تتسارع التطورات على الساحة السورية ضمن مسلسل التدمير المنهجي والتغيير الديموغرافي الذي يضرب البلاد منذ سبع سنوات. بعد حسم المعركة في الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي لصالح المنظومة الحاكمة ومحورها الداعم، والسباق مع الوقت قبل قمة الرئيسين الأميركي والروسي في هلسنكي يوم 16 يوليو، لتحقيق نجاح عسكري إضافي في الجنوب الغربي ووأد الحراك الثوري السوري في مهد انطلاقته في درعا، تواصل موسكو العمل على تأهيل المنظومة الحاكمة والذهاب نحو جني الثمار في إعادة الإعمار قبل نهاية هذا العام، وتراهن القيادة الروسية على بلورة تسوية مع الرئيس دونالد ترامب تكرس إنجازاتها، لكن المساومة المنتظرة حيال الدور الإيراني في سوريا تنطوي على عناصر غامضة مرتبطة باللعبة الكبرى في مجمل الإقليم، وتجعل من الصعب الجزم حول مآلات “الحروب السورية”.
يسود الإرباك في مقاربة أحد أبرز محاور قمة هلسنكي أي هدف إدارة دونالد ترامب المتمثل باحتواء إيران انطلاقا من ضرب النفوذ الإيراني وتحجيمه في سوريا. واللافت تصريح مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون موفد ترامب إلى موسكو تمهيدا للقمة، عن عدم اعتبار الرئيس بشار الأسد مشكلة إستراتيجية، وما يكشفه عن مسعى لخلاصة دبلوماسية أولية للكارثة السورية من خلال بلورة الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل اتفاقا يضمن للرئيس السوري بشار الأسد الاحتفاظ بالسلطة، مقابل تقديم روسيا تعهدات بخصوص إخراج قوات إيران ومحورها ليس فقط من الجنوب إنما من سوريا عموما.
لكن إزاء ما يُحكى في واشنطن عن استعداد الرئيس ترامب لإقرار سياسة تضفي شرعية على الأسد، مقابل التوصل إلى بدء مسار فك الارتباط الإستراتيجي بين موسكو وطهران، تخشى بعض الأوساط الروسية من مساومات وحلول وسط تغطي تصرف الأميركيين من موقف اللاعب القوي، كي يتمكنوا من فرض تنازلات على الروس، والمرتبة الأولى في قائمة هذه التنازلات هي التسوية في سوريا حسب السيناريو الأميركي.
ولذا لاحظنا أنـه بالـرغم من تهليل البعض المسبق بالصفقة المنتظرة والدور الإسرائيلي في بلورتها، أتى تصريح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن “أهمية الوجود الإيراني في سوريا” وذلك بعد طمأنة نائبه ميخائيل بوغدانوف لإسرائيل بأن “الوجود الإيراني في سوريا هو لضرب الإرهاب وليس ضدها” (أي إسرائيل)، ليتبين أن الموضوع الإشكالي لا يزال محل أخذ ورد أو قيد التفاوض، وهذا ما يفسر أيضاً برمجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لزيارة عاجلة إلى موسكو في العاشر من يوليو لاستطلاع موقف الرئيس فلاديمير بوتين والتأثير عليه قبل القمة المنشودة.
هكذا بعد مفاجأة الرئيس دونالد ترامب العالم في الاحتفاء بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ- أون في قمة سنغافورة، وازدراء نظرائه الأوروبيين والكنديين في قمة مجموعة السبع، اندفع نحو ترتيب قمة هلسنكي مع الرئيس فلاديمير بوتين متجاوزا الجفاء والتصريحات العالية اللهجة وأشكالا متعددة من المواجهة وبالطبع التدخل الروسي المفترض في الانتخابات الأميركية، والجدير بالذكر أن القمتين السابقتين على هامش اجتماعين دوليين لم تسفرا عن أي تفاهم ملموس، باستثناء رعاية اتفاق خفض التصعيد في الجنوب السوري (إلى جانب الأردن).
