رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام (الجزء الاول)
رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام 2
إن قلت نبيّنا أخبرنا بأقاصيص الأنبياء الذين كانوا قبله في الزمان السالف كنوحٍ وإبراهيم واسحق ويعقوب وموسى والمسيح وسائر الأولين الذين ذكرهم في كتابه، فجوابنا أنه أخبرنا بما سبقت معرفتنا به، ودرسته صبياننا وأطفالنا في المكاتب. فإن ذكرت قصة عاد وثمود والناقة وأصحاب الفيل ونظائر هذه القصص، قلنا لك: هذه أخبار وخرافات عجائز الحي، وليس ذكرها دليلاً على نبوته، فقد سقطتْ عنه شريطة من الشريطتين اللتين توجبان النبوة .
فإن قلتَ أنه أخبر بأمرٍ قبل حدوثه، ألزمناك توضيح ذلك، لأنه قد مضت أكثر من مائتي سنة منذ موت محمد، وكان يجب أن يتحقق عندك شيءٌ مما أخبرك أنه سيكون. ولكنك تعلم أنه لم يأتِ في هذا الباب بشيءٍ ولا نطق فيه بكلمة ولا تفوَّه بحرف واحد، فسقطت عنه الشريطة الثانية من شروط النبوة .
وإذ قد خلا من الشريطتين اللذين يوجبان الإيمان بالنبوَّة، نسأل: هل أجرى محمد معجزات باهرات؟ فنسمعه يقول: “وما مَنَعَنا أن نُرْسِلَ بالآيات إلاَّ أنْ كذَّبَ بها الأوَّلون” (الإسراء 61). أي: لولا أن يكذبوا بآياتك كما كذبوا بالآيات التي جاءَهم بها الأولون من قبلك، لأعطيناك الآيات! وأنت تعلم أن هذا جواب مرفوض، لا يقنع أحداً !
فإن ادعيتَ أن من دلائل نبوته ظفره وظفر أصحابه على ما كانوا عليه من القلَّة والضعف بملك فارس على عظمته وجودة تدبير أصحابه وحسن سياسة ملوكه، مع كثرة العدد والسلاح والرجال، أجبناك بكلام اللـه وقوله لبني إسرائيل: “متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها، وطرد شـعوباً كثيرة من أمامك: الحيثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحِوِّيِّين واليبوسيين، سبع شعوبٍ أكثر وأعظم منك، ودفعهم الرب إلهك أمامك… ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم، ولا لأنكم أقل من سائر الشعوب بل من محبَّة الرب إياكم”(التثنية 7: 1) .
ولكن عندما طغى بنو إسرائيل وجعلوا لله أنداداً وجحدوا آياته فقلَّ شكرهم لله، سلَّط عليهم شرَّ خلقه “بختنصر” عابد الصنم المشرك بالله، فقتل الرجال الذين كانوا أولاده وصفوته وخيرته وشعبه ، وسبى ذراريهم، وأخرب البيت الذي كان معروفاً باسمه، ونقل الآنية التي كانت فيه إلى بابل النجسة بعبادة الأصنام. فهل نقول أنَّ بختنصر ظفر ببيت المقدس وبلغ منه ومن أهله ما بلغ لأنه كان نبياً ؟ أم للسبب الذي ذكرناه آنفاً ؟ فكذلك أيضاً كانت قصة صاحبك وأصحابه مع ملك فارس، لأن أهل فارس كانوا مجوساً يعبدون الشمس والنار وادَّعوا الربوبية التي لم يجعلها الله لهم، وابتذلوا نعمه كفراً وسعوا في الأرض فساداً، وارتكبوا العظائم، وتوهموا أنَّ الذي هم فيه إنما هو من صحة تدبيرهم وكثرة قوتهم، فسلبهم الله نعمته وسلط عليهم من أخرب بلادهم وقتل رجالهم وأخلى مساكنهم منهم وسبى ذراريهم ونهب أموالهم وبادوا بسخط الله ورجزه. كذلك يفعل اللـه بالقوم الظالمين .
