بقلم منى فياض/
قضية زياد عيتاني أعادت تثبيت المخاوف من الأساليب التي تستخدمها الأجهزة الأمنية اللبنانية لتلفيق تهم وملفات لأشخاص فتثير قضايا تشغل الرأي العام وتبعث برسائل معينة لتوظيفها واستخدامها في عدة اتجاهات، إما للبلبلة في لحظة سياسية معينة تحتاج إلى التغطية على قضية ما وإما للترهيب وإما لتلفيق ملفات تورط جهات أو شخصيات بحيث لا يكون المستهدف معلنا أو واضحا للرأي العام. كما أثبتت أن كل لبناني معرض في أي لحظة لتلفق له قضية وفضيحة مماثلة. وبرهنت على أولوية المصالح الانتخابية التي ساهمت مصادفتها في رفع الظلم المروع الذي تعرض له الفنان زياد.
وقبل هذا وذاك كشفت مرة أخرى، زيف وهزال منطق المثقف ـ الممانع المتداعي الذي طالما حمل القضية الفلسطينية، قميص عثمان وملكية خاصة، ملقيا تهم العمالة والخيانة، شمالا ويمينا، للتستر على فاشيته ودعمه للأنظمة المستبدة تحت ستار “المقاومة”.
فضحت السيناريوهات المتعددة ممارسات الأجهزة الأمنية للإيقاع بمواطنين أبرياء اعتمادا على أدلة أقل ما يقال فيها إنها ضعيفة ومن المعلوم أنها لا يمكن أن تكون موثوقة لقابلية اختراقها في كل حين. كل ذلك يفيد باستخفاف أجهزة الدولة ومسؤوليها بكرامة وعقول اللبنانيين كافة خدمة لغاية في نفس يعقوب.
فلنتذكر دائما أن النازية والفاشية، ومثيلاتهما، لم تصل إلى قمة سيطرتها دفعة واحدة
هذا بالإضافة إلى إظهار هشاشة عهد رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون وتغطية الأجهزة البوليسية الأمنية لتعدياتها بتوزيع تهم العمالة بين مختلف المذاهب، باتباع قاعدة 6 و6 مكرر، مثلما كانت اعتادت البحث عن حلول للقضايا الشائكة في مجالس الطوائف وأمرائها ومشايخها ومراجعها، كبديل عن ممارسة سلطة فعلية في بلد يقول إنه بلد مؤسسات. فبدل مواجهة الموقف بالعمل على محاسبة من أساء استخدام سلطاته واتخاذ التدابير الملائمة نجد هروبا نحو البحث عن أخطاء تقنية وشكلية كما دأبت في جميع الملفات بما فيها ملفات الفساد.
لم يغب قمع الحريات، أو محاولة قمعها، عن لبنان في أي من مراحل وجوده. والرقابة المتمثلة بالتضييق العشوائي أو العقائدي على حرية التعبير عند كل فرد، كانت دائما موجودة وبأشكال مختلفة. حتى حكم فؤاد شهاب (1958 ـ 1964)، الرئيس الوحيد الذي بنى مؤسسات دولة مواطنة حقيقية، شابت عهده ممارسات المكتب الثاني الشهيرة (الاستخبارات اللبنانية). ومن يجد أن الحرية في لبنان تصل إلى حدود مبالغ فيها وإلى نوع من التفلت وعدم الانضباط لا يلتفت إلى أن ما يحميها ليس سوى التناقضات والنزاعات والتوازنات التي تعتمدها السلطة نتيجة الحروب والصراعات والعصبيات.
لكنها للأسف ليست حرية، إنها الفوضى، لندرة من يلتزم المهنية والموضوعية. لذا هي نوع من “حرية مترسبة”، تسمح بها المحسوبيات والزبائنية. لكنها ليست الحرية الواعية والإيجابية المنشودة التي تحميها تشريعات وقوانين باحترام ضوابط واضحة وراسخة في المؤسسات المعنية. ويكفي أن يعترض رجل دين أو رجل سياسة أو أي فعالية ثقافية أو اجتماعية على كتاب ما أو فيلم أو منتج فني لكي يمنع.
