رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام (الجزء الاول)
رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام 2
رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ـــ ج2
رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ــ ج٣
[معجزته القرآن]
تقول إن الحجة البالغة عندك هي هذا الكتاب الذي في يدك، وإن الدليل على صحّة كونه مُنزلاً من عند الله ما فيه من الأخبار القديمة عن موسى والأنبياء وعن سيدنا المسيح، وصاحبك رجل أمّي لم تكن له معرفة ولا علم بتلك الأخبار، فلا بد أنه أُوحي إليه وأُنبئ بما قاله. ثم تقول لا يقدر إنسيّ ولا جنيّ أن يأتي بمثله، ثم تقول: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَّزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (سورة البقرة 2:23) و: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (سورة الحشر 59:21) ونظائر هذه أعظم الدليل على نبوّته، فكأنك جعلت هذا آيةً له وحجة، مثل فلق البحر لموسى، ووقوف الشمس ليشوع بن نون، وإحياء الموتى للمسيح، وأعاجيب الأنبياء السالفين.
فنقول إنه ينبغي لك أن تعلم أولاً كيف كان السبب في هذا الكتاب، ذلك أن رجلاً من رهبان النصارى اسمه سرجيوس أحدث حَدَثاً أنكره عليه أصحابه، فحرموه من الدخول إلى الكنيسة وامتنعوا عن كلامه ومخاطبته، على ما جرت به العادة منهم في مثل هذا الموقف. فندم على ما كان منه، فأراد أن يفعل فعلاً يكون له حجة عند أصحابه النصارى، فذهب إلى تُهامة فجالها حتى بلغ مكة، فنظر البلد غالباً فيها صنفان من الديانة: دين اليهود وعبادة الأصنام، فلم يزل يتلطف ويحتال بصاحبك حتى استماله وتسمَّى عنده نسطوريوس، وذلك أنه أراد بتغيير اسمه إثبات رأي نسطوريوس الذي كان يعتقده ويتديَّن به. فلم يزل يخلو به ويكثر مجالسته ومحادثته إلى أن أزاله عن عبادة الأصنام ثم صيَّره داعياً وتلميذاً له يدعو إلى دين نسطوريوس. فلما أحست اليهود بذلك ناصبته العداوة، فطالبته بالسبب القديم الذي بينهم وبين النصارى. فلم يزل يتزايد به الأمر إلى أن بلغ به ما بلغ. فهذا سبب ما في كتابه من ذكر المسيح والنصرانية والدفاع عنها وتزكية أهلها والشهادة لهم أنهم أقرب مودّة، وأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون (مائدة 82).
فلما توفي وارتدّ القوم وانتهى الأمر إلى أبي بكر، قعد علي بن أبي طالب عن تسليم الأمر لأبي بكر، فعلم عبد الله بن سلام وكعب الأحبار اليهوديان أنهما ظفرا بما كانا يطلبان ويريدان في نفسيهما، فاندسَّا إلى علي بن أبي طالب فقالا له: ألا تدَّعي أنت النبوّة ونحن نوافقك على مثل ما كان يؤدب به صاحبك نسطوريوس النصراني، فلست بأقل منه؟ ولكن أبا بكر عرف بما كان من أمرهما مع علي، فبعث إلى علي. فلما صار إليه ذكّره الحرمة. ونظر علي إلى أبي بكر وإلى قوته، فرجع عما كان عليه ووقع بقلبه. وكان عبد الله بن سلام وكعب الأحبار قد عمدا إلى ما في يد علي بن أبي طالب من الكتاب الذي دفعه إليه صاحبه على معنى الإنجيل، فأدخلا فيه أخبار التوراة، وشيئاً من جل أحكامها، وأخباراً من عندهما بدلها، وشنَّعا فيه وزادا ونقصا ودسّا تلك الشناعات كقولهما: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَا للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفوُنَ (سورة البقرة 2:113) ومثل الأعاجيب والتناقض الذي يجعل الناظر فيه يرى المتكلمين به قوماً شتى مختلفين، كلٌّ منهم ينقض قول صاحبه، ومثل سورة النحل والنمل والعنكبوت وشبهه. إلا أن علياً حين يئس من الأمر أن يصير إليه، صار إلى أبي بكر بعد أربعين يوماً (وقال قومٌ بعد ستة أشهر) فبايعه ووضع يده في يده. وسأله أبو بكر: ما حبسك عنا وعن متابعتنا يا أبا الحسن؟ فقال: كنت مشغولاً بجمع كتاب الله، لأن النبي كان أوصاني بذلك. فما معنى شغله بجمع كتاب الله، وأنت تعلم أن الحجاج بن يوسف أيضاً جمع المصاحف وأسقط منها أشياء كثيرة؟ وأنت تعلم أيضاً أنهم رووا أن النسخة الأولى هي التي كانت بين القرشيين، فأمر علي بن أبي طالب
بأخذها لما اشتد عليه الأمر لئلا يقع فيها الزيادة والنقصان، وهي النسخة التي كانت متفقة مع الإنجيل الذي دفعه إلى نسطوريوس، وكان يسميه عند أصحابه جبريل مرة والروح الأمين مرة. فلما قال علي لأبي بكر في البيعة الأولى: إني شُغلت في جمع الكتاب، قالوا: معنا قول ومعك قول، وهل يجمع كتاب الله؟ فاجتمع أمرهم وجمعوا ما كان حفظه الرجال من أجزائه كسورة التوبة التي كتبوها عن الأعرابي الذي جاءهم من البادية وغيره من الشاذ والوافد، وما كان مكتوباً على اللِّخاف (وهي حجارة بيض رقاق واحدتها لَخْفة وهي في حديث زيد بن ثابت جامع القرآن) والعُسُب (وهو جريد النخل) وعلى عظم الكتف ونحو ذلك، ولم يُجمع في مصحف. وكانت لهم صحف وأدراج على منهاج أدراج اليهود وذلك من حيلة اليهود. وكان الناس يقرأون مختلفين، فقوم يقرأون ما مع علي بن أبي طالب وهم أتباعه إلى اليوم، وقوم يقرأون بهذا المجموع الذي ذكرنا أمره، وقوم يقرأون بقراءة الأعرابي الذي جاء من البرية وقال إن معي حرفاً وآية وأقل وأكثر، فكتب ولا يدري ما قصته ولا في ما أُنزل، وطائفة تقرأ بقراءة ابن مسعود لقول صاحبك: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أُنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد . وكان يُعرض عليه في كل سنة مرة، وفي السنة التي مات فيها عُرض عليه مرتين. وقوم يقرأون قراءة أُبيّ بن كعب، لقوله: أقرأكم أبيّ، وقراءة أُبي وقراءة ابن مسعود متقاربتان . فلما صار الأمر إلى عثمان بن عفان واختلف الناس في القراءة، أقبل علي بن أبي طالب يتطلَّب العلل على عثمان ويتتبع العثرات في القراءة، ويعيبه، وذلك تدبيراً لقتله. فكان الرجل يقرأ الآية ويقرأها الآخر قراءة مختلفة، ويقول الرجل منهم لصاحبه: قراءتي خيرٌ من قراءتك ويحتجّ كلٌّ منهم لصاحبه بالذي يقرأ بقراءته، ويقع في ذلك الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل. فقيل ذلك لعثمان إنهم يختلفون في القراءة ويزيدون في الكتاب ويُنقصون ويقع بينهم الشر والأخذ بالعصبية، ولا نأمن أن يتطاول الأمر ويتفاقم فيقع بينهم القتل ويفسد الكتاب وترجع الرّدة. فبعث عثمان فجمع كل ما أمكنه من تلك الأدراج والرِّقاق، وما كتب أولاً. ولم يتعرضوا لما في يد علي بن أبي طالب من مصحفه ولا لمن كان يقرأ بقراءته ولا دخل معهم في هذا التأليف. فأما أُبيّ بن كعب فمات قبل هذا التأليف، وأما ابن مسعود فطلبوا منه أن يدفع إليهم مصحفه، فأتى فصرفوه عن الكوفة واستعملوا أبا موسى الأشعري، وأمروا زيد بن ثابت الأنصاري وعبد الله بن عباس (وقيل محمد بن أبي