فلنرجع الآن إلى ذكر الآيات الموجبة لكل من أظهرها صحة ما يدعي من نبوة أو رسالة عن الله تبارك وتعالى، وننظر في ذلك نظراً شافياً فنقول: أما كتاب صاحبك الذي ادَّعى أنه منزَل عليه من عند الله فليس فيه شيء من ذكر المعجزات، فقد قال: “إن الله لم يجعله صاحب معجزة لأن السابقين كذَّبوا بآيات الأنبياء الأولين، فكره الله أن يؤتيه بشيء منها فيكذبون به”. ولعمري، أهذه حجَّة مقنعة وجواب صحيح يجوز عند ذوي العقل ويرضى به العلماء والفلاسفة والمنتقدون للكلام والباحثون عن الأصول والأخبار، فهذا ما شهد به كتابه. نعم إنَّ الأولين من اليهود كذبوا بآيات الأنبياء وردُّوها، وأما الأعراب فبآيات من كذَّبوا، ولم يُبعث فيهم نبي قط، ولا وُجِّه إليهم رسول لا بآية ولا بغير آية؟ ولعله لو كان جاءهم بشيء من الآيات لكانوا صدقوه ولم يكذبوه ! ألم نر أنَّ كثيرين منهم أجابوا دعوته ولم يروا منه آية ولا سمعوا عنه أعجوبة؟ أما غير الكتاب فقد وجدنا لكم أخباراً وقصصاً هي كخرافات العجائز، منها زعمهم أنه كان من آياته العجيبة أنه وقف بين يديه ذئب فعوى وبكى، فالتفت محمد إلى أصحابه قائلاً لهم: هذا وافد السباع، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئاً لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه وتحرَّرتم منه. قالوا : ما نطيب له بشيء، فأومأ إليه بأصابعه الثلث أن خالسهم ، فولّى وهو غائل، فهذه آية عجيبة لم يسمع السامعون بمثلها قط ولم ير الراؤون أعجب منها: أنه عرف عواء الذئب وأنه وافد السباع. لو كان قال لهم أنَّ هذا الذئب رسول رب العالمين إليه، مَنْ كان يردُّ عليه قوله، ولا منتقد باحث فيهم؟ ومنها زعمهم أن الذئب كلَّم أهبان بن أوس الأسلمي فأسلم، ولو ادّعى أن أهبان ذكر أن الأسد كلَّمه لكان عندي أعجب. على انه ساوى بينه وبين نفسه فيهما، بل فضَّله على نفسه، إذ الذئب معه عوى، فادَّعى معرفة ما قال في عوائه إنه وافد السباع. فأما أهبان فزعم أن الذئب كلَّمه بلسانٍ عربي. والأعجب في ذلك أن هاتين الآيتين لم تجريا إلا بواسطة الذئب الذي يُعرف بالخاطف من السـباع، وهذا لقبه! وكذلك قصة ثور دريخ وادّعاءهم أنه كلَّم دريخاً عندما ضربه. وكتابه يشهد أن الأعراب أشد كفراً ونفاقاً. وأما شاة أم معبد ومَسْحه يده على ضرعها وما يلي ذلك من الخرافات الأخرى كدعائه الشجرة فأسرعت إليه مقبلة مجيبة تجهد في الأرض، فهذا أمـر نؤخرّه. لأن أكثر المسلمين الراسخين في العلم لا يقبلونه. وكذلك السم الذي سمَّته به زينب بنت الحارث اليهودية (زوجة سلام بن مشكم اليهودي) في شاة مشوية فكلَّمته الذراع. وأكل معه بِشرْ بن البراء بن معرور فمات، وانَّ السم الذي لم يزل يدب في بدن محمد كان سبب موته. فهل سمع الكلام من الذراع وحده، أم سمعه من كانوا بحضرته؟ فإن كان سمعه هو وحده فلِمَ لم يمنع ابن البراء من أكل طعام مسمومٍ حتى لا يموت، وهو رجل من أصحابه اختصَّه بالأكل معه؟ وكيف استحلَّ ذلك واستجاز كتمان قول الذراع له إنها مسمومة ؟ وإن كان جميع الحاضرين سمعوا كلام الذراع، فكيف لم يمتنع ابن البراء من الأكل وهو يسمع الذراع تقول: لا تأكل مني فإني مسمومة ؟ فليس يخلو هذا من أحد وجهين، إما أن يكون سمعه هو وحده وكتم ذلك غدراً، وإما أن تكون الجماعة سمعوه فلم يمتنع ابن البراء من ذلك الأكل حيث سمع ولا يموت. ولعل ابن البراء أكل السم ثقةً منه بأنه يأكل مع نبي مُستجاب الدعوة ورسـول رب العالمين، مشفَّع عند ربه في جميع ما سأله. فلماذا لم يَدْعُ محمد ربه فيجيبه كعهدنا بالأنبياء المشفعين في إحياء الموتى؟ فإن إيليا النبي قد أحيا ابن الأرملة بصرفة (1 ملوك 17) وهكذا أليشع تلميذ إيليا أقام ابن الشونمية من الموت (2 ملوك 4). وقد فعلت الأنبياء مثل هذا مـراراً كثيرة وهم أحياء، وفعلت أيضاً القوة الحالَّة في عظامهم كفعل عظام أليشع النبي حيث وُضِع الميت عليها فعاش (2 ملوك 13). وأنت تعلم أن هذا خبر صحيح في كتب الله المنزلة ليس فيه اختلاف بين النصارى أصلاً ولا بين اليهود، وهما ملَّتان مختلفتان اجتمعتا على صحة ذلك. وكيف لم يأكل محمد منها أيضاً ولم يصبه شيء، فيكون ذلك آية له وشاهداً على صحة ما يدّعي من النبوة إن كان نبياً ؟ لأن الأنبياء معصومون بالوقاية الإلهية من الآفات التي تحتال الكفرة بها عليهم وعلى أولياء الله، كقول المسيح عن تلاميذه: “إن شربوا شيئاً مميتاً لا يضرَّهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون” (مرقس 16: 18). وحقَّق المسيح لهم هذا، فقد كانوا يُمتحنون بمثل هذا فتظهر صحَّة دعواهم عند التجربة، فانقادت لهم الملوك الجبابرة والعلماء الفلاسفة والحكماء أصحاب الحيل والقضاة، بلا سيف ولا عشيرة ولا حكمة دنيوية ولا فصاحة ألفاظ ولا ترغيب في شيء ولا تسهيل في شريعة، بل لما كانوا يرون من إظهارهم الأفعال المعجبة التي يمتنع إمكانها في عقول الآدميين، فكانوا يرفضون ملكهم وعتوهم، ويدّعون فلسفتهم، ويزهدون في علمهم وحكمتهم، ويخرجون عن نعمتهم وإيثارهم، ويتبعون أناساً فقراء الظاهر، صيادي سمك، وعشارين، لا حسب لهم ولا نسب غير انتهائهم إلى طاعة المسيح الذي أعطاهم السلطان والقدرة على إفعال تلك العجائب. فهذه، أصلحك الله، دلائل النبوة وعلامات الرسالة، وصحة الدعوة إلى الله تعالى، لا ما يدعيه صاحبك مما لا حقيقة له .
وأما الميضأَة ( وعاء للوضوء) وخبرها، وأنه أدخل يده فيها ففاض منها الماء حتى شربوا وشربت دوابهم، فالخبر بذلك جاء عن محمد بن إسحق الزهري، وأمرها ضعيف عند أصحاب الأخبار، ولم يجتمع أصحابك على صحته. فكيفما أردت فأخبار صاحبك، أصلحك الله، ليس ينساغ منها شيء ولا يستوي ولا تصح دعوة واحدة مما سواها، على أنه قد سبق فقطع الدعاوي وحذف ذكر الآيات بَتَّةً، فسقطت دعوى من ادعى له آية. وإنما بُعث بالسيف زعم تصليباً وأن كل من لم يقر أنه نبي مرسل قتله، أو يؤدي الجزية ثمناً لكفره فيدعه، فهل تريد اصلحك الله دليلاً أوضح أو حجة أقنع أو برهاناً أصح على بطلان ما جاء به صاحبك أكثر من هذا. إن أنت أنصفت نفسك وصدقتها، على أن صاحبك قد اقر وقطع بإقراره كل سبب بما نقلت عنه الثقاة الحاملون أخباره، فإنه قال قولاً مصرحاً غير مكاتم ولا مساتر انه: “ليس من نبي إلا وقد كذبت أمته عليه، ولست آمَن أن تكذب عليَّ أمتي، فما جاءكم عني اعرضوه على الكتاب الذي خلفتُه بين أظهُركم، فإن كان له مشاكلاً وكان له فيه ذكر فهو عني، وإني قلته وفعلته. وإن لم يكن له ذكر في الكتاب فأنا بريء منه وهو كذب ممن رواه عني، وما قلتُه ولا فعلتُه”.
فانظر في هذه الأخبار التي ذكرناها مما يقول أصحابك: هل تجد لها أصلاً في الكتاب الذي في يدك؟ فإن كان لها فيه ذكر فهي صحيحة قد فعلها، وإلاّ فهو بريء منها، وهي أباطيل وأكاذيب!