وأمر الرقابة الأمنية في لبنان لم يقف عند حد المنع والسجن بل تعداهما إلى القتل اغتيالا وفي غالب الأحيان لكتاب أو صحافيين أو ذوي رأي أو سياسيين أو رجال دين. بحيث يمكن الاعتقاد أنها أعلى نسبة اغتيال في العالم نظرا لعدد السكان. والجدير بالملاحظة أن الاغتيالات لم تظهر إلا بعد أن حصل لبنان على استقلاله وفي ظل الجمهورية الأولى.
ربما توهمنا حصولنا على الحرية الحقيقية بعد انتفاضة العام 2005 وإخراج الجيش السوري. لكن الأحداث اللاحقة بينت خطأ هذا الاعتقاد
ربما توهمنا حصولنا على الحرية الحقيقية بعد انتفاضة العام 2005 وإخراج الجيش السوري. لكن الأحداث اللاحقة بينت خطأ هذا الاعتقاد. مساحة الحرية تتقلص بشكل مخيف مع محاولات ترهيب وصلت إلى فبركة ملفات كما أظهرت قضية عيتاني؛ ما يهدد بمحاولة التمهيد لدولة أمنية كالتي في سورية تحكمها بنية شمولية مستترة خلف بنية الدولة الرسمية العلنية. ويحيل هذا المصطلح إلى حقل دلالي خاص بعمل الأجهزة الأمنية وتسلطها الشامل على البلاد والعباد، وفرض سيادتها التي تنزع كل سيادة أخرى، بما فيها وأساسا سيادة السلطة الرسمية.
سبق أن أشار أحد الناشطين في مقال في جريدة النهار عام 2012 إلى التوقعات التي شاعت بعد خطاب الأسد في مجلس الشعب يوم 5/3/2005، وتمنياته “أن يكون هو القفزة الكبيرة في هذا البلد”. والتفاؤل بقرب انعقاد المؤتمر القطري لحزب البعث الحاكم في أوائل حزيران/يونيو حينها. وكان بين تلك الإشارات ما ذكرته الصحافة الرسمية وشبه الرسمية، عن تخفيف تدخل الأجهزة الأمنية في حياة المواطنين؛ لتخفيف الرقابة المسبقة على بعض النشاطات. ويعطينا ذكر بعضها ـ لأن المجال لا يتسع لذكرها جميعها ـ فكرة عن مدى تمدد القمع وشموله لمختلف أوجه الحياة بشكل مرعب. نشرت حينها جريدة “الثورة” السورية، في العام 2005، خبرا جاء فيه: “علمت الثورة أنه تم إلغاء الموافقة الامنية المسبقة بشأن 67 حالة”، ثم أوردت الصحيفة قائمة طويلة نقتطف منها ما يلي:
التثبيت أو النقل أو الندب أو التعاقد لدى جميع جهات القطاع العام… قبول الطلاب بالجامعات والمعاهد المتوسطة ومدارس التمريض… الإيفاد الداخلي والخارجي والاستفادة من المقاعد الدراسية في بعض البلدان العربية والأجنبية، الموافقة على إقامة الندوات الطبية والدعائية للتعريف بمنتجات الشركات، تأسيس الجمعيات السكنية، تثبيت أعضاء مجالس إدارة الجمعيات، إقامة معارض فنية أو أسواق تجارية وأعراس جماعية سنوية للجمعيات… الترخيص لمكتب شحن بضائع، الترخيص لمدرسة تعليم وقيادة وإصلاح المركبات والآليات، الترخيص لمعهد تدريب على الحرف والمهن، الترخيص لجليسات الاطفال، الترخيص لمحل بيع أجهزة الخليوي وصيانتها، الترخيص لصالة بلياردو، الترخيص لصالة بينغ بونغ، الترخيص لصالة أفراح، الترخيص لألعاب كمبيوتر، الترخيص لمقهى، الترخيص لسيرك… إلخ
هذه الأمثلة لم نصل إليها بعد، لكن هناك محاولات جدية، وربما حلم، عند البعض للوصول إليها.
من هنا لا يمكن التغاضي عن سلوك الأجهزة الأمنية من خلال ما كشفته قضية عيتاني خوفا على حرية كل واحد منا.
فلنتذكر دائما أن النازية والفاشية، ومثيلاتهما، لم تصل إلى قمة سيطرتها دفعة واحدة.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال
منطق ، كيف لا تكون دولة قمعية ورئيسها وحزبه متحالفين مع قوى عميلة وخائنة وذيل لإيران ضد وطنهم لبنان ، سلام ؟