عضيد جواد الخميسي
في القرن التاسع الميلادي، في زمن الخليفة عبد الله المأمون، كتب مُسلِم تقي هو عبد الله بن إسماعيل الهاشمي رسالة لصديق له مسيحي، هو عبد المسيح بن اسحق الكِنْدي، يَدعوه فيها إلى الإسلام. وكان عبد الله معروفاً بالتقوى وشدَّة القيام بفروض الإسلام، كما كان عبد المسيح مشهوراً بتقواه وتمسكه بالمسيحية، كما كان في خدمة الخليفة مقرَّبا إليه
وقد ذكر الرسالتين أبو ريحان محمد بن أحمد البيروني في كتابه “الآثار الباقية عن القرون الخالية” .
وقد قيل أن أمر الرسالتين بلغ الخليفة المأمون، فأمر بإحضارهما وقُرئتا عليه. فلم يزل ناصتاً حتى جاء إلى آخرهما فقال: “ما كان دعاه إلى أن يتعرَّض لما ليس من عمله حتى أجاز كتاف نفسه. فأما النصراني فلا حجة لنا عليه، لأن الأمر لو لم يكن عنده هكذا لما أقام على دينه. والدين دينان: أحدهما دين الدنيا، والآخر دين الآخرة. أما دين الدنيا فالدين المجوسي وما جاء به زرادشت. وأما دين الآخرة فهو دين النصارى وما جاء به المسيح. وأما الدين الصحيح فهو التوحيد الذي جاء به النبي محمد، فإنه الدين الجامع الدنيا والآخرة” …
(رسـالة عبد اللَّـه بن إسماعيل الهاشميّ إلى عبد المسيح بن اسحق الكنديّ يدعوه بها إلى الإسلام)
رسالة الهاشمي الى الكندي
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فقد افتتحتُ كتابي إليك بالسلام عليك والرحمة، تشبُّهاً بسيدي وسيد الأنبياء محمد رسول الله (ص) فإنَّ ثُقاتنا ذوي العدالة عندنا، الصادقين الناطقين بالحق، الناقلين إلينا أخبار نبينا عليه السلام، قد رووا لنا عنه أنَّ هذه كانت عادته، وأنَّه كان (ص) إذا افتتح كلامه مع الناس يبادئهم بالسلام والرحمة في مخاطبته إياهم، ولا يفرّق بين الذمّي منهم والأمّي، ولا بين المُؤمن والمُشرك. وكان يقول إني بُعثت بحُسن الخلق إلى الناس كافةً، ولم أُبعث بالغِلظة والفظاظة. ويستشهد الله على ذلك إذ يقول “بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم”. وكذلك رأيتُ من حضَرْتُه من أَئِمَّتنا الخلفاء المهتدين الراشدين، رضي الله عنهم أجمعين، انهم كانوا، لفضل أدبهم، وشرف حسبهم، ونبل همتهم، وكرم أخلاقهم يتتبعون أثر نبيِّهم ولا يفرِّقون في ذلك ولا يفضّلون فيه أحداً. فسلكتُ ذلك المنهج، واحتذيت تلك السبل، وأخذت ذلك الأدب المحمود. فابتدأت في كتابي هذا بالسلام والرحمة، لئلا ينكر عليَّ منكر يقع إليه كتابي هذا. والذي حملني إليك وحثَّني على ذلك محبتي لك، إذ كان سيدي ونبيي محمد (ص) يقول: “محبة القريب ديانةً وإيمان”. فكتبتُ طـاعةً له، ولما أوجبه لك عندنا حقَّ خدمتك لنا ونُصحك إيانا، وما أنت عليه من محبتنا وتظهره من مودتنا والميل إلينا، وما أرى أيضاً من إكرام سيدي وابن عمي أمير المؤمنين، أيده الله، لك وتقريبه إياك وثقته بك وحسن قوله فيك، فرأيت أن أرضى لك ما قد رضيته لنفسي وأهلي ووالديَّ، مخلصاً لك النصيحة ومبذلها، كاشفاً عمَّا نحن عليه من ديانتنا هذه التي ارتضاها الله لنا ولجميع خلقه، ووعدنا عليها حسن الثواب في المعـاد والأمن من العقاب في المآب ، فرغبت لك ما رغبت فيه لنفسي، وأشفقتُ عليك لما ظهر لي من كثرة أدبك وبارع علمك وتقدّمك على الكثير من أهل ملّتك أن تكون مقيماً على ما أنت عليه من ديانتك