الاوان: ترجمة: محمد الحاج سالم
بقلم: عبد النور بيدار
عبد النور بيدار: مفكر فرنسي مسلم، أستاذ فلسفة بجامعة صوفيا أنتيبوليس في نيس بفرنسا، له عدّة كتب أهمّها «نحو إسلام يليق بعصرنا» (2004). «إسلام ذاتي: حكاية إسلام شخصي» (2006) «إسلام بلا خضوع: نحو فلسفة وجودية إسلامية» (2008) «انحسار الدين في الغرب: راهنيّة محمّد إقبال» (2010). «كيف الخروج من التدين التقليدي؟» (2012). كما نشر عشرات المقالات في مجلّة
(Esprit)
ويوميّة “لوموند”
(Le Monde)،
وهو منتج ومعدّ برنامج “فرنسا الإسلام: أسئلة متقاطعة” على إحدى القنوات التلفزيّة الفرنسيّة.
وتأتي رسالته المفتوحة هذه التي نشرتها عدّة مواقع فرنسيّة يوم 15 أكتوبر 2014 ليتوجّه بيدار بنقد لاذع للعالم الإسلامي يصفه فيها بالرجل المريض الذي أنتج وحش “الدولة الإسلاميّة في العراق والشام” وسرق وجهه كي يتحدّث باسمه، وما كان له ذلك لولا تمزّق العالم الإسلامي بين الماضي والحاضر، وما يعانيه من ضلالات وتناقضات وعجز دائم ومفرط عن تبوّأ مكانته في الحضارة الإنسانيّة… إنّها رسالة تنضح ألماً لما آلت إليه الأمور في العالم الإسلامي اليوم، لكنّها نتضح أملاً أيضاً في أن يهبّ أبناؤه إلى “إصلاح الإسلام” بإعادة اكتشاف عبقريّته فيما وراء أشكاله التاريخيّة من أجل مساعدة الإنسانيّة على لإيجاد حياة روحيّة للقرن الحادي والعشرين..
العالم الإسلامي العزيز،
أنا أحد أبنائك البعيدين ينظر إليك من خارجك ومن بعيد، من فرنسا حيث يعيش اليوم الكثير من أبنائك. أنا أنظر إليك بعيون صارمة لفيلسوف شبّ منذ نعومة أظفاره على التصوّف وعلى الفكر الغربي. لذلك أنا أنظر إليك من ذاك البرزخ الواقع بين بحري الشرق والغرب! وماذا أرى؟ ما الذي يمكنني رؤيته أفضل من غيري لأنّني أنظر إليك من بعيد بما يتيحه التنائي من حدّة نظر؟
أراك في حال شديدة من البؤس والمعاناة تثير أشدّ أحزاني، وهي الحال التي تجعلني أيضاً أشدّ قسوة في حكمي عليك كفيلسوف! ذلك أنّني أراك بصدد ولادة وحش ينتحل اسم الدولة الإسلاميّة ويفضّل البعض تسميته باسم شيطان: داعش. ولكن الأسوأ هو أن أراك تضيع نفسك – تضيع وقتك وشرفك – في رفض الاعتراف بأنّ هذا الوحش هو سليلك، وليد ضلالاتك، وتناقضاتك، وتمزّقك بين الماضي والحاضر، وعجزك الدائم والمفرط عن تبوّأ مكانتك في الحضارة الإنسانيّة.