ثم أعظم من هذا وأشنع أنه كان يقول لهم في حياته ويوصي إليهم إذا مات ألاّ يدفنوه، فإنَّه سيرفع إلى السماء كما ارتفع المسيح، وأنَّه أكرم على الله أن يتركه على الأرض أكثر من ثلاثة أيام. ولم يزل ذلك عندهم متمكناً في قلوبهم. فلما مات يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول سنة 63 لمولده، وقد مرض 14 يوماً، تركوه ميتاً، يظنون أنه سيرفع إلى السماء كقوله. فلمَّا أتت عليه ثلاثة أيام وانقطع رجاؤهم من ذلك ويئسوا من تلك المواعيد الباطلة، دفنوه يوم الأربعاء. وحكى بعضهم أنه مرض سبعة أيام بذات الجنُب، وأنه غرب عقله وخلط في كلامه تخليطاً شنيعاً، فغضب لذلك علي بن أبي طالب وأنكره. فلما أفاق أخبره بما كان فقال: “لا يبقينَّ في البيت أحدٌ إلاّ العباس بن عبد المطلب”. فلما كان اليوم السابع من مرضه مات، فارتفع بطنه وانعكست إصبعه الشمال وهي الخنصر. وذكر ضمران أنه كان تحته في مرضه شملة حمراء وعليها مات وفيها أُدرج بعد موته ورُوي في التراب بغير غسل ولا أكفان. وروى عمران بن خضير الخزاعي أنه غُسل وأُدرج في ثلاثة أثواب بيض يمانية، وأن الذي تولى ذلك منه علي بن أبي طالب والفضل بن العباس بن عبد المطلب عمه. فلم يبقَ أحدٌ ممن كان تبعه إلاَّ ارتد ورجع عما كان عليه، غير نفرٍ يسير من أخصَّ أهله وأقربهم نسباً إليه، طمعاً بما كان فيه من تلك الرئاسة. فكان لأبي بكر (عتيق بن أبي قحافة) في ذلك أعجب تدبير فتولى الأمر بعده. فاغتاظ علي بن أبي طالب غاية الغيظ لأنه لم يكن يشك أن الأمر صائرٌ إليه، فانتُزع من يده. كل ذلك حرصاً على الدنيا ورغبة في الرئاسة. فلم يزل أبو بكر يلطف بالمرتدّين إلى أن رجعوا بضروبٍ من الحيل والرفق والأماني. وكان بعض ذلك بالخوف من السيف، وبعض بالترغيب في سلطان الدنيا وأموالها وإباحة شهواتها ولذاتها. فرجع من رجع في ظاهره لا في باطنه. وما أشك في أنك تذكر ما جرى في مجلس أمير المؤمنين، وقد قيل له في رجلٍ من أجلّ أصحابه إنه إنما يُظهر الإسلام وباطنه المجوسية، فأجاب: “واللـه إني لأعلم أن فلاناً وفلاناً (حتى عدَّد جملة من خواص أصحابه) ليُظهرون الإسلام وهم أبرياء منه، ويراءونني وأعلم أن باطنهم يخالف ما يظهرونه لأنهم قوم دخلوا في الإسلام لا رغبة في ديانتنا هذه، بل أرادوا القرب منا والتعزُّز بسلطان دولتنا. وإني أعلم أن قصتهم كقصة ما يُضرب من مثل العامة أن اليهودي إنما تصحُّ يهوديته ويحفظ شرائع توراته إذا أظهر الإسلام! وما قصة هؤلاء في مجوسيتهم وإسلامهم إلا كقصة اليهودي. وإني لأعلم أن فلاناً وفلاناً (حتى عدَّد جماعة من أصحابه) كانوا نصارى فأسلموا كرهاً، فما هم بمسلمين ولا نصارى، ولكنهم مخاتلون: فما حيلتي وكيف أصنع؟ فعليهم جميعاً لعنة اللـه. أما كان يجب عليهم إذ خرجوا من المجوسية النجسة القذرة، التي هي اشر الأديان وأخبث الاعتقادات، أو عن النصرانية التي هي أذعن الأقاويل، إلى نور الإسلام وضيائه وصحة عقدة أن يكونوا أشد تمسكاً بما دخلوا فيه منه بما تركوه ظاهراً وخرجوا عنه رياءً. ولكن لي قدوة برسول الله. لقد كان أكثر أصحابه وأخصَّهم به وأقربهم إليه نسباً يُظهرون أنهم أتباعه وأنصاره، وكان محمد يعلم أنهم منافقون، وأنهم لم يزالوا يريدون به السوء ، ويعينون المشركين عليه، حتى أن جماعة منهم كمنوا له تحت العقبة واحتالوا في تنفير بغلته لترمي به فتقتله، فوقاه الله كيدهم. ثم كان يداريهم دائماً إلى أن قبض الله روحه. ثم ارتدّوا جميعاً بعد موته، فلم يبق منهم أحد كان يظن به رشداً إلا رجع وارتدّ، إلى أن أيَّده الله وجمع تفرُّقهم وألقى في قلوب بعضهم شهوة الخلافة ومحبة الدنيا، فربط النظام وجمع الشمل وألَّف التشتيت بالحيلة ولطف المداراة، وأتمَّ اللـه ما أتمه. وما المنَّة في ذلك له ولا هو محمود عليه، بل المنَّة لله والحمد والشكر له على ذلك بأسره. فلست أذكر ما أراه ويبلغني عن أصحابي هؤلاء إلا المداراة والصبر عليهم، إلى أن يحكم الله بيني وبينهم، وهو خير الحاكمين”
ولولا أن سيدي أمير المؤمنين تكلم جهاراً على رؤوس الملأ في مجلسه، فذاع الخبر بذلك ونقله الشاهد إلى الغائب، لما حكيتُه. وأنت تشهد لي أني إنما ذكرتك بما جرى من الكلام في ذلك المجلس وليس له مدة طويلة. وأردتُ إعادته لأُذكرك أمر الرد وأن القوم لم يكن ردُّهم إلى هذا الأمر إلا رغبة في الدنيا ولإتمام هذا الملك الذي هم فيه وفي ذلك لذوي الألباب ممن ينظر في كتابنا هذا جواب مقنع أن شاء الله .
فلنرجع الآن إلى كلامنا الأول ونقول أنه كان عمره ثلاثاً وستين سنة منها أربعون سنة قبل ادعائه النبوة وثلاثة عشرة سنة بمكة وعشر في المدينة. وهذا أصلحك الله مالا تقدر أنت ولا غيرك ممن يدعي مثل ادعائك أن ينكره أو يجحده. والذي نقل إليك دينك ووثقت به في جميع ما نقله عنه هو الذي نقل هذه الأخبار فهذه قصته من أولها إلى آخرها
فإن ادعيت أنَّ موسى النبي ويشوع بن نون خليفة موسى قد حاربا أهلَ فلسـطين، وضربا بالسيف، وقتلا الرجال وسبيا، وأحرقا القرى والمساكن بالنار، ونهبا الأموال، قلنا لك أنهما فعلا ما فعلاه عن أمر اللـه لتنفيذ ما أراده وإنجاز مواعيده، فإنَّ ذلك كان في قوم طغوا وبغوا، فأحبَّ اللـه تأديبهم كتأديب الأب المشفق على ابنه. فإن سألت: وما الدليل على أن ما فعلاه كان عن أمر الله سبحانه، وأنَّ الذي فعله صاحبك لم يكن عن أمر الله؟ قلنا: إن نبي الله موسى جاء بالآيات العجيبة التي فعلها بمصر بحضرة فرعون وجميع أهل مصر، بعد ما فعل أهل مصر ببني إسرائيل ما فعلوه. وبعد ذلك أخرج بني إسرائيل بتلك القوة المنيعة، وفلق لهم البحر وأجازهم، وغرق فرعون وأصحابه عندما تبعهم. وضرب موسى الحجر الأصم فتفجر منه 12 نهراً سقاهم منها، وأنزل لهم المن والسلوى، وما أشبه ذلك مما أتى به مما هو ممتنع في قدرة المخلوقين، لا يقدر أحد أن يفعل ذلك غير الخالق ومن أعطاه الرب القدرة على فعل مثله. فصارت هذه دلائل واضحة بأن جميع ما حكاه وفعله هو عن أمر الله. وصح عندنا أيضاً من وجه آخر أنه لم يجيء من بعده نبي ولا رسول من عند الله إلا ثبَّتَ له مقالته وصحَّحَ قوله وما جاء به، وعلمنا أن قتال الكفار الذين قاتلهم وسبى ذراريهم وأحرق مساكنهم ونهب أموالهم حقٌ من الله..
(يتبع الجزء الثالث)