هذه. فقلت: اكشف له عمّا مَنَّ الله به علينا، وأُعرِّفه ما نحن عليه، بأََلْيَن القول وأَحْسَنه، متَّبِعاً في ذلك ما أذن الله به إذ يأمرني ويقول، جلَّ ثناؤه: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن” (عنكبوت 5). فلست أجادلك إلاّ بالجميل من الكلام والحسن من القول، والليّن من اللفظ، لعلك تنتبه وترجع إلى الحق وترغب في ما أتلوه عليك من كلام الله جلّ جلاله الذي أنزله على خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم نبينا محمد (ص). ولم أيئس من ذلك، بل رجوتُه لك من الله الذي يهدي من يشاء، وسألتُه أن يجعلني سبباً في ذلك، ووجدت الله يقول في محكم كتابه “إنّ الدين عند الله الإِسلام” (آل عمران 47). ويقول الله أيضاً مؤكداً بقوله الأول: “ومن يبتغِ غيرَ الإسلامِ ديناً فلن يُقْبلَ منه، وهو في الآخرةِ من الخاسرين” (آل عمران 79). ثم أكد ذلك، تبارك وتعالى، أمراً قاطعاً إذ يقول : “يا أيها الذين آمنوا اتَّقوا الله حقّ تُقاته ولا تموتنَّ إلاّ وأنتم مسلمون” (آل عمران 97).
وأنت الرجل، عافاك الله، من جُهل الكفر وفُتح قلبك لنور الإيمان، تعلم أني رجل أتت عليَّ سنون كثيرة وقد تبحَّرْتُ في عامّة الأديان وامتحنتها، وقرأت كثيراً من كتب أهلها وخاصة كتبكم معشر النصارى، فإني عنيت بقراءة الكتب العتيقة والحديثة، التي أنزلها الله على موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام. فأمّا الكتب العتيقة التي هي التوراة، وكتاب يشوع بن نون، وسفر القضاة، وسفر صموئيل النبي، وسفر الملوك، وزبور داود النبي، وحكمة سليمان بن داود، وكتاب أيوب الصدّيق، وكتاب إشعياء النبي، وكتاب الإثني عشر نبياً، وكتـاب إرميا النبي، وكتاب حزقيال النبي، وكتاب دانيال النبي فهذه هي الكتب العتيقة
فأمّا الكتب الحديثة فأولها الإنجيل وهو أربعة أجزاء، الأول منها بشارة متَّى العشَّار، والثاني بشارة مرقس ابن أخت سمعان المعروف بالصفا، والثالث بشارة لوقا الطبيب، والرابع بشارة يوحنا بن زبدي. فهذه أربعة أجزاء، منها بشارة رجلين من الحواريين (التلاميذ) الإثني عشر الذين كانوا ملازمين المسيح، صلوات الله عليه، هما متى ويوحنا، وبشارة رجلين من الحواريين السبعين الذين كانوا للمسيح، وبعثهم إلى الأمم دُعاةً له وهما مرقس ولوقا. ثم كتاب قصص الحواريين وأحاديثهم وأخبارهم من بعد ارتفاع المسيح إلى السماء الذي كتبه لوقا، ورسائل بولس الأربع عشرة. فهذه كلها قد قرأتُها ودرستُها وناظرتُ فيها تيموثاوس الجاثليق، الذي له فيكم فضل الرئاسة والعلم والعقل. وناظرتُ فيها من أهل فِرَقكم هذه الثلاث التي هي ظاهرة، أعني الملكية القابلين مركيانوس الملك على عهد الشقاق الواقع بين نسطوريوس وكيرلس، وهم الروم. واليعقوبية، وهم أكفر القوم وأخبثهم قولاً، وأشرَّهم إعتقاداً، وأبعدهم من الحق، القائلون بمقالة كيرلس الإسكندري ويعقوب البردعاني وساويرس صاحب كرسي أنطاكية. والنسطورية أصحابك، وهم لعمري، أقرب وأشبه بأقاويل المنصفين من أهل الكلام والنظر وأكثرهم ميلاً إلى قولنا معشر المسلمين، وهم الذين حمدَ نبينا (صلى اللـه عليه وسلّم) أمرهم ومدحهم وأعطاهم العهود والمواثيق، وجعل لهم من الذمَّة في عنقه وأعناق أصحابه ما جعل وكتب لهم في ذلك الكتب وسجل لهم