ما تُراك تقول في الواقع في مواجهة هذا الوحش؟ ما هو خطابك الوحيد؟ إنّك تصرخ: “هذا ليس أنا!”، “هذا ليس الإسلام!”. أنت ترفض أن تُرتكب جرائم هذا الوحش باسمك
(وسم # Not In My Name)،
وتسخط على نفسك أمام هذه الفظاعة، وتثور على اغتصاب الوحش هويّتك، وأنت لعمري محقّ في ذلك. لذا، فلا مندوحة من أن تُعلن في وجه العالم عالياً وبقوّة أنّ الإسلام يرفض الهمجيّة. لكنّ ذلك غير كافٍ البتّة! ذلك أنّك تلوذ بآليّة الدفاع عن النفس دون أن تتحمّل، بصفة خاصّة، مسؤوليّة النقد الذاتي. إنّك تكتفي بالسخط، في حين كان يمكن لهذه اللحظة التاريخيّة أن تكون فرصة عظيمة لمساءلة نفسك! وكالعادة، أنت تتّهم بدلاً من أن تتحمّل مسؤوليّتك: “توقّفوا، أيّها الغربيّون، ويا أعداء الإسلام جميعاً عن ربطنا بهذا الوحش! الإرهاب لا يمثّل الإسلام، فالإسلام الحقّ لا يعني الحرب، بل يعني السلم!”.
إنّني أسمع صرخة التمرّد الصاعدة في أحشائك، يا عالمي الإسلامي العزيز، وأفهمها. نعم أنت محقّ، فالإسلام على غرار جميع القوى الروحيّة الكبرى المقدّسة في العالم، قد أنتج على مدى تاريخه الجمال والعدالة والمعنى والخير، وأنار الكائن الإنساني بقوّة في مسار بحثه عن سرّ الوجود… إنّني أقاتل هنا في الغرب، من خلال كلّ كتاب من كتبي، من أجل أن لا تُنسى حكمة الإسلام تلك وحكمة جميع الأديان، أو أن تُحتقر! لكنّي في موضعي البعيد، أرى أيضاً شيئاً آخر – لا تدري كيف تراه أو لا تريد أن تراه… وهذا ما يدفعني إلى طرح سؤال، بل السؤال الكبير: لماذا سرق هذا الوحش وجهك؟ لم اختار هذا الوحش الحقير وجهك بالذّات لا وجهاً آخر؟ لم لبس قناع الإسلام دوناً عن غيره؟ ذلك أنّ صورة الوحش هذه تُخفي في الواقع مشكلة كبيرة، لا يبدو أنّك مستعدّ لمواجهتها. ومع ذلك يجب عليك مواجهتها، ويجب أن تمتلك الشجاعة على ذلك.
هذه المشكلة هي مشكلة جذور الشرّ. من أين تنبع جرائم ما يسمّى “الدولة الإسلاميّة”؟ سأجيبك يا صديقي، ولن يسرّك ذلك، ولكن واجبي كفيلسوف يقتضي إجابتك. إنّ جذور هذا الشرّ الذي يسرق وجهك اليوم تكمن فيك، فالوحش خرج من رحمك، والسرطان يسكن جسمك ذاته. ومن رحمك المريضة ستخرج في المستقبل وحوش جديدة – أسوأ منه بكثير – ما دمت ترفض مواجهة هذه الحقيقة، وطالما تباطأت في الاعتراف بها ولم تعزم على اقتلاع هذا الشرّ من جذوره!
فحتّى المثقّفون الغربيّون، حين أقول لهم هذا، فإنّ لديهم صعوبة في رؤية ما أرى. فأغلبهم، نسي ما للدّين من سطوة – في الخير والشرّ، وعلى الحياة والموت – إلى درجة أنّهم يقولون لي: “لا…مشكلة العالم الإسلامي ليست الإسلام، ليست الدين، بل السياسة، والتاريخ، والاقتصاد، الخ”. إنّهم يعيشون في مجتمعات بلغت درجة من العلمانيّة لا تجعلهم يتذكّرون البتّة أنّ الدين يمكن أن يكون هو قلب مفاعل حضارة إنسانيّة! وأنّ غد البشريّة لا يتعلّق مستقبلاً بحلّ الأزمة الماليّة والاقتصاديّة فحسب، بل وبكيفيّة أكثر حسماً من ذلك بكثير، بحلّ الأزمة الروحيّة غير المسبوقة التي تمرّ بها إنسانيّتنا جمعاء! هل يمكننا أن نتّحد، في جميع أنحاء العالم، في مواجهة هذا التحدّي الأساسي؟ إنّ الطبيعة الروحيّة للإنسان تخشى الفراغ، وما لم تجد شيئاً جديداً لملئه، فإنّها ستملؤه غداً بأديان يزداد عدم تكيّفها اليوم – لتنتج، كما يفعل الإسلام الآن، وحوشاً.
