محمد الماغوط
يا شارع الضباب
كلما حلت بالأمة العربية كارثة، أو مرت عليها ذكرى كارثة، وقرأت أو سمعت أو شاهدت بهذه المناسبة مظاهرة أو مسيرة محروسة من جميع الجهات لأنها عفوية، يتقدمها صف من وجهاء وأعيان القضية. يسيرون متلاصقين كتفاً لكتف وخصراً لخصر وركبة لركبة. مثل فرقة الدبكة. معبرين بوجوههم المقطبة المجهمة عن ذكرى العار القومي. أو يوم الحداد العالمي، دون أن تنزل من عين أي منهم دمعة واحدة. سرعان ما أتلمس ما تبقى من شعري وأنا اتساءل عما إذا كانت هناك علاقة بالفعل بين الرعب والأهوال والمفاجآت وبين نمو الشعر؟ لأنه إذا كانت مثل هذه العلاقة موجودة فعلاً، فمعنى ذلك أنه لن ينقضي العام الأول من المطر، لأية سيارة تاكسي لكي تنقلني إلى أي مكان في هذا الليل البهيم، وإذا بشاعر تقدمي يبرز لي من الضباب ويبادرني بلهفة: – أين أنت يا رجل؟ عندي حفلة تعارف صغيرة في البيت وحبذا لو تقبل دعوتي.
قلت مستريباً: من الحضور؟
قال: وفد صداقة من إحدى الدول الإشتراكية. ويسعدني أن تتعرف اليهم.
قلت: آسف.
قال: ولكن هناك كثير من الفودكا. والعشاء “فيليه” من فخذ الغزال. جئت به خصيصاً من أعماق السهول الروسية.
قلت: تقصد أنه غزال تقدمي؟
قال ضاحكاً: تقريباً.
قلت: حسناً لن أذهب ولو كان العشاء “فيليه” من فخذ بريجنيف.
قال: أهو موقف؟
قلت: أبداً، كل ما هنالك أنني لبيت دعوة من هذا النوع من قبل وأقسمت أن لا أعيدها. إذ شربنا نخب كل الأحزاب والقوى والتجمعات التقدمية في أوروبا وأمريكا حتى جاء الخبز والملاعق، ونخب كل الثورات في آسيا وأفريقيا حتى جاءت السلطة وهذا كان منذ سنين. فما بالك الآن والعالم يبيض ثورات؟
قال: لا … لا … أنت غاضب لسبب آخر. رفع العلم الاسرائيلي في سماء مصر. لا تحزن يا صديقي ولا تتشاءم. اتفاقيات كامب ديفيد ونظام السادات والحلف الامبريالي كله سيسقط.
قلت بلهفة: كيف؟
قال: بإرادة الشعوب وقواها التقدمية وسوف تعود فلسطين إلى أهلها!!!
قلت: أليس هو الشعار المطروح منذ 1948 قبل الميلاد؟
قال: نعم.
قلت: في هذه الحالة أرجو أن تبلغ صديقي الشاعر يوسف الخطيب أن لا يوجه لي الدعوة لتناول الغذاء في يافا أو حيفا كما فعل صبيحة حرب حزيران.
قال: بل ستحضر وتكون في طليعة المدعوين.
قلت: لا أحب الظهور. وإذا كان لا بد فسأجلس على طرف المائدة.
قال منشرحاً: والآن ما علينا إلا دعم وتأييد التدخل السوفييتي في شؤون أفغانستان بناء على طلب حكومتها. لأن القضية العربية مربوطة جدلاً بما يجري في أفغانسان. وهذا تعليق لكاتب تقدمي انكليزي مصداقاً لما أقول. وبعد أن ألقيت التعليق دون أن أنظر إليه، تقدم ومن خلال الضباب أيضاً طليعي آخر وبادرني معاتباً: “رأيتك تتحدث مع واحد من جماعة موسكو. وهم مشبوهون ومرتهنون لأي نظام والماركسية اللينينية منهم براء. فللوقوف في وجه الامبريالية أعدموا ملايين الفلاحين في الثورة. ليأكلوا خبزهم في نهايتها من حقول الامبريالية وبالرجاء والتوسل. وهذا كتاب لريجيس دوبريه يؤيد هذه المقولة من أول سطر”.
وما أن اتبعت الكتاب بالتعليق الذي سبقه حتى برز لي من الضباب أيضاً ناقد متطرف وقال: لقد رأيتك تتحدث إلى واحد من جماعة “ماو” إنهم منحرفون ومزيفون للعقيدة اللينينية – الماركسية. لقد أبادوا العصافير في بلادهم ليتحولوا هم أنفسهم إلى عصافير على أغصان الامبريالية. وكل ما يفعلونه الآن هو الزقزقة عن الاشتراكية. وهذه مقابلة مع رودنسون تفضح أكاذيبهم وعمالتهم.
وما كاد ينصرف حتى كنت وجهاً لوجه مع مخرج من أقصى أقصى اليسار، وقد بادرني مزبداً مرغياً: لقد رأيتك تتحدث مع واحد من جماعة تروتسكي. وهي جماعة منقرضة ومشكوك بأمرها منذ زمن بعيد. وعليك أن تنتظر نهايتهم جميعاً.
قلت: لم يعد عندي جلد حتى لانتظار باص.
قال: ان ما يحتاجه العالم الآن هو يسار جديد يكتسح الأخضر واليابس. وهو في طور التكوين. فكل الشارع العربي يساري.
قلت: نعم. الشارع يساري والأزمة يمينية.
قال: أنت مضلل ومسكين وبحاجة إلى من يرشدك ويحميك. هل تنضم إلينا.
قلت: ابعدني عن السياسة أرجوك.
قال: حسناً هناك لجنة أدبية وليست سياسية للدفاع عن حرية الكاتب العربي وهي يسارية. ما رأيك؟
قلت: لجنة يسارية تنبت هكذا فجأة للدفاع عن الكاتب العربي. عن الفلاح العربي. عن الكندرجي العربي، لن أنتسب إليها قبل أن أعرف بالضبط كم عدد أعضائها وكم دولاراً رأسمالها!
فصرخ مزمجراً: امريكا … امريكا … اللعنة على امريكا. إنها وهم، انظر ما جرى ويجري لها في إيران وأفغانستان والسلفادور وبوغوتا على أيدي شعوبها. ونحن جزء من هذا العالم المتفجر، وعليك – شئت أم أبيت – أن تنتظر الثورة العربية الشاملة.
قلت مذعوراً: تقصد أن الثورات التي مرت علينا كانت “أكل هوا” مقدمات! وأن الضربة الكبرى لم تأت بعد؟
قال: طبعاً. ان الماركسية – اللينينية ستنتصر. وسوف تحقق الرفاه المبرمج. والتوازن بين الدخل والانفاق، والانفاق والانتاج، لأن راس المال …
قاطعته متوسلا … وأنا أهم بالانصراف: ” أخي أمنوا لي خبزاتي ودخاناتي كل يوم وصندلين لولدي كل سنتين وأنا ممنون شوارب ماركس ولينين وانغلز واسبارتاكوس “.