رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ـــ ج٨

رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام  (الجزء الاول) 

رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام 2

رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ـــ ج2 

رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ــ ج٣

رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ـــ ج4

رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ج5

رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ـــ ج٦

رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ــــ ج٧ababilbirds

[نبوات عن المسيح]

قال الله على لسان موسى في التوراة في سفر التكوين إن يعقوب المعروف بإسرائيل الله، لما قرُبت وفاته، دعا أولاده كلهم فباركهم، وأخبرهم بما هو مزمع أن يكون في آخر الزمان، وأودعهم هذا السر. ولم يزل يبارك واحداً فواحداً حتى انتهى إلى يهوذا، الذي من نسله وُلدت المغبوطة مريم أم المسيح مخلص العالم فقال: يَهُوذَا، إِيَّاكَ يَحْمَدُ إِخْوَتُكَ. يَدُكَ عَلَى قَفَا أَعْدَائِكَ. يَسْجُدُ لَكَ بَنُو أَبِيكَ. يَهُوذَا جَرْوُ أَسَدٍ. مِنْ فَرِيسَةٍ صَعِدْتَ يَا ابْنِي. جَثَا وَرَبَضَ كَأَسَدٍ وَكَلَبْوَةٍ. مَنْ يُنْهِضُهُ؟ لَا يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ (تكوين 49:8-10). فانظر في هذا الكلام نظراً روحانياً. هل تليق هذه النبوّة من ذلك الشيخ المبارك إسرائيل إلا على المسيح مخلص العالم؟ لأنه هو الخارج من يهوذا بإنسانيته، وله خضع بنو إسرائيل لما دخلوا في دعوته، وصارت يد الروم التي هي يده على قفا من عاداه من بني إسرائيل، الذين جحدوا ربوبيته وكفروا به فقتلتهم الروم ومزقتهم كل ممزق فلا تقوم لهم قائمة. وهو الذي بُعث من بين الأموات حياً بعد ثلاثة أيام من صلبه، وهو الذي سجد له بنو إسرائيل حيث رأوا الأعاجيب والآيات التي أظهرها بينهم. وهو شبل الليث لأنه ابن الله القوي العزيز الجبار. لم تزل النبوة تترادف في بني إسرائيل حتى جاء المسيح رجاء البشر الذي أنبأت عنه النبوات كلها، فانقطعت النبوات عن يهوذا وبني إسرائيل، فلم يقم نبي بعد مجيئه. وإياه كانت تنتظر الشعوب، وله كانت تترجى الأمم. وكما أنه لا معنى لمجيء الرسل بعد طلوع الملك عليهم، كذلك لا معنى للأنبياء بعد ظهور الإله المسيح، الذي هو بالحقيقة ملك كما سبقت الأنبياء وسمَّته ملكاً، وتنبأ زكريا النبي عنه قائلاً: اِبْتَهِجِي جِدّاً يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ. وَأَقْطَعُ الْمَرْكَبَةَ مِنْ أَفْرَايِمَ والْفَرَسَ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَتُقْطَعُ قَوْسُ الْحَرْبِ. وَيَتَكَلَّمُ بِالسَّلَامِ لِلْأُمَمِ، وَسُلْطَانُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الْأَرْضِ (زكريا 9:9 ، 10).
فهل تصدق هذه النبوة إلا على المسيح؟ إنه جاء بالبر والخلاص والتواضع، ثم أباد بمجيئه من أورشليم التي هي صهيون جميع ما كان فيها من المراكب والخيل المعدَّة للحرب، وانكسرت القسي التي هي من آلات القتال ودالة عليه، وركب جحشاً ابن اتان تواضُعاً، وكلّم الأمم الذين هم الشعوب بالسلم والأمان، وأدخلهم في ميراث دعوته، وجعلهم أبناء ملكوت السماء الذي هو موعد الله تبارك اسمه.
