تمّت أسطرة القيادي السوري الشيوعي، رياض الترك، عبر محبّيه، واتكاءً على قضائه قرابة سبعة عشر عاماً في المنفردة، وهي وللحق كارثة ما بعدها كارثة. هناك عشرات المعتقلين “اليساريين” قضوا فترات أطول من هذه السنوات، لكنهم لم يتأسطروا، علماً أن ذلك من حقهم! هنا يمكن القول إن لكلٍّ أصحابه ومحبيه ومؤسطريه؛ ما لا يجوز اللعب به، أن لكل هؤلاء المعتقلين حقوقاً ويجب أن ينالوها، وأن اعتقالهم المأساوي ليس هناك ما يبرّره؛ فهم في أغلبيتهم كانوا أصحاب رأي، ومنخرطين بأحزاب سياسية، أو منشغلين بالثقافة الثورية، ولا يغيّر من هذه الفكرة لو طالبوا بإسقاط النظام أو الديكتاتورية أو بقضايا أخرى. يجب أن يخضع المعتقلون لأسباب تخص الصراع العسكري لمحاكمات عادلة. ولكن، وفي هذه النقطة، يعد قانون رقم 49، وضد الإخوان المسلمين عام 1980، والذي ينص على إعدام كل من ينتمي إليهم، قانوناً همجياً، ويعبر عن رؤية الشمولية التي حكمت سورية، والتي تنصّ على إلغاء كل نشاط سياسي أو عسكري مناهض للسلطة. ربما ضاعفت الأسلمة حينها الأمر، علماً أن للنظام ذاته إسلامييه، ويُحكى عن دورهم في فك الحصار عن النظام في الثمانينات، ولا سيما في دمشق، حيث انحازوا له وضد إسلاميي “الإخوان” و”الطليعة المقاتلة”. ولا يعني هذا القول أن “الإخوان” كانوا على حق، أبداً، فهم كانوا ساعين إلى إرساء دولة إسلامية، وهناك من يؤسطر بعض قادتهم.
لرياض الترك تاريخ سياسي عريق، وسُجن مرات عديدة، ومنذ الخمسينات، وعراقته هذه لا
“لعب الترك دوراً أساسياً في “اختطاف” المجلس الوطني من يد الشباب الثوري” تقتضي بأي حال جعله نبياً وأسطورةً؛ فللرجل مواقف سيئة تجاه يساريين آخرين، والكلام يشمل فترة السبعينات، حينما كانوا، هو وهم، يناضلون ضد الشمولية وفي المعتقلات لاحقاً! وبقي الأمر عينه طوال حياته السياسية. وهناك ما يُحملَه منظوراً طائفياً للشعب السوري، فالأكثرية ديمقراطية بينما الأقليات طائفية. ويصبح الأمر كارثياً، حينما يصبح كل معارض “علوي” نصيراً للنظام، ولو قضى عقوداً في المعتقل، أو لو بقي رافضاً للنظام بعد ثورة 2011، وناصرَها، وما بدلوا تبديلاً. وجود أفراد كثيرين اتخذوا موقفاً رمادياً، أو ناصروا النظام، وكانوا من قبل معتقلين، ومن الطائفة العلوية، لا يعني بحال أن كل أفراد ينتمون إليها مع النظام.. التعميم هنا فاسد، وينمُّ عن عقلية متحجّرة. وأيضاً هذه قضية مفتوحة للنقاش الفاسد بين السوريين، ولم يهتدوا إلى عقليةٍ تُخرجهم من هذا المستنقع، وتدفع بهم نحو نقاشٍ موضوعي، يستند إلى معلوماتٍ دقيقة، وتفاسير عميقة، وخلاصاتٍ تساهم في إرساء بعد وطني نهضوي لبلدهم، وتحمّل المسؤوليات وفقاً للأفعال.
بعد أن تأسطر، وكان جريئاً قبل المعتقل وفيه ولاحقاً، وأطلق من دمشق أن “الديكتاتور مات”، فرض سطوةً سياسيةً على حزبه، وعلى الحركة المعارضة، وهذا ما أهّله ليكون شخصيةً أساسيةً في المعارضة. التقليل من دور الرجل في ذلك خاطئ كلية؛ فقد لعب دوراً أساسياً في “اختطاف” المجلس الوطني من يد الشباب الثوري، وشكّله وعبر حزبه، مع الإخوان المسلمين، وهذا كان من أكبر أخطائه؛ فهي مصادرةٌ لثورة الشباب، ودورهم في السياسة والثورة. الأسوأ الفشل الذريع للمجلس، وحلّه لاحقاً وتشكيل بديل عنه، وتتالت التنازلات عبر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والهيئة العليا للمفاوضات. وكانت النتيجة، عبر هذه الأدوات السياسية، تَحكّم الخارج الإقليمي في قرار المعارضة، وتفشيل أي قرار وطني مستقل للثورة وللمعارضة.. هل يتحمل رياض الترك المسؤولية الأساسية؟ أقول لا، ولكن له دوراً كبيراً في تهميش كل الأصوات الرافضة هذا الخيار. ولست أنطلق في تفسير ما جرى من موقع هيئة التنسيق الوطنية، فهي، أيضاً، لم تفهم السياسة جيداً، وظلت في إطار مطالب سياسية، تتناسب مع ما قبل الثورة، ولم تتزحزح إلا لماماً، وفي بعض المواقف والوثائق، وكان ذلك بدفعٍ من إقامة التحالفات، والبحث عن دورٍ سياسي.