السجلات، وأكَّد أمرهم عندما صاروا إليه حين أُفضي الأمر إليه واستوثق له، فأتوه بحرمته وذكَّروه بمعونتهم إياه على إعلان أمره وإظهار دعوته. وذلك أنّ الرهبان كانوا يبشرونه ويخبرونه قبل نزول الوحي عليه بما مكن اللـه له وصار إليه. فلذلك كان يكثرُ توادّه لهم وإطالة محادثتهم، ويُرى كثيراً عندهم مخاطباً لهم في تردّده إلى الشام وغيرها. وكان الرهبان وأصحاب الأديرة يكرّمونه ويجلّونه طوعاً ويخبرون أصحابهم بما يريد اللـه أن يرفع من أمره ويعلن من ذكره، وكانت النصارى تميل إليه وتخبره بمكيدة اليهود ومشركي قريش وما يبتغونه له من الشرّ، مع مودتهم له وإجلالهم إياه وأصحابه. فعند ذلك نزل الوحي على نبينا عليه السلام، وشهد الله لهم في القرآن قائلاً: “ولتجدنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا (يعني مشركي قريش). ولتجدنَّ أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنَّا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون” (مائدة 85). وعرف النبي عليه السلام، بما أُنزل عليه من الوحي، صحة ضمائرهم ونيّاتهم، وأنهم أصحاب المسيح حقاً السائرون بسيرته الآخذون بسننه، إذ كانوا لا يقبلون القتال ولا يستحلون المال ولا يغشّون أحداً ولا يريدون بالناس سوءاً ولا مكروهاً، وأنهم طالبو السلامة ولا يصرّون على حسدٍ ولا على عداوة، بل يعتقدون الفضل على الناس جميعاً. فأعطاهم نبينا لذلك ما أعطاهم من العهود والمواثيق، وجعل لهم من الذمّة في رقبته ورقاب أصحابه، ووصَّى بهم تلك الوصية عندما أطلعه اللـه على ما أطلعه عليه من أمرهم وبراءة ساحتهم. فنحن مقرُّون بذلك غير جاحدين ولا منكرين، وناظرون لهذا الفعل، وآخذون بهذه السُنّة، وقابلون لهذه الوصيّة، وموجبون هذا الحق على أنفسنا .
ولقيتُ جماعةً من الرهبان المعروفين بشدة الزُهد وكثرة العلم، ودخلتُ عمارات وديارات وبيعاً كثيرة، وحضرتُ صلواتهم تلك الطوال السبع التي يسمّونها صلوات الأوقات، وهي صلاة الليل، وصلاة الغداة، وصلاة الثالثة التي هي صلوة السَحَر، وصلوة نصف النهار أعني صلوة الظهر، وصلوة التاسعة التي هي قريبة من وقت العصر، وصلوة الغروب والعشاء، وصلاة الشفع وهي صلوة العشاء المفروضة، وصلاة النوم التي يصلّونها قبل أخذهم مضاجعهم. ورأيت ذلك الاجتهاد العجيب، والركوع والسجود بإلصاق الخدود بالأرض وضرب الجبهة، والتكتُّف إلى انقضاء صلواتهم، خاصَّةً في ليالي الآحاد وليالي الجمع وليالي الأعياد التي يسهرون فيها منتصبي الأرجل بالتسبيح والتقديس والتهليل الليل كلَّه، ويكثرون في صلواتهم ذكر الآب والابن والروح القدس، وأيام الاعتكاف التي يسمونها “أيام البواعيث” (صلوات الاستمطار)، وقيامهم فيها حفاةً على المسوح والرماد باكين بكاءً كثيراً متواتراً بإنهمال دموع من الأعين والجفون منتحبين بسحقٍ عجيب. ورأيت عملهم القربان، كيف يحفظونه بالنظافة في خَبزهم إياه ودعائهم عند عمله الدعاء الطويل مع التضرع الشديد عند إصعاده على المذبح في البيت المعروف ببيت المقدس مع تلك الكؤوس المملوءة خمراً. ورأيت أيضاً ما يتدبر به الرهبان في قلاليهم أيام صياماتهم الستَّة، أعني الأربعة الكبار والاثنين الصغيرين، وغير ذلك. فهذا كلَّه كنتُ له حاضراً ولأهله مشاهداً وبه عارفاً عالماً.