بكر) بتأليفه وإصلاحه وحذف الفاسد منه. وقالوا لهما: إذا اختلفتما في شيء أو لفظة أو اسم فاكتباه بلسان قريش. فاختلفا في أشياء كثيرة، منها التابوت . قال زيد هو التابوه، وقال ابن عباس بل هو التابوت فكتباه بلسان قريش. ونظائر هذه كثيرة. فلما جمعوا هذا التأليف على ما في هذه المصاحف كُتبت أربعة مصاحف بخط جليل، ووُجِّه أحدها إلى مكة، وحُفظ آخر في المدينة، ووجّه آخر إلى الشام (وهو اليوم بملطية). ولم يزل ذلك المصحف الذي كان بمكة إلى أيام أبي السرايا. فلما كان في تلك الأيام وهو آخر سلب سلبت الكعبة (سنة 200 ه ). ليس أن أبا السرايا سلبها، بل في تلك الفتنة. فقد قيل: احترق في ما احترق. وأما مصحف المدينة ففُقد في أيام الحيرة، وهي أيام يزيد بن معاوية. ووُجِّه بالمصحف الرابع إلى العراق، وكان بالكوفة وهي يومئذ قبة الإسلام ومجمع المهاجرين والصحابة. ويقال إن ذلك المصحف فُقد في أيام المختار. ثم أمر عثمان بجمع ما جُمع من تلك المصاحف والأدراج التي جُمعت من البلاد، وغلوا له الخل وسرحوه فيه وتركوه حتى تقطع واهترى، ولم يبقَ شيء إلا متفرقاً، مثلما قيل عن سورة النور إنها كانت أطول من سورة البقرة، وكما قيل إن سورة الأحزاب مبتورة ليست بتمامها، وكذلك قالوا في التوبة إنها لم يوجد بينها وبين الأنفال فصل يعرف، فلم يفصلوهما بسطر بسم الله الرحمن الرحيم، ومثل قول ابن مسعود في المعوَّذتين لما أثبتوهما في المصحف: لا تزيدوا فيه ما ليس منه . ومثل قول عمر على المنبر: لا يقولُنّ أحد إن آية الرجم ليست في كتاب الله، فإنّا كنا نقرأ والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة . فلولا أن يُقال عمر قد زاد القرآن ما ليس فيه لزدتُها فيه بيدي . ومثل قوله في آخر خطبة خطبها: إني لا أعلم أن أحداً قال إن المتعة ليست في كتاب الله، بل قد كنا نقرأ آية المتعة، ولكنها سقطت. فلا جزى الله من أسقطها خيراً، فإنه أؤتُمن فما أدَّى الأمانة، ولا نصح الله ولا رسوله، فقد أسقط المموَّه عليه من القرآن شيئاً كثيراً . وقوله أيضاً: وما كان عليه أن يرخّص الله للناس، وإنما بعث محمداً بالدين الواسع . وقال أبيّ بن كعب: سورتان كانوا يقرأونهما فيه، وإنما قال هذا في التأليف الأول، ولم يدرك هذا التأليف، وهما سورتا القنوت والوتر، وهما: اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونتوكل عليك إلى آخر الوتر. وكذلك آية المتعة فإن علياً كان أسقطها وقال إنه سمع رجلاً يقرأها على عهده فدعاه وضربه بالسوط، وأمر الناس ألاَّ يقرأها أحد، فكان هذا بعض ما شنَّعت به عليه عائشة يوم الجمل، وقد دخلت منزل عبد الله بن خلف الخزاعي، فقالت في بعض قولها: إنه يجلد على القرآن ويضرب عليه وينهى عنه وقد بدَّل وحرَّف . وبقي مصحف عبد الله بن مسعود عنده فهو يُتوارث إلى الساعة، وكذلك مصحف علي بن أبي طالب عند أهله. ثم أن الحجاج بن يوسف لم يدع مصحفاً إلا جمعه وأسقط منه أشياء كثيرة ذكروا أنها كانت نزلت في بني أمية بأسماء قومٍ، وفي بني العباس بأسماء قومٍ، وزاد فيه أشياء: وكتبت نسخ بتأليف ما أراد الحجاج في ستة مصاحف، فوُجّه واحد إلى مصر وآخر إلى الشام وآخر إلى المدينة وآخر إلى مكة وآخر إلى الكوفة وآخر إلى البصرة، وعمد إلى المصاحف المتقدمة فغلى لها الزيت وسرَّحها فيه فتقطعت، كما فعل عثمان.