وهذا داود النبي وهو لسان الله يقول مصرحاً: ( لرَّبِّ) قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي. أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الْأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ الْأَرْضِ مُلْكاً لَكَ (مزمور 2:7 ، 8). أي إنهم مزمعون أن يدخلوا في دعوته وطاعته، وإن سلطانه يمتد إلى أقاصي الأرض. وقال أيضاً: فَا لْآنَ يَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ الْأَرْضِ. اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ واهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا الِا بْنَ لِئَلَّا يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ. لِأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ (مزمور 2:10-12). ومعنى ذلك: اقبلوا ما يأتيكم به الابن وهو المسيح ويقوله لكم، فإنكم إن لم تقبلوا ذلك غضب فيهلككم بغضبه، لأنه بعد قليل يشتد غضبه على اليهود الجاحدين لربوبيته، الذين لم يقبلوا منه ما قال فهلكوا وبدد شملهم. وطوبى للمتوكلين عليه، أي المؤمنين به والمصدقين لقوله.
وقال داود أيضاً: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ . يُرْسِلُ الرَّبُّ قَضِيبَ عِّزِكَ مِنْ صِهْيَوْنَ. تَسَلَّطْ فِي وَسَطِ أَعْدَائِكَ (مزمور 110:1 ، 2). فافهم قول النبي داود هذا، فإن فيه سراً يحتاج إلى معرفته كل ناظر في كتابنا هذا ليصح عنده الأمر.. فأقول إن عادة العبرانيين منذ عهد موسى أن الأحرف التي يكتبون بها اسم الله أحرف منفردة لا يكتبون بها شيئاً غير ذلك. ففي قول داود عن الله قال الرب لربي هما اسمان مكتوبان بالأحرف التي تسمَّى المنفردة، التي لا يُكتب بها إلا اسم الله. فهذا عند اليهود والنصارى (وهما أمتان متعاديتان) لا اختلاف بينهما فيه. فافهم السر الذي ألهم الله به نبيّه، تجدْهُ تصريحاً لقوله: قال الرب لربي .
وقال في موضع آخر: لِأَنَّهُ أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ نَظَرَ لِيَسْمَعَ أَنِينَ الْأَسِيرِ، لِيُطْلِقَ بَنِي الْمَوْتِ (مزمور 102:19 ، 20). ومعناه موت الخطيئة الذي هو عبادة الأصنام وانقطاع الرجاء من موعد الحياة الدائمة التي بشر بها المسيح مخلصنا أنه يعطينا إياها يوم القيامة. قال: لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي صِهْيَوْنَ بِاسْمِ الرَّبِّ وَبِتَسْبِيحِهِ فِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّعُوبِ مَعاً والْمَمَالِكِ لِعِبَادَةِ الرَّبِّ (مزمور 102:21 ، 22). فقد كملت نبوّة داود. وهذه أورشليم تجتمع فيها الأمم يمجدون اسم الرب أي اسم الآب والابن والروح القدس، يمجدونه بأنواع التماجيد وأصناف التسابيح، بالألسن المختلفة واللغات الغريبة آناء الليل والنهار، وقد جاءوا من البلدان الشاسعة وجميع أقطار الأرض البعيدة.
وهذا إشعياء المغبوط قد تنبأ قائلاً: شَدِّدُوا الْأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ، والرُّكَبَ الْمُرْتَعِشَةَ ثَبِّتُوهَا. قُولُوا لِخَائِفِي الْقُلُوبِ: تَشَدَّدُوا لَا تَخَافُوا. هُوَذَا إِلَهُكُمُ. الا ِنْتِقَامُ يَأْتِي. جِزَاءُ اللّ هِ. هُوَ يَأْتِي وَيُخَلِّصُكُمْ . حِينَئِذٍ تَتَفَتَّحُ عُيُونُ الْعُمْيِ، وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ. حِينَئِذٍ يَقْفِزُ الْأَعْرَجُ كَا لْإِيَّلِ وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الْأَخْرَسِ (إشعياء 35:3-6). وكتابك يشهد أن المسيح الإله قد فعل هذا كله، وأنه أبرأ المقعد الذي كانت قد أتت عليه ثمان وثلاثون سنة فقال له: قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وامْشِ (يوحنا 5:5) فقام عاجلاً ومضى. وهو الذي ابرأ الأبرص والأخرس الأبكم المعتوه.
وقال إشعياء النبي أيضاً في موضع آخر مشيراً إلى مولد المسيح: يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (إشعياء 7:14). ومعنى عمانوئيل الله معنا . فأي شيء يكون أكثر توضيحاً من هذا؟ فهذه بعض النبوات التي تنبأ بها الأنبياء عن مجيء السيد المسيح محيي العالم. وكنا نريد أن نزيد من الشهادات، ولكن في ما أتيناه كفاية لمن يعاند الحق ويظلم نفسه.