ورأيت أيضاً مطارنة وأساقفة مذكورين بحُسن المعرفة وكثرة العلم، مشهورين بشدة الإغراق في الديانة النصرانية، مظهرين غاية الزهد في الدنيا. فناظرتُهم مناظرةً نصفة طالباً للحق، مُسقِطاً بيني وبينهم اللجاج والمكابرة بالسلطة والصلف والبذخ بالحسب، وأوْسعتُهم أمناً أن يقوموا بحجَّتهم ويتكلموا بجميع ما يريدونه، غير مؤاخذٍ لهم بذلك ولا متعنّت عليهم في شـيء كمناظرة الرعاع والجهال والسقاط والعوام والسفهاء من أهل ديانتنا، الذين لا أصل لهم ينتهون إليه ولا عقل فيهم يعولون عليه، ولا دين ولا أخلاق تحجبهم عن سوء الأدب، وإنما كلامهم العنَت والمكابرة والمغالبة بسلطان الدولة بغير علم ولا حجة. وكانوا إذا أنا ناظرتُهم وسألتُهم مسألة بحث فاحصاً عن قولهم، وكانوا لشدَّة ورعهم ودعتهم واعتقادهم يصدقونني عن أمرهم ولا يكذبونني في شيء مما كنت أسائلهم عنه وأجادلهم فيه. وكنت قد عرفت من بواطنهم مثل الذي قد عرفته من ظاهرهم، فكتبت إليك، أصلحك الله، بهذا الشرح بعد الاستقصاء والبحث الشديد، والإمتحان له على طول الأيام، لئلا يظن بي أني أتجنى الأمور، وليعلم من وقع في يده كتابي هذا أني عارف بجميع أحوال النصارى حق المعرفة .
فأنا الآن أدعوك بهذه المعرفة كلها مِنّي بدينك الذي أنت عليه، وبطول المحبة، إلى هذا الدين الذي ارتضاه اللـه لي وارتضيته لنفسي، ضامناً لك به الجنَّة ضماناً صحيحاً والأمن من النار، وهو أن تعبد الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يتخذ صاحبةً ولا ولداً ولم يكن له كفؤاً أحد، وهي الصفة التي وصف نفسه جل وعز بها، إذ ليس أحدٌ من خَلْقه أعلم به من نفسه. فدعوتك إلى عبادة هذا الإله الواحد الذي هذه صفته، ولم أزد في كتابي هذا على ما وصف به نفسه. فهذه ملّة أبيك وأبينا إبراهيم، صلوات الله عليه، فإنه كان حنيفاً مسلماً. ثم أدعوك، حفظك الله، إلى الشهادة والإقرار بنبوة سيدي وسيد ولد آدم وصفي رب العالمين وخاتم الأنبياء محمد بن عبد اللـه الهاشمي القريشي العربي الأبطحي التهامي، صاحب القضيب والناقة والحوض والشفاعة، حبيب رب العزة ومكلّم جبرائيل الروح الأمين الذي أرسله الله بشيراً ونذيراً إلى الناس كافة “بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” (توبة 33). فدعا الناس كلهم أجمعين بالرحمة والرأفة وطيب القول وحسن الخلق واللين، فاستجاب هذا الخلق كلهم إلى طاعة دعوته والشهادة له أنه رسول الله رب العالمين إلى من يريد انتصاحاً، وأقرَّ الأنام كلهم طائعين مذعنين لما عرفوا من الحقّ والصدق من قوله وصحة أمره وما جاء به من البرهان الصريح والدليل الواضح، وهو هذا الكتاب المنزل عليه من عند اللـه، الذي لا يقدر أحد من الإنس والجن أن يأتي بمثله، وكفى به دليلاً على دعوته، وأنه دعـا إلى عبادة إلهٍ واحد فرد صمد، فدخلوا في دينه وصاروا تحت يده غير مُكرَهين ولا مُجبَرين، بل خاضعين معترفين مستنيرين بنور هدايته متطاولين باسمه على غيرهم ممَّن جحدَ نبوته وأنكر رسالته، فمكّن اللـه لهم في البلاد وأذلّ لهم رقاب الأمم من العباد، إلاّ من قال بقولهم ودان بدينهم وشهد على شهادتهم، فحقن بذلك دمه وماله وحرمته أن يؤدي الجزية عن يدٍ وهو صاغر. وهذه الشهادة هي الشهادة التي شهد اللـه بها قبل أن يخلق الخلائق، إذ كان على العرش مكتوباً “لا إله إلا اللـه. محمد رسول اللـه” .