والدليل على ما كتبنا أنك الرجل الذي قرأ كتب الله المنزلة، وأنت تعلم أن الأيدي الكثيرة تداولت كتابك واختلفت فيه الآراء وزيد فيه ونقص منه، وكلٌّ قال ووضع ما أراد وأسقط ما كره. أفهذه عندك شروط كتب الله المنزلة سيما وصاحبك أعرابي جلْف، فخطر خاطر في قلبه فسجَعه بلسانه وصار به إلى قوم بَدْوٍ فتقرَّب به إليهم، وهم يشهدون في كتابهم أن الأعراب أشد كفراً ونفاقاً؟ وكيف يُؤخذ سرّ الله ووحيه وتنزيله على نبيّه ممن هو أشد كفراً؟ وأنت تعلم ما كان بين علي وأبي بكر وعمر وعثمان من العداوة، فقد زاد هؤلاء ونقصوا، وزاد هذا ونقص. وإنما كان كل واحد منهم يريد الخلاف على صاحبه. فمن أين نعلم أي الأقوال هو الصحيح؟ وكيف يمكن أن تميّزه من السقيم، وقد زاد فيه الحجاج ونقص منه؟ وأنت عارفٌ بمذهب الحجاج في جميع أموره. فكيف تأمنه على كتاب الله، وقد كان الرجل الذي يتقرب إلى بني أمية بكل ما يجد إليه سبيلاً؟ هذا وقد خالطهم اليهود، وكان بعضهم منافقين دسوا في كتاب صاحبك مكراً منهم وخديعةً للفساد، وتدبّراً منهم عليهم ليبطلوا أمر المسلمين. ولولا أنك الرجل الذي قرأ كتب الله ودرسها حق دراستها، وأن الإنصاف أصل شيمتك، لما شرحنا لك هذا الشرح. والحق فيه بعض مرارة عاجلة وحلاوة كثيرة آجلة، فلهذا السبب قد اكتفينا بما ذكرناه. فاصبر للمرارة اليسيرة من الدواء تعقبك حلاوةٌ كثيرة في العاقبة.
وأنت تعلم أننا لم نكتب إليك بشيء من ذات أنفسنا، ولم نثبت إلا الصحيح مما نقلَتْهُ رُواتكم العُدول عندكم، المأخوذ بقولهم، المعوَّل في الدين على ما نقلوه من هذه الأخبار وغيرها في صحتها، وأنهم لم يزيدوا ولا مالوا إلى أحد الفريقين.
