الشرق الاوسط
تحفل الساحة السياسية السورية بأمراض شتى، أهمها على الإطلاق اتهام الغير بالعمالة والخيانة، واكتشاف خفايا وخبايا وأسرار مخابراتية تهويلية وراء أي جهد أو فعل وقول، مهما كانت وطنية الجهة التي يصدر عنها ونزاهتها، وإطلاق العنان للخيالات المريضة في كل كبيرة وصغيرة، بمجرد أن يقع خلاف أو اختلاف في الآراء والمواقف بين شخصين أو تيارين أو حزبين.
أذكر أنني كنت عام 2006، قبل اعتقالي بقليل، متهما بالعمالة للمخابرات، وأن «مناضلا» كان يعيش في أوروبا دأب على الزعم بأنه كان يراني إما داخلا إلى أفرع المخابرات أو خارجا منها. بينما أصر «مناضل» آخر على أن سجني كان لإخفاء علاقاتي بالأمن وتكليفي التجسس على السجناء. بعد الثورة، نقل هؤلاء صلاتي بالمخابرات من مستواها المحلي إلى صعيد كوني، فصرت عميل قوى عربية وإقليمية ودولية خفية وظاهرة، لكنني أملي عليها حركاتها وسكناتها، وأسمح لها بأن تتحدث بلساني، بينما تحدد مصالحها في ضوء مواقفي ومصالحي.
من جانبه، كان النظام قد اتهمني قبل اعتقالي بإقامة علاقات مع الرئيس الأميركي جورج بوش، الذي يبدو أنني اتفقت معه على إصدار القرار 460 من مجلس الأمن، تمهيدا لغزو سوريا. هذا ما قاله لي ضابط أمن كبير وكتبته بعض صحف السلطة بعد اعتقالي بأيام. عندما سألت الضابط إن كانت أميركا عاجزة عن إصدار القرار من دون معونتي، أخبرني أنني قدمت الغطاء الضروري له فأبديت عجبي من قوتي التي جعلتني قادرا على استصدار قرارات من مجلس الأمن تحرك جيوش الدولة الأعظم إلى حيث أريد، وجعلت «مناضلين» سوريين معادين لأميركا يرددون الترهات ذاتها، وينسبون إليّ قدرات لم يمتلكها قبلي بشر، أعطتني قبل شهرين عددا من أعضاء «الائتلاف الوطني» يفوق ما حصل عليه أي طرف آخر. ومع أن أحدا من «أحبائي» هؤلاء لم يبح بأية معلومة حول سر علاقاتي وقواي، فإنهم يتحدثون عنها بثقة ما بعدها ثقة، فكأن وجودها أمر لا يقبل النقاش أو الإثبات. ومع أن الخيال المريض أوحى لأصحابه بقصص كثيرة جعلتني محور الكون عامة وسوريا خاصة، فإن أحدا منهم لم يلاحظ بعد أنه ينسب إلى قوى يتعارض وجودها لديّ مع عمالتي للمخابرات، ويجعلها هي عميلة لي أحركها كيفما شئت وأتلاعب بها حسب مزاجي وأهوائي، وأجعل تنفيذ مخططاتها رهن إرادتي، ونجاحها في مهامها مرتبطا بقراراتي. ربما لهذا السبب، يقول أحد هؤلاء يائسا: إنه لن يذكر اسمي بعد الآن كي لا يزيد من شهرتي ونفوذي، كأن الأمر بيده، وكأنه نسي أنه لا يستطيع أن يخرج عن قدراتي ويكون غير بيدق صغير في رقعة الشطرنج الكونية التي أتلاعب بها، فما نفع ما قد يخطر بباله من فنون الصراع ضدي، أنا الجبار القدير، الذي يصدر قرارات من مجلس الأمن رغم معارضة روسيا، ويرسل جيش أميركا إلى ساحات الحروب رغم اعتراض الكونغرس ودول أوروبية كثيرة، ويحرك بكلماته الرواسي الراسخات، وقد يجفف بنظرة منه البحار والمحيطات!
ليس هناك ما هو أشد سخفا من تبني المعارضة طرق تفكير النظام وأساليبه في النظر والعمل. وليس هناك ما يمكن أن يكون أشد إضرارا بالعمل الوطني من النظرة المخابراتية إلى السياسة، ليس فقط لأنها تظل مفعمة بقدر من الشك والارتياب يحول دون قيام أنشطة تواصلية – تكاملية بين أطرافها تشكل جوهر مجال عام وطني ينجح العمل فيه بقدر ما يكون توافقيا وتفاعليا، بل لأنها تجعل السياسة سلسلة مؤامرات وأفعال دنيئة تحاك في حيز مظلم، مغلق وشخصي ومليء بالتخوين والتهويل، يفتقر إلى رحابة الفكر، ونزاهة الروح، وشفافية الممارسة، ووضوح وفاعلية الصراحة والمكاشفة.
خلال سنواته الخمسين، ركز نظام الأسد جهوده على تسطيح عقل الشعب وقتل ملكة الحكم لديه، ومع أنه فشل في تحقيق هدفه لدى عامة الناس، الذين أخرجوا أنفسهم من عالمه، فقد حقق نجاحات حقيقية لدى معارضين يرون غيرهم بأعين مخابراته، التي تجعل منهم عملاء رخيصين لا حول لهم ولا طول، أو جبابرة يحركون التاريخ كيفما يريدون. والغريب أن هؤلاء لا يلاحظون كم يسيئون إلى أنفسهم في أعين أقرب الناس إليهم، وكم يفقدون احترامهم عندهم.
يقال إن زكي الأرسوزي كان جالسا ذات أصيل في مقهى دمشقي. عندما مرت أمامه مظاهرة مؤيدة للانتداب الفرنسي، قال لمن حوله: «هؤلاء عملاء فرنسا». ثم مرت بعد قليل مظاهرة معادية لفرنسا، فقال: «وهؤلاء عملاء لفرنسا». حين اعترض أحد جلسائه على أقواله، صرخ في وجهه: «وأنت عميل لفرنسا!».
ما أقول إذا كانت هذه العقلية الاتهامية، التي تستحوذ على مثقفين ومناضلين كثيرين، قد لعبت دورا خطيرا في تقويض الحياة السياسية والعامة في سوريا، ودورا أشد خطورة في تدمير عقول وإفساد نفوس المشاركين فيها، وأصابتنا بمرض عضال قتلنا طيلة نصف قرن، لم نبرأ منه بعد، من دون أن يتخلص منها بعضنا ويخجلوا من أن يظلوا أسرى لها، رغم ما ألحقته بوطننا وبهم شخصيا من أضرار جسيمة؟!