ومع استمرار الغموض بخصوص أجندة القمة وبرنامج عملها واستغراب عدم انعقاد اجتماع تحضيري بين لافروف ونظيره مايك بومبيو، يسود الاعتقاد أنه كانت هناك مصلحة مشتركة للرئيسين في التعجيل بانعقادها، إذ أن الرئيس بوتين المختال باختراقاته من سوريا إلى شبه جزيرة القرم يواجه وضعا اقتصاديا صعبا ويريد فتح الأبواب لإعادة الوصل مع واشنطن بأي ثمن ولا يريد خسارة رهانه على وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
أما ترامب المزهو بإنجازه الكوري والمنخرط في اختبار قوة مع أوروبا بخصوص الملف النووي الإيراني وفي حرب تجـارية متعددة الجوانب، لا ينفـكّ يراهن على شراكة مع روسيا حتى لا تذهب بعيدا مع الصين، وقبـل أي تطبيع وتعـزيز لصـلاتها مع الاتحاد الأوروبي وكل ذلك قبل موعد انتخابات نصف الولاية التي ستلعب دورا تقريريا في اتجاهات تتمة ولايته الرئاسية.
وسط حالة التخبط الإستراتيجي في النظام الدولي، سيناقش الرئيسان ترامب وبوتين في هلسنكي عددا من القضايا الشائكة أبرزها الصلات الثنائية وسباق التسلح وقضايا أوكرانيا وإيران، مع بحث الملف السوري بصورة شاملة.
ويصل التفاؤل بمصدر أميركي للتأكيد على أن “القيادة الروسية وافقت مبدئيا على مطالب الولايات المتحدة وإسرائيل، الداعية إلى انسحاب القوات المدعومة من إيران من مناطق جنوب سوريا على الحدود الإسرائيلية، واستبدالها بقوات موالية للحكومة السورية وفق اتفاقية فك الاشتباك (أو الارتباط) القائمة بين إسرائيل وسوريا منذ عام 1974 إثر وساطة هنري كيسنجر بعد حرب 1973”.
ويبدو أن المفاوضات المكثفة الدائرة خلف الكواليس بين واشنطن وموسكو تهدف إلى ضمان التوصل إلى اتفاق واحد هام على الأقل في قمة هلسنكي بخصوص الدور الإيراني في سوريا، يتيح لترامب إظهاره كدليل على نجاح القمة، وكمبرر لاتخاذ الولايات المتحدة خطوات إضافية لتحسين العلاقات مع روسيا، لكن من المستبعد أن يمنح بوتين ترامب ذلك من دون ثمن لا يقتصر فقط على بقاء بشار الأسد على الأقل حتى نهاية ولايته الرئاسية في 2021، بل كذلك على مشاركة واشنطن وأوروبا في إعادة إعمار سوريا الخاضعة للنفوذ الروسي.
يستند كل هذا السيناريو على تسليم طهران بهذه الخلاصة، والأمر مستبعد بنسبة كبيرة خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار عمق العلاقة والحلف بين منظومة الأسد وإيران، ومنسوب التغلغل الإيراني في مفاصل الحكم والقوات المسلحة والرديفة وكذلك على الصعيد الاقتصادي.
وفي هذا السياق يمكن لطهران أن تناور بالقبول بالانكفاء والحفاظ على قدراتها لمفاجأة الآخرين لاحقـا، ومع استحواذها على الغنيمة السورية لن تقبل بأن يتفاوض الجانب الروسي بالنيابة عنها أو على حسابها، وهي ربما تكون مستعدة لضمان اتفاقية فك الارتباط مع إسرائيل مقابل تخفيف الضغط عليها في ملفات أخرى.
ومن اللافت في نفس هذا السياق أن الكثير من اللاعبين الدوليين والإقليميين يستخدمون الورقة السورية لتعزيز مكانتهم، ولم تتمكن الأطراف والقوى السورية، بما فيها الأكراد، من تقديم أطروحات متماسكة عن التموضع الإقليمي ولم تستوعب حجم التخلي الدولي ولم تحاول الابتعاد عن الأيديولوجيا والشعارات وتغليب مصلحة إنقاذ البلاد والعباد.
يبشر البعض ببدء مرحلة نهاية المحنة وتصفية تركة الحروب المتعددة، ويراهن على أن تسفر قمة هلسنكي عن تأكيد ترامب على “انتصار بوتين الكبير في سوريا”، لكن الوقائع والتجارب لا تشجع على التسليم بالخلاصة والتبسيط في مسائل معقدة.
بالرغم من عدم التقليل من نجاح موسكو في لعبة تقاطعاتها منذ 2015، لا يمكن الركون لنتائج حاسمة من دون اتضاح الصورة حول قبول إيران بتقليص دورها والموقف الإسرائيلي. ومع كسوف تنظيم داعش ستكون لشمال شرق سوريا الغني بالثروة النفطية ولمستقبل الدور الكردي الحصة القادمة من الاهتمام إلى جانب معضلة إدلب. وتبقى سوريا ساحة أكبر نزاع دولي وإقليمي متعدد القطب في القرن الحادي والعشرين حتى إشعار آخر.