[تحريف الإنجيل]
ولقد ذكرت التحريف واحتججت علينا بأننا حرَّفنا الكلم عن مواضعه وبدلنا الكتاب، وكأن هذا القول جعلته كهفاً تستتر به. وإني لأخبرك خبراً حقاً، فاسمعه مني واقبله، فإن قولي ليس قول باغٍ ولا حاسدٍ ولا متعنتٍ معاند. أنت تعلم أننا نحن واليهود (الذين ينكرون مجيء المسيح نور العالم وضياء الدنيا) قد اجتمعنا عن غير تواطؤ على صحة هذا الكتاب، وأنه منزَل من عند الله، لا تحريف فيه ولا تبديل، ولم تلحقه زيادة ولا نقصان. وإلا فنحن ندعوك أنت أيها المدّعي علينا التحريف والتبديل (إن كنت صادقاً) بكتابٍ غير محرَّف ولا مبدَّل، يشهد لك على صحة الآيات العجيبة كما شهدت الأعاجيب للأنبياء والرسل حيث جاءونا بصحة هذا الكتاب، فقبلنا ذلك منهم، وهو في أيدينا وأيدي اليهود بلا زيادة ولا نقصان. وإني أعلم أنك لا تقدر على ذلك أبداً. وكتابك يشهد بصحة ما في أيدينا شهادة قاطعة، إذ يقول فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك. لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (يونس 94). ثم فسر هذا القول وأكَّده، معترفاً لنا بالفضيلة التي أُوتيناها قائلاً: الَّذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (سورة البقرة 2:121). شهد لنا كتابك بحق التلاوة في موضع تكون فيه تلاوتنا، وقد أمر أن نُسأل ويُقبَل منا كل ما نقوله. فكيف تقول إنه قد وقع منا التبديل والتحريف للكلم عن مواضعه؟ فهذان حكمان متناقضان. فما بالك تشنّع علينا وتقول إننا حرّفنا الكتاب وبدّلنا تنزيل الله وغيَّرنا كلامه، ونحن نتلوه حق تلاوته كما شهد لنا صاحبك. فانصف واطلب رضى ربك، وانظر من هو المحرِّف والمبدِّل، أنحن الذين أخذنا الكتاب عن قوم برهنوا صحته بالمعجزات الإلهية التي لا يستطيعها البشر، واتفقت عليه الأمم المختلفة الألسن والأهواء والديانات والبلدان البعيدة الذين لا يمكن أن يقع بينهم في مثله تواطؤ، أم الذي قبل كتاباً بلا حجة ولا دليل ولا شهادة عن نبي ولا أعجوبة تشهد له، وإنما تناوله عن ناقل نقله بلسانه ولسان أهل بلده فقط، فجعل ذلك برهاناً له، وزعم أن الكتاب الذي هذه حاله وقصته يجري مجرى فَلْق البحر وإحياء الموتى وإبراء الكمه والبرص وإقامة المقعَدين، وأخذه لذلك الكتاب عن قومٍ كانت بينهم الضغائن، وكلٌّ منهم زاد فيه ونقص وبدل وغيَّر، واجترأ حتى نسبه إلى الله تعالى، وزعم أنه دليلٌ على نبوّة نبيّه، وأنه شاهد عدل له بأنه رسول رب العزة. ثم لم يرض بهذا، بل تعدَّاه وقال: من لا يقبل كتابي هذا ويقول إنه منزل من عند الله، وإني نبي مرسَل، قتلته وسلبته ماله وسبيت ذراريه واستبحْتُ حريمه! فقبل ذلك منه كرهاً وخوفاً لما توعَّده به من البلاء والشقاء، بلا حجة ولا برهان.

