حدثنا صديقنا فروى، قال: ولدت في البادية قبل 50 عاما. وكانت الصحراء صعبة للقادمين الجدد كما كانت لمن سبقونا. ولما نزلنا المدينة ظل الجيران يشيرون إلينا على أننا أبناء البدو. لكن ابن البادية الذي هو أنا، لمح ابنة الجيران فشعر كأن عاصفة أخذت به.
ماذا يفعل؟ فكر في أن يكتب لها رسالة يضمنها ما حفظه من الشعر. حسنا، حضر الرسالة وكتبها بخط الخطاطين على ورق صقيل. لكن كيف يبعث بها إلى جارته؟ هل يرسلها بالبريد، مثلا؟ رأى جارة أخرى تلعب في الحي، عمرها خمس سنين. أقنعها بحمل الرسالة إلى جارتهما. لا تعرف الطفلة ماذا حملت ولا بماذا عادت في اليوم التالي.
الرسالة الجوابية كانت اعتذارية: نقدر لكم عواطفكم ونشعر بحالكم كما كانت جارة أبي فراس تشعر بحاله والحمام ينوح بقربه. ولكن، يا أخا العرب، ما العمل. فأنت قادم جديد من البادية وليس خلفك ما يشجع ولا أمامك ما يعد. فليبق كل منا في حاله.
لم ييأس. ظل يحمل ابنة الخامسة قصائد جميل بن معمر وقيس بن الملوح، وظلت ليلى تكرر الرفض الرقيق. وبعد فترة فعل الزمن ما يفعله عادة. بدل الحارات وغير الجوار ووزع الأقدار. هي، ليلى العامرية، تزوجت ممن يرضى به الأهل وواقع الأمر، وهو ذهب إلى أميركا للدراسة الجامعية ثم الدكتوراه.
لم ينس في ثلوج كولورادو حبه الأول. لكنه نسي تماما أمر الطفلة ساعية البريد، و«أرامكس» تلك المرحلة. وبينما هو يحمل شهادة الدكتوراه عائدا بلغه أن العامرية كانت قليلة الحظ في الأعمار، فحزن حزنا شديدا. تزوج وترك للقدر أن يرسم الطريق. ودخل الحياة العامة فأفلح. وتجاوز في ماله وأحواله أهل العامرية الذين ما كانوا ليرضوا به بدويا فتيا قادما من وراء الإبل والشظف.
روى لنا ذلك ونحن نتناول طعام العشاء في باريس. ثم قال: احزروا ماذا حصل بعد ذلك. قلت ماذا يمكن أن يحصل بعد ذلك! ليلى، رحمها الله، وأنت صرت دكتورا والحمد لله، ومرة ألقاك في نيويورك ومرة في ميامي ومرة في باريس، ما شاء الله، فهل للقصة بقية أيضا؟
قال، حفظه الله، لا. وإنما لها تتمة، فالطفلة «أرامكس» التي كانت بدأت حياتها ساعية بريد في الخامسة من العمر، أصبحت الآن سيدة في السادسة والثلاثين. وهذه السيدة زوجتي. الشكر لله.