فأخبرني أصلحك الله عن قول صاحبك قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ والْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (سورة الإسراء 17:88). أفتقول أفصح ألفاظاً منه؟ فجوابنا لك في هذا: نعم. أفصح منه كلام اليونانية عند الروم، والزوبة عند أهل فارس، والسريانية عند أهل الرها والسريانيين، وعبرانية بيت المقدس عند العبرانيين، فإن كل لسان له كلام فصيح عند أهله من سائر الألسن، ولهم ألفاظ فصيحة يتخاطبون بها، وهي عندك كلها أعجمية. كما أن لسانك العربي الفصيح أعجمي عندهم. هذا إذا أطلقنا قولك إن كتابك أفصح ألفاظاً بالعربية، فصاحب فصاحة الألفاظ هو الذي لا يحتاج إلى استعارة ألفاظ غيره، ولا يستعين بها في خُطبه وكلامه، بل يكون مستغنياً بمعرفته وفصاحته عن لسان غيره. ونحن نرى صاحبك قد افتقر في كتابه إلى استعمال كلمات غيره، وهو القائل: إنا أنزلناه قرآناً عربياً ولكنه استعان من الفارسيّة بالإستبرق وسندس وأباريق ونمارق، ومن الحبشيّة المشكاة وهي الكوة، ومثل هذا كثير قد استعمله في كتابه. فنقول إن العربية ضاقت عليه فلم يكن فيها من الاتساع ما ألجأه إلى لسان غيره في هذه الأشياء، سيما وأنت ترى أنها مُنزلة من عند رب العالمين على يد جبريل الملك الأمين. فأنت توقع النقص بالمرسِل أو بالرسول. فإن كان من عند صاحبك فوقع النقص به لأنه لم يكن يعرف هذه الأسماء بالعربية، فلذلك أعجزته. فهذه ألفاظ امرء القيس وغيره من الشعراء والفصحاء المتقدمين والمتأخرين الذين لا يُحصى عددهم، وكلام الخطباء والبلغاء الذين كانوا قبل مجيء صاحبك أفصح ألفاظاً منه وأرق وأدق معانٍ بإقراره لأهلها حيث حاجّوه فقطعوه فقال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (سورة الزخرف 43:58) لأنهم خصموه فكانوا خصماً بأصحّ حجة. وكانوا أبلغ في الخطابة منه، وهو القائل إن من البيان لسحراً فلا يخلو إذاً أمر هذا الكتاب مما وُضع فيه من الألفاظ الأعجمية من أن يكون قد ضاق على صاحبك اللسان العربي، مع علمنا أن لساننا العربي أوسع الألسن كلها.
أو أن يكون قد أُدخلت فيه الزيادة من قوم آخرين، كما ذكرنا لك في أصل خبره، وأن الأيادي الكثيرة قد تداولته. فأخبرني أي القولين أحببت، فإنه لا محيص لك من أن تقول بأحدهما، وأنت عارف بنتيجة ذلك إذا قلتَه. فإن قلتَ إنهم لا يقدرون أن يأتوا بمثل تنضيده وترصيعه، قلنا لك إن تنضيد الشعراء لشعرهم ووزنهم له الوزن الصحيح الذي هو أصعب وأدق معنى، واختيار الألفاظ النقية الصافية العربية الخالصة مع اتساق المعنى الحسن أكمل في الأحكام وأصح في الصنعة، لأن كتابك كله سجعٌ منكسر وكلام مختلف وتكبير معانٍ لا معنى لها. فإن قلتَ: بل هو أصح معاني، سألناك: أي معنى جديد ظفرت به فيه، نتعلمه منك! وأي معنى صحيح وجدته فيه، فأوقفنا عليه! وأي خبرٍ لم نسمعه على غاية التمام والكمال من الشرح والصحة في الكتب المتقدمة، أَفْدنا منه؟
لقد عمل مسيلمة الحنيفي والأسود العنسي وطليحة بن خويلد الأسدي وغيرهم مثلما عمل صاحبك. وأشهد أني قرأت مصحفاً لمسيلمة لو ظهر لأصحابك لردَّ أكثرهم، إلا أنه لم يتهيأ لهؤلاء أنصارٌ مثلما تهيّأ لصاحبك.
(يتبع الجزء الخامس)