إنّني أرى فيك أيّها العالم الإسلامي قوى هائلة مستعدّة للنهوض من أجل المساهمة في هذا الجهد العالمي لإيجاد حياة روحيّة للقرن الحادي والعشرين! إنّ فيك حقّاً، رغم شدّة مرضك، ورغم زحف الظلاميّة التي تريد أن تغطّيك بظلالها، عدداً كبيراً واستثنائيّاً من الرجال والنساء مستعدّين لإصلاح الإسلام، لإعادة اكتشاف عبقريّته فيما وراء أشكاله التاريخيّة، والمشاركة بالتّالي في تجديد كامل للعلاقة التي أقامتها البشريّة إلى حدّ الآن مع آلهتها! إنّ هؤلاء جميعاً، مسلمين وغير مسلمين ممّن يحلمون معاً بثورة روحيّة، هم من كنت أتوجّه إليهم في كتبي! كي أمنحهم، بكلماتي كفيلسوف، الثقة في ما يتراءى لهم من بوارق أمل!
يوجد في الأمّة بعض من هؤلاء النساء والرجال التقدميّين الذين يحملون في دواخلهم رؤية المستقبل الروحي للكائن الإنساني. لكنّ عددهم ليس بعد بالكافي، ولا خطابهم بالقوّة المطلوبة. جميع هؤلاء، الذين أحيّي فيهم الشجاعة ونفاذ البصيرة، رأوا بوضوح أنّ ما وصل إليه العالم الإسلامي من مرض شديد، هو ما يفسّر ولادة الوحوش الإرهابيّة تحت أسماء “تنظيم القاعدة”، و“النصرة”، و“القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” و“الدولة الإسلاميّة”. لقد فهموا جيّداً أنّ هذه ليست سوى الأعراض الأخطر والأكثر وضوحاً على جسم ضخم مريض تتمثّل أمراضه المزمنة في : العجز عن إقامة ديمقراطيّات دائمة تؤمن بحريّة الضمير تجاه عقائد الدين كحقّ أخلاقي وسياسي؛ العجز عن الخروج من السجن الأخلاقي والاجتماعي لدين متحجّر، جامد، وأحياناً شمولي؛ صعوبات مزمنة في تحسين وضع المرأة باتّجاه المساواة والمسؤوليّة والحرّية؛ عدم القدرة على فصل كافٍ للسّلطة السياسيّة عن هيمنة سلطة الدين عليها؛ العجز عن تأسيس احترام وتسامح واعتراف حقيقي بالتعدديّة الدينيّة والأقليّات الدينيّة.
هل يكون هذا كلّه نتيجة خطأ من الغرب؟ كم من وقت ثمين، ومن سنوات حاسمة، سوف تخسر أيّها العالم الإسلامي العزيز، بهذا الاتّهام الغبيّ الذي لا تؤمن به أنت ذاتك، والذي تختبئ وراءه كي تواصل الكذب على نفسك؟ إذا كنتُ أنتقدك بكلّ هذه القسوة، فليس لأنّني فيلسوف “غربي”، بل لأنّني واحد من أبنائك الواعين بكلّ ما فقدته من عظمتك التي طواها الزمن إلى درجة أنها أضحت مجرّد أسطورة!