[معجزات المسيح]
فلننظر الآن في الآيات التي جاء بها المسيح سيدنا، الدالة على سلطان ألوهيته وقدرة ربوبيته، فنقول إن أول ذلك أن الله الرحيم المتفضل على خلقه اختار من جنس آدم عذراء زكية طاهرة مقدسة نقية لا عيب فيها، لا في نفسها ولا في بدنها، ليحل فيها كلمته وروحه ويأخذ منها جسداً بشرياً تاماً فيتحد به ويخاطبنا. وجعل المبشِّر لها جبرائيل رئيس الملائكة، ائتمنه على هذه البشارة وفضَّله على سائر أجناد السماء ببعثه إياه رسولاً إلى سيدة نساء العالمين مريم المغبوطة بنت يواكيم والدة يسوع المسيح المخلص، فجاءها مبشِّراً من عند الله مكرِّماً ومهنِّئاً وقال: سلام لك أيتها المنعَم عليها. الرب معك .. ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع (الذي تفسيره المخلِّص) هذا يكون عظيماً، وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسيَّ داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية . خاطبها جبرائيل بهذا فتعجبت وسألت: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟ فأجابها جبرائيل: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله . ثم أعقب قوله ذلك بإعطائها الدليل لتزداد يقيناً ولا ترتاب بقوله: وهوذا أليصابات نسيبتك هي أيضاً حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوَّة عاقراً . فهذه أعجوبة البشارة التي لا تكون ولا يليق مثلها إلا بهذا السيد المخلص. ويقول صاحبك: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ واصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ,,, إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ والتَّوْرَاةَ والْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِا~يَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَاً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِا~يَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَا تَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (آل عمران 3:42 و43 و45-50). فهذا قول صاحبك وشهادته وإقراره بالحق مذعناً ومصدقاً.
ثم إن مريم الطاهرة المباركة صارت إلى أم يحيى بن زكريا، وقد كانت هي وزوجها بارين تقيين عندما حبلت بيوحنا. فلما قرعت باب منزلها بالتسليم عليها اضطرب الجنين في أحشائها فرحاً، وهتفت أمه بصوت عال قائلة: مِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلَامِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي (لوقا 1:39-44). ومن قول صاحبك في زكريا هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ (سورة آل عمران 3:38 ، 39). والمسيح هو كلمة الله وسيد ذرية آدم عليه السلام، فإن مصدقاً صفة ليوحنا، ولكن كلمة الله وسيداً ليست بصفة ليوحنا لأنه لم يؤمن بيوحنا أنه كلمة الله ولا كان سيداً. فأما حصوراً ونبياً ومن الصالحين فمن صفات يوحنا، لأنه كان نبياً وحصوراً ومن الصالحين.
ثم إنه ظهر الكوكب للمجوس في بلاد فارس ليدلهم على ميلاد الملك العظيم الذي لا زوال لملكه، وكان علماؤهم قد سبقوا فأخبروهم بخبره في الكتب وعرفوهم وقت ظهوره وأعطوهم الدليل على ذلك، والعلامة: ظهور كوكب يتقدمهم في المسير إليه وقضاء بعض حق عبادته بالسجود له والخضوع لطاعته. فلم يزل المجوس ينتظرون ذلك ويتوقعونه راجين ومؤمّلين حتى جاء الوقت وظهر الكوكب الذي هو الدليل على ميلاد السيد العظيم (متى 2:1-12). فجاءوا من بلاد فارس إلى بيت المقدس الذي هو أرض اليهودية بهداية الكوكب، حتى وقف ببيت لحم، فقضوا الغرض وأدّوا حق الطاعة، ورأوا ما كانوا يؤملونه وانصرفوا مؤمنين غير شاكين ولا مرتابين، بل فرحين مسرورين. ثم ظهر ملاك عند ولادته لقوم من الرعاة كانوا يرعون أغنامهم (لوقا 2:8-20). فقال لهم: هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ (يعني لأولاد آدم جميعاً) هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَه ذِهِ لَكُمُ الْعَلَامَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ . فلم يفرغ من كلامه حتى ظهرت لهم أجناد الملائكة مع ذلك الملاك وهي تطير ما بين السماء والأرض بتهليل وترتيل، وتهتف جميعاً بصوت عال وتسبح وتقول: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة . ثم أقبل الرعاة إلى ذلك الموضع مسرعين فوجدوا المولود في مذود كما أخبرهم الملاك، فصدقوا وآمنوا وأخبروا بخبرهم وما عاينوه من أجناد الملائكة وما سمعوه من التسبيح العجيب، وقصّوا قصة مجيئهم فتعجب من ذلك كل من سمع. فهذه قصة البشارة والميلاد على غاية الاقتصار من القول.

