رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام (الجزء الاول)
رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام 2
رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ـــ ج2
رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ــ ج٣
رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ـــ ج4
رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ج5
رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام ـــ ج٦
[أبونا السماوي]
ولعل منتقداً يعيب ألفاظ الإنجيل في إطلاق المسيح لقب الأب على الله. فنجيبه أن المسيح أراد أن يحبّب طاعة الله إلى الناس ويقرّبها من قلوبهم، لتكون طاعتهم له بالمحبة والمودة لا بالقهر والرهبة، وأن يؤلف بين قلوبهم ويُخرج العداوة منها، ويرفع ذكر التفاخر بالأنساب الذي أوقعه الشيطان بينهم، ويجعلهم متعارفين بعضهم ببعض بالأخوّة إخوة لأب واحد وأم واحدة. فقال لهم: أبوكم الذي في السموات يفعل بكم كذا وكذا . لأن الله هو الأب الرحيم المشفق المتحنن الذي بدأ فخلقنا جوداً وإحساناً، وهو يقوينا ويرزقنا بنعمته ويتفقَّدنا بجوده، ويغفر ذنوبنا ويحتمل بكرمه وطول أناته جهلنا، كما يفعل الأب المشفق على ولده. ثم إذا أدَّبنا خلط تأديبه بالرأفة والرحمة. فمن أحقّ وأوْلى أن يُسمَّى باسم الأبوّة الحقيقية من الله تبارك اسمه. فلا حجة إذاً لمن ينكر على المسيح سيدنا تسميته الله أبانا .
ثم قال في أداء الفرائض: مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لِأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا (لوقا 17:10). وقد تحققت لنا أقواله ووصاياه بما كان يظهر لنا من سيرته أنه كان صائماً مصلياً، لا بيت له ولا مأوى ولا شيء من القنية أكثر من ثوبين يواري بهما جسده، فقد قال له بعض السائلين: يا عظيمنا، أين منزلك لآتيك فيه؟ فأجابه: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما أنا فلا بيت لي ولا مأوى. حيث أدركتَ فهناك مبيتي، ومتى طلبتني وجدتني (قارن متى 8:20). لم يتكلم بإفك قط ولا همّ بخطيئة ولا اقترف ذنباً ولا ارتكب إثماً ولا قبيحة، ولا أعاب أحداً ولا أذاه، ولا منع طالباً ولا ردَّ سائلاً ولا أعرض عن مستغيث كما سبق قول النبي فيه (إشعياء 53). ثم أتبع ذلك فحقق قوله بالأعاجيب والآيات التي فعلها، وكان يشفي المرضى الذين لا يعرف عددهم إلا هو تبارك اسمه، ويهب لهم العافية. بكلامه طهر البرص وأخرج الشياطين وبسط أيدي العُسم وأحيا الموتى مثل لعازر أخي مريم ومرثا وابنة يايرس رئيس الكهنة وعبد خادم الملك وابن أرملة نايين. وأخبر بالغيب وبما تخفيه صدورهم، وبكلمته أبرأ المفلوج وأمر المقعد الذي أتت عليه ثمان وثلاثون سنة أن يحمل سريره ويمشي، فكان ذلك. ونادى الشياطين فأجابته مذعنة لأمره طائعة لربوبيته مقرَّة أنه كلمة الله الحي، وأنه هو الذي يبطل سلطانها. وغفر الخطايا ومحا الذنوب بالكلمة الخالقة الممجدة بروح القدس الحال فيه، وفتح أعين الأكمه المعروف بالعمى على طول الأيام، وخلق لبعضهم الأعين من الطين المجبول بريقه قدرةً منه على الخليقة، وأشبع من خمس خبزات وسمكتين خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والصبيان، وفضل من ذلك اثنتا عشرة قفة من الكِسر، وكان مباركاً حيث كان. وغيَّر الماء المصبوب في ستة أجران إلى خمرٍ في عرس قانا الجليل. وتباركت به الصبيان ونادت به الأطفال. وزجر أمواج البحر في شدة الريح فانتهت، ومشى على الماء، وتجلى لتلاميذه في الجبل مع موسى وإيليا النبيين، وخبَّر السامرية بخبرها مع الأزواج، وأبرأ مريضة بنزيف دم منذ اثنتي عشرة سنة بمجرد لمسها ثوبه وهي تظن أنه لا يعلم بها، فعلم بالقوة التي خرجت منه وسأل الجماعة: من لمس ثوبي؟ وأتت المرأة وسجدت له وأقرَّت بما فعلت، فقال لها: إيمانك شفاك. امضي بسلام وكوني بريئة من علّتك . وأمر الشياطين أن تدخل في الخنازير وتغرق في البحر فأطاعته.
ولأنني أعلم أنك قد قرأت الإنجيل المقدس، ومن قول صاحبك وشهادته: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (سورة البقرة 2:87). فكيف تقول إن هذه الأفعال ليست إلهية، وكل ذي لبٍّ إذا قاسها بأفعال صاحبك تبيَّن له الحق من الباطل؟ فإن قلت إن الأنبياء كانت تفعل المعجزات التي ليس في قدرة العالمين أن يفعلوا مثلها، مثل موسى وغيره، قلنا لك: كانت الأنبياء تفعل ذلك، لكن بعد التضرع الشديد والطلب الطويل، لا بالقدرة القاهرة والأمر النافذ، لأن أولئك كانوا يفعلون الشيء المعجز كما يفعل العبيد المشفقون بحسب الطاعة لتنفيذ الأمر الذي وجِّهوا به وتبليغ الرسالة. وأنت تعلم أن موسى قبل فلق البحر لبني إسرائيل ما زال مصلياً راكعاً ساجداً طالباً حتى قال الله له: مَا لَكَ تَصْرُخُ إِلَيَّ؟ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَرْحَلُوا. وارْفَعْ أَنْتَ عَصَاكَ وَمُدَّ يَدَكَ عَلَى الْبَحْرِ وَشُقَّهُ، فَيَدْخُلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ (خروج 14:15 ، 16). وكذلك يشوع بن نون وإيليا وأليشع كانوا يتضرعون ويطلبون في صلواتهم، فعند ذلك يؤذن لهم في عمل الآية. على أن بعضاً دعا وصلى وتضرع فلم يُجَب مثل موسى الذي رفض الله دخوله أرض الموعد لأنه لم يصدّق ولم يقدّس اسم الله أمام بني إسرائيل، وذلك في المكان المعروف بماء الخصام لضربه الصخرة ضربتين، فحرمه من دخول أرض الميعاد. ومثل إرميا المغبوط في الأنبياء، قد دعا فقال الله: إني لا أسمع دعاءك ولا أقبل صلاتك .
فأما سيدنا يسوع المسيح، الذي هو الابن الحبيب، فقد شهد أبوه له قائلاً: هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ (متى 3:17). فإنه فعل الأشياء بالقوة القاهرة التي هي الكلمة الخالقة للسموات والأرض. فهل يقدر مخالف أن يبطل هذا القول إلا بالحسد والمعاندة للحق والافتراء على الله الآب وكلمته وروح القدس، مثل من يقول إن الشمس مظلمة والنار غير محرقة!
[أتباع المسيح]
وإذ قد نقلنا بعض شرائع المسيح سيدنا وأخبرنا ببعض عجائبه، لنذكر الآن كيف اتّخذ تلاميذه وبعث بهم إلى أهل العالم دُعاةً إلى الحق، فنقول إنه اتخذ قوماً أميين لا علم لهم ولا حسب، صيّادي سمك وعشّاري خراج، ففتح قلوبهم وملأها نوراً وحكمة، فقهروا بذلك كل فيلسوف حكيم، وفاقوا كل طبيب ماهر، وتذلل لهم كل سلطان شديد، ودخل في طاعتهم كل شريف، وافتقر إليهم كل غني. وقال لهم: اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصاً. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّاناً أَخَذْتُمْ مَجَّاناً أَعْطُوا. لَا تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلَا فِضَّةً وَلَا نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ، وَلَا مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلَا ثَوْبَيْنِ وَلَا أَحْذِيَةً وَلَا عَصاً، لِأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ (متى 10:7-10).
فساروا بسيرته وبشَّروا الناس بالرحمة والمغفرة، ودعوهم إلى الحق، مجتهدين غير مفترين ولا مستأثرين لشيء من الدنيا. وعدة هؤلاء سبعون رجلاً وجَّههم قبل ارتفاعه إلى السماء. واختار اثني عشر رجلاً كانوا ملازمين له، وهم تلاميذه المشاهدون لكل أموره وأحواله، والناقلون أخباره بالحق والصدق إلى الأمم. وكانت مخاطبته إياهم وعهده إليهم قائلاً: إن الذي يعمل ويعلّم هذا يُدعى اسمه كبيراً في السموات وعظيماً. وإذا أنتم طلبتم فاطلبوا المغفرة لخطاياكم والرحمة وملكوت السماء والعمل بالبر. ولا تكثروا الكلام وتشغلوا قلوبكم بطلب الرزق الذي قد كُفيتموه، فإن أباكم الذي في السماء أعلم بحوائجكم وما يصلح لكم. ولكن إذا صلى أحدكم فليقُلْ: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذ لِكَ عَلَى الْأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. واغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، ل كِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، والْقُّوَةَ، والْمَجْدَ، إِلَى الْأَبَدِ. آمِينَ. فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، لَا يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلَّاتِكُمْ (متى 6:9-15).