منذ القرن الثامن عشر على وجه الخصوص، وها أنا أعترف لك بذلك أخيراً، لم تتمكّن من مواجهة تحدّي الغرب. فنجدك إمّا تنكفئ بطريقة طفوليّة وقاتلة في الماضويّة من خلال التقهقر الوهابي المتعصّب والظلامي الذي ما يزال يعيث فساداً في كلّ مكان تقريباً داخل حدودك – وهي وهابيّة تنشرها انطلاقاً من أماكنك المقدّسة في المملكة العربيّة السعوديّة كسرطان ينطلق من قلبك ذاته! وإمّا أنّك اتّبعت أسوأ ما في هذا الغرب، لتنتج مثله قوميّات وحداثويّة هي مسخ للحداثة – أعني هذا الجموح نحو الاستهلاك، أو بالأحرى هذا التطوّر التكنولوجي غير المتلائم مع التقليدويّة الدينيّة الذي يجعل من “نخبك” الثريّة في الخليج، مجرّد ضحايا راضين بالمرض الذي أضحى عالميّاً، وأعني عبادة الإله المال.
ماذا لديك اليوم باهراً، يا صديقي؟ ماذا تبقّى فيك ممّا يستحقّ احترام شعوب وحضارات الأرض الأخرى وإعجابها؟ أين حكماؤك، وهل ما زال لديك من حكمة تقدّمها للعالم؟ أين رجالك العظام، أشباه “مانديلا” و“غاندي” و“أونغ سان سو كيي” فيك؟ أين هم كبار مفكّريك ومثقّفيك الذين ينبغي قراءة أعمالهم في جميع العالم كما كان الأمر زمن كان علماء الرياضيّات والفلاسفة العرب والفرس أساتذة العالم من الهند إلى إسبانيا؟ الحقيقة أنّك أصبحت في الدرك الأسفل من الضعف والعجز وأنت تتخفّى وراء اليقين الذي تعلنه حول نفسك… لم تعد تعرف بتاتاً من أنت ولا أين تريد أن تذهب، وهذا يجعلك شقيّاً بقدر ما أنت عدواني… أنت تصمّ أذنيك عن الاستماع إلى أولئك الذين يدعونك إلى أن تتغيّر لكي تتخلّص من الهيمنة التي أعطيتها للدّين على الحياة بأكملها. لقد اخترت الاعتقاد بأنّ محمّداً كان نبيّاً وملكاً. لقد اخترت تعريف الإسلام بوصفه ديناً سياسيّاً وأخلاقيّاً واجتماعيّاً، يجب أن يسود كطاغية على الدولة كما على الحياة المدنية، وفي الشارع وفي المنزل كما داخل كلّ وعي. اخترت الاعتقاد وفرض أنّ الإسلام يعني الاستسلام، والحال أنّ القرآن نفسه يعلن أن “لا إكراه في الدين”. لقد جعلت من دعوته إلى الحرّية مملكة الإكراه! كيف يمكن لحضارة أن تخون إلى هذا الحدّ نصّها المقدّس؟ أقول حان الوقت، في حضارة الإسلام، لإقامة هذه الحرّية الروحيّة – الأسمى والأصعب – بدلاً من كلّ القوانين التي اخترعتها أجيال الفقهاء!
إنّ العديد من الأصوات التي لا تريد أن تسمعها ترتفع اليوم داخل الأمّة داعية إلى التمرّد على هذا الخزي، وإدانة هذا المحرّم الديني السلطوي الذي لا يرقى إليه الشكّ والذي يستخدمه قادتها لإدامة حكمهم إلى أبد الآبدين… حدّ أنّ الكثير من المؤمنين استبطنوا ثقافة الخضوع للتّقاليد ولـ“سادة الدين” (من أئمّة ومفتين وشيوخ، الخ) إلى درجة أنّهم باتوا لا يفهمون أنّنا إنّما نحدّثهم عن الحرّية الروحيّة، ولا يقبلون حتّى جرأتنا على الحديث حول الاختيار الشخصي مقابل “أركان” الإسلام. هذا كلّه “خطّ أحمر” في نظرهم، شيء مقدّس إلى درجة لا يتجرّؤون معها على إعطاء ضمائرهم حقّ التساؤل بشأنه! وكم هناك من عائلات، ومن مجتمعات إسلاميّة ينغرس فيها الخلط بين الروحانيّة والعبوديّة في أذهان الناس منذ سنّ مبكّرة، ويكون التعليم الروحي فيها من الضحالة بحيث يظلّ كلّ ما يرتبط من قريب أو من بعيد بالدّين أمراً لا يمكن مناقشته!