وأدعوك إلى الصلوات الخمس التي مَنْ صلاّها لم يخبْ ولم يخسرْ بل يربح ويكون في الدنيا والآخرة من الفائزين، وهي الفرض فيها فرضان: فرض من اللـه وفرض من رسوله مثل الوتر .
وأدعوك إلى صوم شهر رمضان الذي فرضه الديَّان ونزل فيه الفرقان، شهر يشهد فيه الله أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تصوم فيه نهارك كله عن جميع المطاعم والمشارب والمناكح إلى أن يسقط قرص الشمس ويدخل حدَّ الليل، ثم تأكل وتشرب وتنكح في ليلك كله حتى يتبين لك الخيط الأسود من الخيط الأبيض حلالاً مطلقاً هنيئاً طيباً من الله. فإن أنت لحقت ليلة القدر بإخلاص نيِّتك كنت قد فُزْت في دنياك وآخرتك.
ثم أدعوك إلى الحج إلى بيت الله الحرام الذي بمكة، والنظر إلى حرم رسول الله وإلى آثاره ومواضعه المباركة، ورمي الحجار، والتلبية والإحرام، وتقبيل الركن والمقام، ومشاهدة تلك المواضع وتلك المشاعر العجيبة .
ثم أدعوك إلى الجهاد في سبيل الله بغزو المنافقين، وقتال الكفرة والمشركين ضرباً بالسيف وسبياً وسلباً حتى يدخلوا في دين اللـه ويشهدوا أنَّ اللـه لا إله إلاّ هو، وأن محمداً عبده ورسوله، أو يؤدّوا الجزيَّة عن يدٍ وهم صاغرون.
وأدعوك إلى الإقرار بأن الله يبعث من القبور، وأنّه ديّانهم بالعدل، فيكافي الحسنى بالحسنى، ويجزي المسيء بإساءته، وأنه يُدخل أولياءه وأهل طاعته، الذين أقرّوا بوحدانيته وشهدوا بأن محمداً عبده ورسوله وآمنوا بما نزل عليه من القرآن، الجنة التي أعدَّ لهم فيها الطيبات “يُحَلَّون فيها من أساورَ من ذهبٍ ولؤلؤاً، ولباسُهم فيها حرير” (الحج 23).
أبقاك الله، صفة الجنة التي أعدَّها الله للمؤمنين به وبرسـوله، وأعد لهم فيها الطيّبات من الطعام والشراب وأنواع الفواكه والرياحين، ونكاح الحور العِين اللاءِ هنَّ كأمثال اللؤلؤ المكنون بلا نهاية ولا انقطاع. يأخذون كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ولهم فيها الكرامة والحياة والجلوس على الأسِرَّة، متكئين على الأرائك، عليهم ثياب الحرير الليِّن مسـتورين بالأسرة المكلَّلة باللؤلؤ، تُعرف في وجوههم نضرةُ النعيم. يدور عليهم الوِلدان والوصائف والوُصَفاءُ الذين هم في جنسهم كاللؤلؤ المكنون، يسقون من كأسات فيها الرحيق المختوم الذي ختامه مسك ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب منها المقرَّبون، يُحيَّون بها بأحسن التحية وأطيبها، ويقولون لهم: كلوا واشربوا وتنعَّموا، هنيئاً لكم بما كنتم تعملون، لا يسمعون فيها لغواً ولا يمسهم جوع ولا لغوب، فهم في هذا النعيم آمنون واثقون خالدون أبداً. وأما الكفار الذين أشركوا باللـه واتخذوا معه الأنداد ولم يؤمنوا برُسُله وكَذَّبُوا بآياته وحَرَّمُوا حدوده وحاربوه، فهم أهل النار يلقونها كفاحاً في جهنم لا بثين في نار لا تُطفأ وزمهرير لا يوصف وهم فيها خالدون، كلما احترقت جلودهم جُددت لهم جلود أخرى، مقامُهم في الجحيم وشرابهم المُهْلُ، وطعامهم من شجرة الزقزم، رفقاءُ لإِبليس وجنود له وبئس المصير .
