الشرق الاوسط
انشغل كثير من المعلقين السياسيين بمحاولة قراءة «غاية»، أو «غايات»، إسرائيل الحقيقية من الضربة المزدوجة التي شنتها في نهاية الأسبوع المنصرم على أهداف عسكرية داخل سوريا.
شخصيا أزعم أن لا استراتيجية إسرائيل – وبالذات في عهد بنيامين نتنياهو – بحاجة إلى شرح طويل، ولا أكذوبة «صمود» النظام السوري و«تصديه» و«ممانعته»، كما شهدنا وعهدنا منذ أكثر من أربعين سنة، تستحثان تفكيرا معمّقا. بل، في اعتقادي، من السذاجة فصل قراءة الاستراتيجية الإسرائيلية عن الغايات «الصمودية» السورية. وعليه فإنني لا أشاطر السيد عمران الزعبي، وزير الإعلام السوري، حكمه السريع على أن الاعتداء الإسرائيلي الجديد «يفضح» وقوف إسرائيل إلى جانب خصوم نظام بشار الأسد، ولا عقائديي حزب الله في مقولتهم المألوفة أن القصد من العدوان معاقبة النظام على اصطفافه مع المقاومة.
كلام عمران الزعبي مفهوم وتعوّدنا عليه، بل إنه يهين ذكاء أي راصد جادّ لسياسة دمشق منذ خريف 1970. بل، لمن اعتاد الهدوء على جبهة الجولان المحتل منذ حرب أكتوبر / تشرين 1973، التي كان القصد المعلن منها – على لسان الرئيس المصري السابق أنور السادات – «التحريك» لا «التحرير».
منذ خريف 1973، كانت المواجهات العسكرية المباشرة بين إسرائيل وسوريا، مع الأسف، من جانب واحد. وعلى الرغم من التشديد على كلمات «الصمود» و«التصدي» ثم «الممانعة»، التي حفظناها عن ظهر قلب، قبل أن تضم إليها أخيرا «المقاومة»، اختار نظام دمشق على الدوام «الاحتفاظ بحق الرد» على الاعتداءات الإسرائيلية على أراضي سوريا الوطن.
«الاحتفاظ بحق الرد» من دون تحديد الزمان والمكان، ضايق – كما سمعنا بالأمس – حتى زميله الوزير الدكتور علي حيدر. ولمن يمكن أن يستغرب موقف الدكتور حيدر ينبغي الإشارة إلى أنه أحد وزيرين، مع زميله نائب رئيس الحكومة الدكتور قدري جميل، يمثّلان «المعارضة» – نعم المعارضة المرخص لها بأن تعارض – في حكومة نظام قتل حتى اللحظة من أبناء الشعب السوري أكثر من 100 ألف قتيل ودمّر عشرات المدن والقرى.
ولكن لنعُد إلى شيء من الجدّية.
في اعتقادي الجهة الوحيدة التي تصدّق أن إسرائيل إنّما ضربت المواقع السورية المستهدفة بهدف دعم القوى الثائرة على حكم بشار الأسد وتخفيف الضغط عنها، هي القوى المستفيدة من النظام.. تبعيا من تحت.. أو توجيها من فوق. ذلك أنه بعد أكثر من سنتين ظلت مواقف تل أبيب إزاء الثورة السورية ملتبسة كي لا نقول متواطئة. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن مواقف إدارة باراك أوباما، واستطرادا القوى الغربية الكبرى. وما غدا واضحا من لعبة الابتزاز المتبادل، المدمّرة لسوريا والقاتلة لشعبها، التي يمارسها المجتمع الدولي أن القوى الغربية من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية، أنها لا تكترث للمأساة التي تمثل فصولا، بل ترى في سوريا «مسرح عمليات» يسهل فيه استنزاف الخصوم، و«صندوق بريد» لمفاوضتهم على ثمن الخروج.
إيران وإسرائيل، كل لأسبابها الخاصة، أيضا لديهما حساباتهما الإقليمية والاستراتيجية الأبعد والأوسع. ومن المستبعد جدا أن تكون إيران قد بوغتت بتداعيات توريط سوريا في مستنقع الصدام الطائفي عبر حزب الله اللبناني و«عصائب الحق» العراقية.. بعدما جنت ثمار الغزو الأميركي. وأيضا يصعب تصديق أن إسرائيل متضايقة من انزلاق سوريا إلى مثل هذا المستنقع وهي المتهمة منذ عقود بأنها تعمل على استغلال التناقضات الدينية والمذهبية.. وصولا إلى تقسيم الشرق الأدنى إلى كيانات طائفية متنازعة.
لماذا، إذن اختارت إسرائيل استخدام ذراعها القويّة، ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟
سمعت، كما سمع غيري، بالأمس عن مبادرة تل أبيب إلى القول إن الضربة المزدوجة لم تستهدف النظام بل تسليم أسلحة محظور تسليمها إلى حزب الله. ولكن التمييز بين الجانبين الحليفين، أصلا، غدا تمييزا مفتعلا وعبثيا. وحزب الله نفسه يهبّ دائما للدفاع عن الدور المحوري لدمشق في دعم «المقاومة».. كلما شكك بعضهم في سجل دمشق النضالي في ميادين التحرير، ولا سيما تحرير فلسطين. وتل أبيب تفهم هذا الأمر جيدا.
من ناحية ثانية، تفهم إسرائيل أيضا التماهي شبه الكامل بين دمشق وطهران على صعيدي الحرب والسلم، وتدرك أنه منذ تولي بشار الأسد الحكم صارت السياسة السورية تابعا للمنظور الإيراني.
بناء عليه، أعتقد أن الغاية من الضربة الإسرائيلية المزدوجة إرسال عدة رسائل في اتجاهات مختلفة، أبرزها:
رسالة إلى الداخل الإسرائيلي مؤداها أن إسرائيل قادرة ساعة تشاء على الضرب حيث تشاء في الشرق الأوسط. وأنها رقم أساسي في مشاريع المنطقة.. قبل أيام معدودات من لقاءات وزير الخارجية الأميركي جون كيري في موسكو.
رسالة إلى النظام السوري، تبلّغه فيها أنها ترصد كل التفاصيل وتختار أهدافها وتوقيت خطواتها وفق مصالحها، بصرف النظر عن مواقف الحلفاء والخصوم. وهي تعرف ضمنا أن جيشه مخصّص لضبط الأمن الداخلي وليس للتحرير الخارجي.
رسالة إلى واشنطن، تذكّرها فيها أن لإسرائيل رأيها في ما يحصل سواء اختار باراك أوباما «القيادة» من المقعد الخلفي أم لا، وأن حرية الخيار بالتورّط في أزمات الشرق الأوسط أو الإحجام عنه ليس كليا بيد البيت الأبيض.
رسالة إلى طهران، تختبر فيها مدى جديّة الالتزام الإيراني بدعم نظام الأسد.. وإلى أي مدى يمكن لطهران – ومن خلفها أتباعها في المنطقة – أن تذهب إذا بلغت الأمور مرحلة الحسم.
رسالة إلى المعارضة السورية تقصد منها زيادة إرباكها وإحراجها، ومن ثم، دفعها إلى زيادة اعتمادها على الدعم الغربي، ولا سيما في ضوء خيبة أمل قوى المعارضة الرئيسة – أي الائتلاف الوطني السوري و«الجيش السوري الحر» – من اللاعبين الإقليميين الكبيرين اللذين كانت تراهن عليهما.. مصر وتركيا.
في اعتقادي الضربة الإسرائيلية حملت هذه الرسائل بالجملة. وإلى حين اتضاح حصيلة لقاءات كيري في موسكو، يظهر أن الحصيلة بالنسبة لتل أبيب كانت إيجابية.