ذات يوم كان مصطفى طلاس ورفعت الأسد شابّين مناضلين، ثم ضابطين مناضلين، في «حزب البعث العربي الاشتراكي» في سوريا. وبالطبع كان معهما ثالث هو حافظ الأسد، شقيق رفعت الأكبر والصديق الحميم لمصطفى.
رفعت ومصطفى، وكذلك حافظ، كانوا يؤمنون بشعارات كالوحدة العربية والاشتراكية والعلمانية وتحرير فلسطين. وأغلب الظن أنهم يومذاك كانوا شباناً مندفعين وصادقين في ما يؤمنون به.
معاً شاركوا في عدد من الانقلابات العسكرية التي ظنوا أنها الطريق إلى تحقيق تلك الأهداف. معاً، ومع آخرين، نفذوا انقلاب 8 مارس (آذار) 1963 الذي أوصل حزبهم، حزب «البعث»، إلى السلطة. ومعاً قمعوا المحاولات الانقلابية المتكررة التي أرادت إطاحة «البعث» أو أراد «البعث» التخلص من شراكة أصحابها في السلطة. ومعاً انقلبوا في 23 فبراير 1966 ضد القيادة التقليدية لحزب «البعث» من أجل أن تستولي على الدولة رموزه العسكرية والجذرية. ومعاً عادوا وانقلبوا في 16 نوفمبر 1970 لكي يضعوا السلطة كلّها في يد حافظ الأسد وحده.
بعد ذاك تحول مصطفى طلاس ورفعت الأسد إلى حماية السلطة الجديدة، كلٌ منهما يحميها بطريقته. ولكن عصر البراءة الإيديولوجية والحزبية كان قد انتهى في 1970، حين باتا معنيين بالسلطة للسلطة، مع ما يرافق ذلك بالضرورة من مراكمة للثروة.
مصطفى طلاس، السُّني في نظام معظم رموزه علويون، عرف أن لطموحه حداً. أرضاه أن يصير وزيراً للدفاع، على طريقة الوزراء- الواجهة، وأن يتفرغ لأمور أخرى: الثراء ومصادقة الأثرياء وتأسيس الحظوة العائلية، فضلاً عن اهتمامات «ثقافية» تمتد من الورد والعطر إلى جورجينا رزق وملكات الجمال. لقد كان طلاس التعبير البليغ عن عطالة النظام ورثاثته.
رفعت الأسد كان شيئاً آخر. فهو، كعلويّ، عرف أن في وسعه المطالبة بحصة أكبر، والطموح لنيلها. غرف عناصره والمتحمسين له من طائفة المرشديّين، أكثر جماعات العلويين تشدداً، وأشرف على مذبحة مدينة حماة في 1982. بعد ذاك، حين مرض أخوه الأكبر حافظ، وجد أنه هو الأكثر استحقاقاً للسلطة والوراثة. طموحه هذا جعل العلاقة تنتهي على نحو سيّئ، إذ وُضع البلد على شفا مواجهة عسكرية مفتوحة. بعد ذاك رُفّع رفعت إلى «نائب لرئيس الجمهورية»، ولكنه عملياً أُبعد من السلطة ومن البلد ناقلاً معه الثروة التي جناها من عرق جبين الآخرين. وما بين فرنسا وإسبانيا خاض رفعت وأبناؤه في مشاريع كثيرة اختلط فيها البيزنس بالسياسة، والتجارة بالمافيا.
لقد كانت تكلفة مصطفى طلاس على السلطة تكلفة زهيدة، أما رفعت فكانت تكلفته عليها باهظة جداً. إنه لم يطالب بالوراثة فحسب، بل طالب أيضاً، ولو ضمناً، بتخلي النظام عن واجهته الإيديولوجية «البعثية» واعتماد الفجور الطائفي الصريح إيديولوجيةً له.
لقد نسي مصطفى ماضي البراءة واكتفى بهذا الحدّ، مكرّساً نفسه لمستقبل شخصي لا يذكّر به بتاتاً. أما رفعت فتذكّر جيداً زمن البراءة وأراد أن يكون صريحاً جداً في الانقلاب عليه وفي تكريس ذاك الانقلاب بديلاً لمستقبل الجميع.
لهذا رأينا مصطفى طلاس، في 2000، يلعب طائعاً دور عرّاب التوريث من حافظ إلى نجله بشار، فيما رأينا رفعت يلعب دور المعارض للنجل، بل المنافس له، على شرعية مزعومة، طائفية وعائلية.
والاثنان، على أي حال، يختصران سيرة الحزبية والعقائد وهشاشتها في بلدان كبلداننا لا تزال تتحكم بها عصبيات القرابة والطائفة التي لا تلبث أن تتحول، على أرض الواقع، عصبية مافياوية.
لقد قضى مصطفى طلاس قبل أشهر قليلة وقبل أيام قليلة تردّد خبر قد يكون إشاعة عن وفاة رفعت الأسد. وهذا الخبر- الإشاعة جدّد تركيز الضوء عليه. والاثنان لن يؤسف على رحيلهما، بعيداً عن بلدهما الذي لم يعد يعني لهما، أقله منذ 1970، سوى كونه مصدراً للجاه والثروة. الشيء الوحيد الذي يؤسف عليه أن الموت في حالتهما لم تسبقه محاكمة عادلة. هذا بعض ما يحزن في وضع سوريا اليوم.
* نقلا عن “الاتحاد”
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلامية
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :