وقعت فى يدى الجريدة منذ أيام قليلة رأيت صورتهما بالصفحة الأولى شعر الفتاة أسود غزير كما كان شعرى قبل أن يسقط ، ملامحها تذكرنى بأمى قبل أن تموت تشبه ملامحى حين كنت أبتسم ، نسيت عضلات وجهى الابتسام لم أنظر فى مرآة منذ ستة أعوام أخذوها المرآة والقلم الرصاص أيضا أخذوه منى قالوا إنه من الأدوات الحادة وإحدى المسجونات قتلت نفسها بقلم رصاص.
فى الصورة رأيته جالسا كالأسد فى عرينه الخصلة الصفراء تنتصب فوق رأسه كعرف الديك يلمع وجهه تحت الأضواء تهتز عضلاته فى ذبذبات قوية مع حركة جسمه العنيفة، وأعنف ما فيها أنها تبدو تلقائية شبه طفولية ليست مفترسة أو متوحشة رأيت الظبى الوحشى لأول مرة فى كتاب المدرسة الإبتدائية كان يبدو أكثر وحشية من الأسد: «لا يهجم الأسد إلا عندما يجوع، بعض الناس يهجمون رغم امتلاء البطون» هذه العبارة وردت فى مقال أبى المنشور حينئذ، كنت فى التاسعة من عمرى هجم زوار الفجر على بيتنا فى اليوم التالى أخذوا أبى بملابس النوم كانت تهمته «المساس بالذات العليا» ولم أره بعد ذلك اليوم..
أصبحت أمى تحذرنى من المساس بالذات العليا لم أعرف بالضبط ما هى الذات العليا لكنى ابتعدت تماما عن أمور السياسة تخرجت فى كلية العلوم بتفوق، وحصلت على وظيفة ممتازة فى شركة كبيرة، ذات يوم من شهر مارس سمعت زميلاتى يتحدثن عن مسيرة نسائية فى عيد المرأة ، قالت أمى: اذهبى با ابنتى وأنا معك فالجميع يتحدثون عن تمكين المرأة يا ابنتى أمور النساء لا تدخل فى السياسة ولا تمس الذات العليا يا ابنتى «ارتدت أمى فستانا جديدا لونه أبيض ، وضعت شالا أخضر حول كتفيها سارت بين صفوف النساء بخطوة نشيطة ، عادت فتاة عذراء تضحك وتمرح لأول مرة أسمعها تضحك سرت الى جوارها يدى فى يدها نهتف مع الشابات: «صوت المرأة ثورة ، صوت المرأة ليس عورة»..
فجأة هجم علينا البوليس ورجال بالجلاليب والشوم أصابت أمى ضربة فسقطت فوق أسفلت الشارع تجمعنا حولها أنا وزميلاتى نلف الشال الأخضر حول رأسها لإيقاف النزيف ، لكن ضربة أخرى أصابتنى أفقدتنى الوعى ، حين أفقت وجدت نفسى فى السجن ومعى أمى ومجموعة من البنات كانت أمى تنزف ولا أحد يسعفها وأنا فى شبه غيبوبة..
ماتت أمى بعد إعادتها للبيت بأسابيع قليلة وأنا تعرضت للفحص الطبى بالسجن لم أعرف ماذا كانوا يفحصون بالضبط لم أملك الشجاعة لأنظر لجسدى بعد خلع ملابسى ، خاصة الى تلك المنطقة المحرمة المحاطة منذ طفولتى بالخوف والإثم ، وبقيت فى زنزانتى العام وراء العام ستة أعوام ثم توقف عقلى عن التفكير تماما وشعرت بالراحة..
رأيت الصورة بالجريدة منذ أيام قليلة كنت متربعة على الأرض أمام الصحن المعدنى الصدئ فيه بقايا شوربة عدس بلون إسهال الأطفال، ونصف رغيف مقدد يغطيه التراب غفوت وأنا جالسة سقط رأسى فوق صدرى كما يحدث للعجائز إذ يسقطون فى النوم وهم جالسون رأيت أمى داخل فستانها الجديد الأبيض لا تلوثه بقعة دم كانت تضحك وتمرح كالأطفال وتغنى مع البنات »صوت المرأة ثورة لا عورة » سألتها باندهاش ألم تموتى يا أمى منذ ستة أعوام كما قالوا ؟ ابتسمت أمى بسخرية: كدابين كلهم أنا عايشة يا بنتي، سألتها هل تم الإفراج عنك؟ قالت: »طبعا وصورتى منشورة فى الجورنال » لكن وجه أمى لم يظهر بالصورة ، ربما انقلب عليه الصحن وطمسته شوربة العدس، وجهه هو كان واضحا كأنما منحوت فى الحجر تذكرت أننى رأيته من قبل فى الصور والتماثيل منذ الإله رمسيس الأول الى الاسكندر الأكبر وبونابارت وأبو الهول الذى سقط أنفه برصاصة فى إحدى الغزوات لكن علوم الوقاية من الرصاص تقدمت، وتطورت فنون الحرب والنحت يمكن للفنان أن يصور الهر هتلر ليصبح له ملامح المسيح هكذا كان الوجه يتغير أمامى فى الصورة تتذبذب ملامحه فى دوامة من الإيحاءات تطيح بالوجه الحقيقى ليسقط فى غياهب الأغوار، وتبرز القوة الطاغية فوق السطح ومن تحت الجلد يتخفى الانشقاق بين فظاظة البطش وانكسارة الضعف.