فهذه، أنار الله قلبك، هيئة ديننا القِيّم وهذه شرائعه وسُننُه، فإذا أنت دخلتَ فيه وأقررتَ به وشهدتَ على شهادته وأحببتَ الدخول في ما دعوناك إليه من شرائعنا النيرة وسُنَنِنا الحسنة، كنتَ مثلنا وكنا مثلك، فحسْبك بنا شرفاً في الدنيا والآخِرة، وان نبينا عليه السلام يقول يوم القيامة: كل أحد مشغول بنفسه من مَلَك مقرَّب ونبي مرسل سواه، وهو يقول: أهل بيتي أمتي ، فيُجاب أولاً في أهل بيته ثم في أمته. ويقول الرحمن للملائكة : إني استحيي أن أردّ شفاعة صفيي وحبيبي محمد. ثم تكون ممن يجب لك ما يجب، وتصلي إلى قبلتنا التي ارتضاها الله لنا، وتقيم الصلوات الخمس بعد إسباغ الوضوءِ إذا كنتَ صحيحاً وقائماً على رجليك. وإذا كنتَ مريضاً أو ضعيفاً فجالس. فإن كنت على سفرٍ فنصف ما تصليه وأنت بالحضر .
تنكح من النساءِ ما أحببت، لا جناح عليك في ذلك ولا لوم ولا إثم ولا عيب، إذا أنت تزوَّجتها بوَليٍّ وشاهدين وآتيتها من المهر ما طابت به نفسك ونفسها مما تيسَّر. ولك أن تجمع بين أربع نساءٍ، وتطلِّق مَنْ شئت إذا كرهتَها أو مللتَها أو شبعتَ منها. ولك أن تراجع بعد الاستحلال من أحببتَ منهن أيتهن تبعتها نفسُك. قال الله تعالى عز وجل: “فإن طلَّقها فلا تحلُّ له من بعد حتى تنكحَ زوجاً غيره، فإن طلَّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا” (البقرة 230). وتتمتع من الإِماء بما ملكت يداك. وتختتن لتقيم سُنَّة إبراهيم أبينا خليل الرحمن وسُنَّة إسماعيل أبينا وأبيك صلوات الله عليهما، وتغتسل من الجنابة .
والحجّ واجبٌ عليك لأنه جلَّ جلاله يقول: “ولله على الناس حجَّ البيت من استطاع إليه سبيلاً” (آل عمران 91). وذلك إذا لم يكن عليك دَيْن وكانت لك راحلة وكان عندك ثمن الزاد .
والغزو في سبيل الله، فمعهُ الغنيمة في الدنيا عاجلاً، والأجر العظيم في الآخرةِ آجلاً. فقد سهل الله، وله الحمد، على المؤمنين، وإن شاء الله ليحب أن يؤخذ بعزائمه وتشديداته. ولو لم يكن في دين الإسلام شيء إلاّ الطمأنينة والأمن وتسليم القلب لله والراحة والثقة بما ضمن الله لنا عن نفسه أنه هو يثيبنا على ذلك في الآخرة الأجر العظيم ويدخلنا جنات النعيم فنكون فيها خالدين، وينصرنا فيها على القوم الظالمين، لكان في دون هذا لنا الفوز العظيم .
فقد تلوتُ عليك من قول الله فيما سلف من كتابي هذا ما في أقله كفاية، فَدَعْ ما أنت عليه من الكفر والضلال والشقاوة والبـلاء، وقولك بذلك التخليط الذي تعرفه ولا تنكره، وهو قولكم بالآب والابن والروح القدس، وعبادة الصليب التي تضرُّ ولا تنفع، فإني أرتابك عنه وأجلُّ فيه علمك وشرف حسبك عن خساسته، فإني وجدتُ الله تبارك وتعالى يقول: “إن الله لا يغفر أن يُشْرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء” (نساء 51).