وقال لهم: هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَا لْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَا لْحَمَامِ. وَل كِنِ احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلَاةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلْأُمَمِ. فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلَا تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لِأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، لِأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ. وَسَيُسْلِمُ الْأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، والْأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الْأَوْلَادُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ، وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَل كِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَه ذَا يَخْلُصُ. وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي ه ذِهِ الْمَدِينَةِ فَا هْرُبُوا إِلَى الْأُخْرَى. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَا تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الْإِنْسَانِ.
لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُعَلِّمِ، وَلَا الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ. يَكْفِي التِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ، والْعَبْدَ كَسَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَّبُوا رَبَّ الْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَهْلَ بَيْتِهِ! فَلَا تَخَافُوهُمْ. لِأَنْ لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلَا خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ. اَلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّورِ، والَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الْأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ، وَلَا تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَل كِنَّ النَّفْسَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ والْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ. أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا يَسْقُطُ عَلَى الْأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ. فَلَا تَخَافُوا. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ. فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، وَل كِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ (متى 10:16-33). وقال لهم: أَنْتُمْ مِلْحُ الْأَرْضِ، وَل كِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لَا يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلَّا لِأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لَا يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ، وَلَا يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ ه كَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَات (متى 5:13-16).
وقال لهم: اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، لِأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ! اِحْتَرِزُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلَانِ، وَل كِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَباً، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟ ه كَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً، لَا تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً وَلَا شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً. كُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.
لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذ لِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِا سْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِا سْمِكَ صَنَعْنَا قُّوَاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الْإِثْمِ! (متى 7:13-23).
ثم أنه أراد أن يكمل التواضع إلى الغاية القصوى، لم يمتنع من أيدي الكفرة حتى نالوا منه ما نالوه من صلبه على خشبة، وهو مع ذلك يقول: يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لوقا 23:34). ثم مات بجسده، وبقي على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة، ثم أُنزل ودُفن، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد، ثم قام حياً بلاهوته وظهر للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات، وظهر بعد ذلك لتلاميذه، مرة في الجليل ومرتين في الغرفة التي كانوا نازلين فيها، ومرة في الطريق وبعضهم ماضٍ إلى القرية التي تُدعى عمواس، ومرة على شاطئ البحر وهم يتصيّدون السمك، وأكل معهم عدة مرار. كل ذلك في خلال أربعين يوماً. وكان يجدد عليهم الوصية ويذكرهم بالعهود التي عهدها إليهم، ويخبرهم أنه سيوجه لهم البارقليط الذي هو الروح القدس لتأييدهم. فلم يزالوا كذلك إلى أن صعد إلى السماء صعوداً ظاهراً مكشوفاً بحضرة من كان حاضراً في ذلك الوقت، وهم ينظرون إلى أبواب السماء مفتوحة، وقد نزلت الملائكة ورفعته بالتمجيد والتهليل والتسبيح، وهي تخاطب وتقول: أيها الناس ما بالكم تنظرون متعجبين حائرين؟ هذا يسوع المسيح ابن الله الوحيد قد صعد إلى السماء ممجداً، وهو مزمع أن يأتي ثانية في آخر الأيام، فيُرَى نازلاً في ذلك الوقت كما ترونه الساعة صاعداً، ليبعث من في القبور ويدين الخلائق . ثم غاب عنهم وغابت الملائكة معه. وذلك الجبل الذي صعد منه هو جبل الزيتون من بلاد الشام معروف مشهور بهذه الصفة إلى هذا الوقت.
فلنذكر بعد هذا شهادة صاحبك: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ واللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ والذِّكْرِ الْحَكِيمِ (سورة آل عمران 3:55-58) فأمْعِن النظر وانصح لنفسك في الاستقصاء، ولا تَمِلْ إلى غير الحق، فإنك إن أنصفت، ظهر لك أبيض النور وتلألأ الحق.