وإليك ملخصاً كيف كان ابتداء الدعوة، فنقول: لما أتت على سيدنا المسيح ثلاثون سنة وظهر يحيى بن زكريا بتلك المعمودية بماء نهر الأردن التي للتوبة، ذهب المسيح إليه ليتعّمد منه. فلما رآه يحيى قال: هُوَذَا حَمَلُ الَّذِي هو يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ (يوحنا 1:29). ثم قال: أنا محتاج أن أتعمد منك، وأنت تأتي إليَّ! فأجابه المسيح: اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر . ثم لم يزل مجتهداً حتى عمّده. فلما صعد المسيح من الماء انفتحت أبواب السماء ظاهراً تجاه الذين كانوا هناك، فرأوا الروح القدس قد حلّ عليه في صورة حمامة، وإذا بهاتفٍ يهتف من السماء بصوت عال: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت . فتعجب لذلك يحيى بن زكريا وجميع من حضر.
ثم ابتدأ المسيح في إظهار دعوته الناس بعد ذلك، إلى اليوم الذي صعد فيه إلى السماء، وحثَّهم على التوبة ورفض الدنيا والزهد فيها وترك الأهل والولد والأموال واللحوق به والترغيب في أعمال البر والكفّ عن المآثم والتحبيب في عمل المعروف للجميع، وترك الضغائن والحسد والأخذ بالثأر وترك معاقبة المسيء والصفح عنه والتفضل على كل واحد بما هو حسن. وأعلمهم أن هذا يقرّبهم إلى الله تبارك اسمه، وحثَّهم على فعل ذلك ليستحقوا به جزيل الثواب وعظيم الأجر في دار المآب التي لا زوال لحياتها ولا انقطاع لنعيمها، وأنذرهم بالبعث والنشور والقيام بعد الموت للحساب والثواب والعقاب. فمن عمل صالحاً فله ثواب ذلك في ملكوت السماء، ومن عمل شراً فعليه العقاب في نار جهنم خالداً فيها أبداً. وحقق قوله بعمله الأعاجيب والدلائل الواضحة التي لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها، وذلك بغاية الرفق والتواضع لا يطلب على ذلك من أحد أجراً ولا شكراً إلا تمجيد الله الذي وعد بأنبيائه وتفضّل على آدم وذريته إذ بعث إليهم كلمته متجسداً، وأنقذهم من ضلالة الشيطان وسلطان الموت وعرَّفهم نفسه أنه إله واحد ذو ثلاثة أقانيم: آب وابن وروح قدس. فكان أول ما دعاهم به قوله: قَدْ كَمَلَ الّزَمَانُ واقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللّ هِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالْإِنْجِيلِ (مرقس 1:15). فأوعى في آذانهم ذكر التوبة والبعْث اللذين لا عهد لهم بهما ولا يعرفونهما، ورغَّبهم في ملكوت السماء ليعملوا أعمالاً يستحقون بها الدخول إليها، وزهَّدهم في الأفعال التي كانوا مقيمين عليها والرجوع عنها إلى الأمر الذي يوجب لهم مغفرة الخطايا.
وصام أربعين يوماً بلياليها تخدمه فيها الملائكة وتتعبد له، وهو يجاهد في صومه كيد الشيطان معرِّفاً للناس أن الله قادر على أن يحيي الإنسان بغير خبز ولا ماء، ممثلاً في ذلك حال حياتنا بعد الموت في القيامة، وأنه في ذلك الوقت ترتفع عنا الحاجات كلها ونحيا بلا أكل ولا شرب.