فدع ما أنت فيه من تلك الضلالة وتلك الحمية الشديدة الطويلة المتعبة، وجهد ذلك الصوم الصعب والشقاء الدائم، والبلاء الطويل، الذي أنت منغمس فيه، الذي لا ينفع ولا يجدي عليك نفعاً إلاَّ إتعابك بدنك وتعذيبك نفسك، وأقْبِل داخلاً في هذا الدين القيِّم السهل المنهج الصحيح الاعتقاد الحسن الشرائع الواسع السبيل، الذي ارتضاه الله لأوليائه من عباده، ودعا جميع خلقه إليه من بين الأديان كلها تفضُّلاً منه عليهم به، وإحساناً إليهم بهدايته إياهم، ليُتمَّ بذلك نعماه عندهم. فقد نصحت لك يا هذا وأدَّيْتُ إليك حق المودَّة وخالص المحبة، إذ أحببتُ أن أخلطك بنفسي، وأن أكون أنا وأنت على رأي واحد وديانة واحدة. فإني وجدّت ربي يقول: “إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها، أولئك هم شرُّ البَرية. إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خَير البَرية، جزاؤهم عند ربهم جنَّاتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم ورضُوا عنه، ذلك لِمَنْ خشي ربَّهُ” (بينة 6– 7). وقال الله، في محكم كتابه، في موضع آخر: “كنتم خير أُمَّةٍ أُخرجَتْ للناس تأمرون بالمعروف” (آل عمران 103) .
وأشفقتُ عليك أن تكون من أهل النار الذين هم شر البرية، ورجوتُ أن تكون بتوفيق اللـه إياك من المؤمنين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وهم خير البرية، ورجوتُ أن تكون من هذه الأمة التي هي خير أمة أُخْرِجَتْ للناس. فإن أبيتَ إلاَّ جهلاً وتمادياً في كفرك وطغيانك الذي أنتَ فيه، وردَدْتَّ علينا قولنا ولم تقبل ما بذلناه لك من نصيحتنا، حيث لم نُردْ منك على ذلك جزاءً ولا شكراً، فاكتب بما عندك من أمر دينك، والذي صحَّ في يدك منه وما قامت به الحجة عندك، آمناً مطمئِناً غير مُقَصِّر في حجتك ولا مُكاتم لما تعتقده. ولا فَرِق ولا وجِل، فليس عندي إلاَّ الاستماع للحُجَّة منك، والصبر والإِذعان والإِقرار بما يلزمني منه طائعاً غير منكر ولا جاحد ولا هائب، حتى نقيس ما تأتينا به وتتلوه علينا ونجمعه إلى ما في أيدينا، ثم نخيّرك بعد ذلك على أن تشرح لنا عليه، وتدع الاعتلال علينا بقولك إن الفزع حجبك وقطعك عن بلوغ الحجَّة، واحتجتَ أن تقبض لسانك ولا تبسطه لنا ببيان الحجة، فقد أطلقناك وحجتك لئلا تنسبنا إلى الكبرياء وتدَّعي علينا الجور والحيف، فإنَّ ذلك غير شبيهٍ بنا، فاحتجَّ عافاك الله بما شئت، وقل كيف شئت، وتكلم بما أحببت وانبسط في كل ما تظن أنه يُؤدّيك إلى وثيق حجَّتك، فإنَّك في أوسع الأمان، ولنا عليك إذ قد أطلقناك هذا الإطلاق وبسطنا لسانك هذا البَسْط، أن تجعل بيننا وبينك حكماً عادلاً لا يجور في حكمه وقضائه، ولا يميل إلى غير الحقّ إذا ما تجنَّب دولة الهواءِ، وهو العقل الذي يأخذ به اللَّـه عزَّ وجلَّ ويعطي. فإننا قد أنصفناك في القول، وأوسعناك في الأمان، ونحن راضون بما حكم به العقل لنا وعلينا، إذ كان لا إكراه في الدين. وما دعوناك إلاَّ طوعاً وترغيباً في ما عندنا، وعرَّفناكَ شناعةَ ما أنت عليه. والسلام عليك ورحمة اللـه وبركاته …
والرد على هذه الرسالة من عبد المسيح الكندي الى عبد الله الهاشمي في الموضوع القادم …. ـــ يتبع ـــ