والاستعمار العربي إحلاله، وأعادوا الهيبة والكرامة للحضارات القديمة المدفونة مع أسمائها وبعثوها من جديد، ووضعوها على الخريطة، أسوة وتيمناً بالنمط الغربي الناجح الحديث، بعد محاولات وأدها من قبل الغزاة المستعربين، وحاولوا إنقاذ شعوب المنطقة من سطوة واستبداد حكم الخلفاء المتدينين وتسلطهم الفاشي المطلق الذي لا يخضع لأي قانون ودستور وضعي أو حقوقي بشري وعصري، ولكن، وبكل أسف، لم تستطع هذه الشعوب وحكوماتها القاصرة والمتخلفة والبدائية العاجزة المحافظة على هذه التركة والهدية و”النعمة” والخدمة “الاستعمارية” الكبيرة، وانتهت تلك المغامرة السايكس بيكوية بالعودة النوستالجية لدول الخلافة والإمارات الإسلامية و”بعث” إمبراطوريات الغزو والجهاد والسبي والنكاح والعبودية والحكم الفاشي الديني، مرة أخرى، ومن جديد.