ثم ابتدأ المسيح في فرض الشرائع والسنن الروحانية وتعليم الشرائع الإلهية التي تليق بالإله، ونفي الأمور الجسدانية. فكان من قوله في القتل: قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لِأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ، فَا تْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، واذْهَبْ أَّوَلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ . فقطع بهذه الشريعة أصل العداوة وأسباب البغضة التي تنمي القتل. ثم قال: قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ . فدلّنا بهذا أن الله عارفٌ بالظاهر والباطن، لا تخفى عليه خافية، وهو المكافئ على السر علانية. ثم قال: وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلَاقٍ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلَّا لِعِلَّةِ الّزِنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَّوَجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي . ثم قال في ذمّ الكذب: أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ:لَا تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لَا تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لَا بِالسَّمَاءِ لِأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللّ هِ، وَلَا بِالْأَرْضِ لِأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلَا بِأُورُشَلِيمَ لِأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلَا تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لِأَنَّكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلَامُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لَا لَا. وَمَا زَادَ عَلَى ذ لِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ . ثم قال في الترغيب في الصفح والامتناع من الانتقام: سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لَا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ فَحَّوِلْ لَهُ الْآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَا تْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَا ذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلَا تَرُدَّهُ . فقطع بهذه الوصية سبيل الخصومات وبرّد نار الملاحمات ورفع الشر القاطع بين الناس وقرَّب بعضهم من بعض وجمع بينهم بالتحابب، وألان قساوة الغلظة، وآنس وحشتها، وجعل الناس إخوة في الرحمة والشفقة. وقال في التفضل والإحسان: سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُّوَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الْأَشْرَارِ والصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الْأَبْرَارِ والظَّالِمِينَ. لِأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذ لِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ه كَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ . ثم قال في البر: اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلَا تُصَّوِتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الْأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلَا تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً. ثم قال:éوَمَتَى صَلَّيْتَ فَلَا تَكُنْ كَا لْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَا دْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً. وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لَا تُكَرِّرُوا الْكَلَامَ بَاطِلاً كَا لْأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُبِكَثْرَةِ كَلَامِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لِأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ . ثم قال: وَمَتَى صُمْتُمْ فَلَا تَكُونُوا عَابِسِينَ كَا لْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَا دْهُنْ رَأْسَكَ واغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لَا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لِأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً .

ثم قال في ذمّ الشَّره والحرص والبخل: لَا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الْأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ والصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لَا يُفْسِدُ سُوسٌ وَلَا صَدَأٌ، وَحَيْثُ لَا يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلَا يَسْرِقُونَ، لِأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً . ثم قال: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الْآخَرَ، أَوْ يُلَازِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الْآخَرَ. لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللّ هَ والْمَالَ. لِذ لِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلَا لِأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، والْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لَا تَزْرَعُ وَلَا تَحْصُدُ وَلَا تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لَا تَتْعَبُ وَلَا تَغْزِلُ. وَل كِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلَا سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللّ هُ ه كَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الْإِيمَانِ؟ فَلَا تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ، أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ ه ذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الْأُمَمُ. لِأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى ه ذِهِ كُلِّهَا. ل كِنِ اطْلُبُوا أَّوَلاً مَلَكُوتَ اللّ هِ وَبِرَّهُ، وَه ذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ . ثم قال في اغتياب الناس: لَا تَدِينُوا لِكَيْ لَا تُدَانُوا، لِأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلَا تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لِأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَّوَلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! . ثم قال في الطلب والتضرع إلى الله جل وعز ووعده بالإجابة: اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزاً، يُعْطِيهِ حَجَراً؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً، يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلَادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ! . ثم قال في اصطناع المعروف إلى الناس: فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا ه كَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ، لِأَنَّ ه ذَا هُوَ النَّامُوسُ والْأَنْبِيَاءُ . (مقتطفات من موعظة المسيح على الجبل – من إنجيل متى أصحاحات 5-7).

(يتبع الى الجزء التاسع)

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.