كان التحالف مع “الإخوان المسلمين” في تشكيل المجلس الوطني، وهناك قوى أخرى طبعاً، سبباً كارثياً لتوجهات الثورة نحو الأسلمة، وتراجع البعدين، الديمقراطي والوطني، في تفسير الثورة وفهم أسبابها، وفي كيفية تطوير الأبعاد، الشعبي والوطني والديمقراطي، فيها. وكانت النتيجة انزياحا في الرؤية العامة للثورة نحو طلب الحماية والتدخل الخارجي والفوضى العسكرية والأسلمة وهكذا. لا أقول إن رياض الترك هو المسؤول، ولكنه لعب دوراً مركزياً من خلال دوره السياسي المركزي في المعارضة. ربما سيقول بعضهم إنه ليس له منصب سياسي في حزبه، فكيف سيكون له دور في المعارضة. في المعارضة السورية، هناك آليات للتواصل والتنسيق والضبط، ولا تمرّ عبر آليات ديمقراطية؛ وسؤالي لطارحي هذا البعد، أين هي الديمقراطية في سورية النظام والمعارضة والهيئات السياسية وسواها التي ظهرت بعد الثورة؟
لا يختلف رياض الترك مع رؤيةٍ شمولية تعمّمت، ومنذ غزو أميركا للعراق، وأصبحت
“يصبح كل معارض “علوي” نصيراً للنظام، ولو قضى عقوداً في المعتقل!” مرجعية لدى كثيرين، ليبراليين أو متلبرلين وإسلاميين، وتقول إنه لا يمكن تغيير الداخل العربي من دون غزو خارجي، والشعوب خانعة ومستكينة، وكما تكونوا يولَّ عليكم؛ أي لم يخطر ببالهم أن للثورة أسبابا، وبموجبها تنطلق، وحينما ظهرت “تسلبطوا” عليها.. الإشكالية أن الشعب المغيب عن السياسة، ولا سيما في سورية، كان من السهل “اللعب عليه” وتسييره.
هناك من عمّم أن رياض الترك قال بفكرة “الصفر الاستعماري”، أي أن الاستعمار، ومهما كان كارثياً، سيُحرّر شعوبنا من الاستبداد، وبمجيئه سيكون ممكناً أن نتطوّر. المشكلة أن هذه الرؤية مكرسة ولم تنطوِ بعد، على الرغم من كارثية ما حدث في العراق بعد 2003، وما حدث في ليبيا بعد 2011، وأيضاً في أفغانستان. لم يحرّرنا الصفر الاستعماري، بل ساهم في تشكيل ديكتاتوريات جديدة، وسمح لإيران بالتمدّد في كل الوطن العربي، وكذلك بعثَ الجهادية، وأوجد حرباً ضد الجهادية هذه؛ أي أن الغرب لم يحرّرنا، بل وأوغل في تشويه حياتنا العامة، والسياسية تحديدا، وأرسى نظاماً طائفياً، واعتبره الوحيد المناسب لشعوبنا.
كان موقف ليبراليين سوريين كثيرين إشكالياً، فهم لم يكتفوا بطلب التدخل الخارجي، وكذلك دعموا الحركات الجهادية والسلفية، ولا سيما جبهة النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام وفصائل كثيرة. وتتوخى هذه المقالة توضيح بعض إشكاليات تاريخ رياض الترك وتاريخنا، وضرورة أن ننشغل بالثورات باعتبارها احتجاجات شعبية، ولها مطالب واسعة، وكذلك أن ننشغل برؤى المعارضة، وأنها قابلة للنقد، وبالتالي ليس من أنبياء أو شياطين جدّد. وبخصوص رياض الترك، له الحق المطلق، وبعد ما أوضحت السطور السابقة ما كان عليه، أن يتعافى وأن يكون بأمانٍ كاملٍ، ولكن المأمول منه، ومن بقية شيوخ المعارضة السورية، والذين أصبحوا طاعنين في السن، الاستقالة من العمل السياسي، والتفرّغ لكتابة المذكّرات الشخصية.
المصدر العربي