ثم لما كان بعد صعوده إلى السماء بعشرة أيام كان التلاميذ مجتمعين في الغرفة التي كانوا ينزلون فيها معه إذ سمعوا صوتاً عظيماً، وتجلى عليهم الروح القدس الذي هو البارقليط، فصار على كل رجلٍ مثل لسان من النار، فجعل يتكلم بلسان البلد الذي وُجِّه ليبشر فيه بالمسيح مخلص العالم ومنقذه، ويدعو أهل ذلك البلد إلى النصرانية، ويريهم الآيات المعجزة. فعند ذلك تفرق كل تلميذ إلى البلد التي نُدب إليها وأُعطي معرفة لسانها وكلام أهلها، وكتبوا الإنجيل الطاهر وجميع أخبار المسيح وأقاصيصه بكل لسان عن إملاء الروح القدس، فدانت لهم الأمم واستجابوا لقولهم. ورفضوا هذه الدنيا ومالوا إلى الأمر الواضح، وتركوا أديانهم ودخلوا في النصرانية عندما أشرق لهم نور الحق وتلألأ نور البشارة، فأيقنوا وآمنوا مصدِّقين غير مرتابين حيث ميّزوا الحق من الباطل والكفر من الإيمان والهدى من الضلالة، ورأوا الأعاجيبوالآيات الباهرة والسيرة الحسنة المشابهة لسيرة المسيح التي آثارها قائمة ثابتة حتى اليوم والساعة. فنحن الذين قبلناه منهم لم نزد فيه ولم نُنقص منه، وعليه نحيا وعليه نموت ونُبعث حتى نقوم به بين يدي المسيح سيدنا يوم نقف بين يديه عندما يدين الخلق جميعهم.
وليس هذا كسيرة صاحبك وسيرة أصحابه الذين لم يزالوا يتقدمون في القتل والنهب والخبط بالسيوف وسبي الذراري والتغلّب على البلدان ونهب الناس أموالهم وهتك حريمهم واستعباد الأحرار، حتى قال عمر بن الخطاب: ألا من كان جاره نبطياً واحتاج إلى ثمنه، فليبعه . ومثل هذا كثير مما يشابهه من القول والفعل. وهذا خلاف ما كان يفعله سمعان وبولس من إبراء المرضى بطلبهما وإقامة الموتى باسم المسيح سيدنا.
[رهبان اليوم]
وإن قلت: ما بال الرهبان لا يفعلون اليوم من الآيات والعجائب مثلما كان التلاميذ يفعلون حيث توجهوا إلى البلدان؟ قلنا: إنهم لما مضوا للبلدان للدعوة واجتذاب الناس إلى الإقرار بربوبية المسيح، احتاجوا عند ذلك إلى كثرة الآيات وتواتر العجائب لتصحّ دعوتهم، وليعلم الذين يدعونهم صحّة دعواهم، فليس الرهبان اليوم دُعاةً، وإن كان كثير منهم يتكلّفون فعل ذلك لدى الخواص خفية، ليُعلم أن تلك النعمة ثابتة فيهم باقية. فإذا جرى لهم أمر احتاجوا إلى إظهار قوتهم للعامة أظهروها ليُعرف ذلك من أفعالهم في المشرق والمغرب وحيث حلّوا، ولو أن الرهبان تكلفوا إحياء كل ميت وشفاء كل مريض في كل وقت لم يمت أحد، ولم يكن للقيامة رجاء ولا للدنيا زوال، وكان في ذلك تكذيب لوعد الله ووعيده في الآخرة. وإنما يفعل الرهبان ما يفعلونه ويجري على أيديهم الواحد بعد الواحد ليزدادوا ثقة لما هم فيه من ذلك التعب والنصب، وليعلموا كيف مرتبتهم عند الله في طاعتهم ليلهم ونهارهم. ولا يحتاج الناس اليوم إلى معاينة الآيات في تحقيق هذا الدين، إلا من رفع نفسه عن استعمال العقل وشارك البهائم في جهلها وقلة إدراكها.
لقد شرحت لك قصة المسيح سيدنا على غاية الاختصار، وبعض أخبار التلاميذ الذين نقلنا عنهم ديانتنا، فاجمع الآن ما تريد جمعه منها إلى ما في يدك، واستعمل الإنصاف واصدق نفسك ولا تغشّها، لترث ملكوت السماء ممّن سلطانه على بدنك ونفسك، الذي يقدر أن يرحمك ويقبلك كما يقبل الآب الولد الشارد، فإنك تكون من الموفَّقين. فلا تغتر بهذه الدنيا وتتعلق بأسبابها وتنغمس في شهواتها، فإنها غدارة مهلكة لمن مال إليها، وانظر لنفسك قبل فوات النظر، وردد فكرك في ما قد كتبتُه إليك في كتابي هذا، وقس بعضها ببعض، واستعمل في ذلك قانون العدل وميزان الحق، فليس هذا الأمر من الأمور التي يجوز أن يُغفل عنها، لأنه هو الأمر المحصول عليه في الوقتين معاً: في هذه العاجلة وفي الآجِلة، وقت لا يُقبل منك فيه العذر ولا ينفع الاحتجاج. أما أنا فقد بلغتُ جهد طاقتي في النصيحة لك ولكل من نظر في كتابي، وما أبقيت عند نفسي في ذلك غاية. واسأل الله أن يوفقك وإيانا على العمل الصالح بطاعته، ويعصمنا من معاصيه، ويشركنا في ملكوته مع أوليائه الذين رضي عنهم بجوده وكرمه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. آمين
[ النهاية ]