ولكن هذا، بالطّبع، لا يتمّ فرضه من خلال الإرهاب الذي يقوم به بعض المجانين، أو بعض جماعات متعصبّي الدولة الإسلاميّة. لا، المشكلة هنا أعمق من ذلك بكثير وأشمل! لكن من سيراها؟ ومن سيتحدّث عنها؟ ومن يبغي سماعها؟ إنّ الصمت يلفّها في العالم الإسلامي، ولم نعد نسمع في وسائل الإعلام الغربيّة سوى خبراء الإرهاب الذين يفاقمون يوماً بعد آخر قصر النظر المعمّم! لذا، لا يجب أن تنخدع، يا صديقي، بأنّ مجرّد اعتقادك والإيهام بأنّه ما إن يتمّ الحسم مع الإرهاب الإسلاموي حتّى يكون الإسلام قد حلّ مشاكله! ذلك أنّ جميع ما ذكرته للتوّ – دين رجعي، متحجّر، حرفي، شكلاني، ذكوري، محافظ، منكفئ – هو في كثير من الأحيان، وليس دائماً، الإسلام العادي، أي الإسلام اليومي الذي يتألّم ويؤلم الكثير من الضمائر، إسلام التقليد والماضي، الإسلام المشوّه من قبل جميع الذين يستخدمونه سياسيّاً، الإسلام الذي يخنق وسيخنق دوماً كلّ ربيع عربي ويئد صوت جميع الشباب المطالبين بشيء آخر. فمتى ستقوم بثورتك الحقيقيّة؟ تلك الثورة التي سوف تُطابق نهائيّاً في المجتمعات وفي الضمائر بين الدين والحرّية، تلك الثورة التي لا رجعة عنها والتي ستعترف بأنّ الدين أضحى مجرّد واقعة اجتماعيّة ضمن بقيّة الوقائع الاجتماعيّة في جميع أنحاء العالم، وبأنّه لم يعد لتكاليفه الباهظة أيّ شرعيّة!
وبطبيعة الحال، يوجد في إقليمك الشاسع، جيوب من الحرّية الروحيّة: عائلات تنشر إسلام التسامح والاختيار الشخصي والعمق الروحي؛ بيئات اجتماعيّة انفتح فيها قفص السجن الديني أو يكاد؛ أماكن ما زال فيها الإسلام يعطي أفضل ما فيه، أي ثقافة التبادل والشرف والسعي وراء المعرفة، وقيماً روحيّة ساعية للبحث عن ذاك المكان المقدّس حيث يلتقي في نهاية المطاف الكائن البشري بالحقيقة الأزليّة التي ندعوها الله. توجد في أرض الإسلام وفي جميع المجتمعات الإسلاميّة حول العالم ضمائر قويّة وحرّة، ولكنّها محكومة بأن تعيش حرّيتها دون ضمان، دون اعتراف صريح بحقّها، وهي تواجه رقابة المجتمع إن لم تكن تواجه أحيانا الشرطة الدينيّة. ولا اعتراف إلى حدّ الآن بحقّ القول “أنا اخترتُ إسلامي”، أو “عندي علاقتي الخاصّة بالإسلام” من قبل “الإسلام الرسمي” لأصحاب المقامات. فهؤلاء، على العكس من ذلك، حريصون على فرض “وحدة العقيدة الإسلاميّة”، وأنّ “طاعة أركان الإسلام هي وحدها الصراط المستقيم”.
إنّ هذا الحرمان من الحقّ في الحرّية في مواجهة الدين هو أحد جذور الشرّ التي تعاني منها، يا عالمي الإسلامي العزيز، وواحدة من تلك الأرحام المظلمة التي تنمو فيها الوحوش التي تقذف بها منذ بضع سنوات في وجه العالم المرتعب. ذلك أنّ هذا الدين الحديدي يفرض على مجتمعاتك بأكملها عنفاً لا يطاق. إنّه ما يزال يحبس كثيراً من بناتك وجميع أبناءك في سجن الخير والشرّ، الحلال والحرام، وهو سجن لا أحد يختاره، ولكن الجميع يخضع له. إنّه يسجن الإرادات، ويكيّف العقول، ويمنع أو يعيق كلّ اختيار لحياة شخصيّة. وفي كثير من أصقاعك، ما زلت تقرن بين الدين والعنف – ضدّ النساء، وضدّ “قليلي الإيمان”، وضدّ المسيحيّين وغيرهم من الأقلّيات، وضدّ المفكّرين والعقول الحرّة، وضدّ المتمرّدين – بحيث يمتزج الدين والعنف في نهاية المطاف عند أكثر أبنائك لا توازناً وأكثرهم هشاشة في الجهاد المسخ!
لا تندهش إذن، ولا تتظاهر بالاندهاش، أرجوك، من أنّ بعض الشياطين على غرار ما يسمّى الدولة الإسلاميّة قد سرقوا وجهك! فالوحوش والشياطين لا تسرق إلاّ الوجوه المشوّهة بفعل ما عراها طويلاً من عبوس! وإذا كنت تريد أن تعرف كيف لا تنجب مستقبلاً مثل هذه الوحوش، فسأقول لك إنّ الأمر بسيط وصعب في نفس الوقت. لا بدّ أن تبدأ بإصلاح التعليم الذي تعطيه أطفالك برمّته، أن تصلح كلّ مدرسة من مدارسك، وجميع أمكنة المعرفة والسلطة. أن تصلحها من أجل إدارتها حسب مبادئ كونيّة (حتى ولو لم تكن أنت الوحيد الذي يخرقها أو يستمرّ في تجاهلها): حرّية الضمير، والديمقراطيّة، والتسامح، وحقوق المواطنة لجميع تنوّعات رؤى العالم والمعتقدات، والمساواة بين الجنسين وتحرير المرأة من كلّ وصاية ذكوريّة، والتفكير وثقافة النقد الديني في الجامعات، والأدب، والإعلام. لن يمكنك أبداً الرجوع إلى الوراء، ولن يمكنك أبداً أن تفعل أقلّ من ذلك! لن يمكنك أبداً أقلّ من أن تُنجز ثورتك الروحيّة في أكمل صورها! هذه وسيلتك الوحيدة كي لا تُنجب مثل هذه الوحوش، وإن لم تفعل ذلك فإنّ قوّتها التدميريّة ستكتسحك قريباً. وحين انتهائك من هذه المهمّة الضخمة، بدل اللجوء مراراً وتكراراً إلى سوء النيّة والعمى المتعمّد، فإنّه لا يمكن لأيّ وحش حقير أن يأتي لسرقة وجهك.
العالم الإسلامي العزيز…
أنا لست سوى فيلسوف، وكالعادة سيقول البعض إنّ الفيلسوف زنديق. ومع ذلك، فإنّني لا أسعى إلاّ إلى إعادة إشراقة النور – وهذا هو الاسم الذي أطلقته عليّ أنت : “عبد النور”.
وما كان عليّ أن أكون شديداً في هذه الرسالة لولا أنّني أؤمن بك. وقديماً قال الشاعر: “ومن يكُ حازماً، فليقْسُ أحياناً على من يرحم”. وعلى العكس من ذلك، فإنّ غير الحازمين اليوم تجاهك بما يكفي – الباحثين لك دوماً عن أعذار، ومن يريدون أن يجعلوا منك ضحيّة، أو الذين لا يرون مسؤوليّتك في ما يحدث لك – كلّ أولئك لا يخدمونك في الواقع! أنا أؤمن بك، وأؤمن بمساهمتك في جعل كوكبنا في مستقبل الأيّام عالماً أكثر إنسانيّة وأكثر روحيّة في آنٍ!
سلام الله عليك…