عرفت الراحل نبيل المالح في أوائل سنوات السبعين وكنت طالب جامعيا، ففاجأني هذا البرجوازي الدمشقي النبيل الناعم الفنان الرقيق الشفاف باستيعابه لعنفواني الرديكالي الشاب بإعجاب أثار دهشتي، ونحن نحاور فيلمه (الفهد )، بعد مشاركته لنا عرضه في المركز الثقافي في حلب …
كنا كيساريين شباب مستقطبين بالسياسة والفلسفة الثقافية لليسار السوفييتي واحزابه في بلادنا، كنا نعتقد بدوغمائية عقائدية ايديولوجية مماثل للإسلام السياسي بعقائديته ، حيث استنكرت على الراحل المالح كيف ينتهي الفيلم بانتصار السلطة الاقطاعية،وهزيمة تمرد الفلاحين والقبض على (بوعلي شاهين ) المتمرد على الظلم والاضطهاد، فقال لي بحب ومودة، لكن هذا ماحدث يا عزيزي في ااتاريخ الواقعي والوثائقي …فقلت له كان عليك أن تعتمد مبدأ (الرومانسية الثورية ) الذي لا بد أن ينتصر فيها البطل الثوري ممثل الحق والعدالة وهزيمة الظلم والاستغلال …
كنت كشاب طالب جامعي أعتقد أني أناقش بورجوازيا دمشقيا سيصطدم مع طبقيا، لاستكمل خوض معركتي الطبيقة معه أستجابة لمنطق الصراع الطبقي بغض النظر عن واقعيته بيني وبينه ، لكنه فاجأني بإعجابه بأطروحاتي الشبابية الثورية ،واظهر لي رغبته أن ألتقيه إذا أتيت إلى دمشق بعد أن أعطاني رقم هاتفه وسط ذهول أصدقائي الشباب وحسدهم لي …
فعلا التقينا بدمشق، لكن بعد ما يقارب أربعين سنة من خلال (لجان إحياء المجتمع المدني) ، كنت دائما استشعر أن كيميائي الشخصية كابن بيئة شعبية حلبية (الكلاسة) لن تلتقي مع كيميائه (ابن العظمة ) ومعظم ممثلي بيئته الطبقية، لكن ما شجعني على ذلك ، هو تلك الصداقة التي كانت تتكون بيني مع ابن الارستقراطية الدمشقية العريقة (د .صادق جلال العظم )، وأنا أعمل في مجلة اليسار العربي ( النهج )، وهو تقريبا فيما أظن أنه في عمر نبيل المالح .. وذلك بعد قبول صادق العظم لدعوة زيارة منتدانا المعارض (منتدى الكواكبي ) في حلب، دون أن يأبه إلى أن المنتدى أصبح مشبوها في عيون مخابرات السلطة الأسدية .!!!.
هذه الصورة عن المنتدى المعارض (الكواكبي) ستتعزز باستقبالنا للكثيرين من المثقفين العرب غير الرسميين أوالسلطوين الذين يأتون لزيارة حلب، وكان من بينهم راحلنا الكبير (الشاب عقلا وفكرا ) نبيل المالح ، حيث تم عرض فيلمه الشهير ( الكومبارس، مع سهرة حوارية بعده) ، وكانت خطوة مهمة على طريق ادماج العقل الحلبي السياسي التقليدي المعارض اقتصاديا وسياسيا من قبل بعض رجال الأعمال الذين ربما لم يدخلوا السينما منذ أخذتهم مدارسهم لفيلم ( جميلة بوحريد أو الناصر صلاح الدين) في المرحلة الابتدائية في الستينات، لتلتقي هذه المعارضة (المقاولية ) مع نمط جديد للخطاب الفني والثقافي النقدي المعارض ديموقراطيا، بل وبينهم الإسلاميون الأقرب إلى الأخوان فيما نعرفه عنهم من (عداء ورفض بل والتكفير للفن والموسيقى والسينما والغناء ..!!!)
كان لقاؤنا المفاجيء في دمشق أن نبيل المالح كان من الستة عشر الذين وقعوا على وثيقة (لجان إحياء المجتمع المدني) … التي سميت أيضا ( بوثيقة الألف ) يومها، وقد انسحب منها في يوم لقائنا المقررعدد من المثقفين الذين بلغوا طائفيا وأمنيا ان ينسحبوا، ماعدا الصديق ( عارف دليلة ) الذي دفع ضريبة رفضه الانسحاب، السجن مضاعفا (8 سنوات)، لأنه لم ينسحب مع زملائه طائفيا بعد رسائل الأمن…
في هذه الليلة ذاتها كانت تصلنا أخبار القيادة السياسية الحزبية (مشارقة –خدام وغيرهم ….الخ) وقد نزلوا للقاء الناس في عدد من المحافظات وهم يقرعون طبول الحرب (ضد جماعة المجتمع المدني العميلة للامبريالية والصهيونية …طبعا وذلك قبل إعلانهم اليوم رسميا عن عمالة الأسدية وحزب الله لإسرائيل …) …
كنا خلال الاجتماع في وجوم تام، وكلنا يفكر بسؤال ما لعمل ؟؟ !! أمام انخراط قيادة البلد على مستوى نواب الرئيس في الحملة التخوينية ضدنا …كان ابن البورجوازية الدمشقية اللطيف الرقيق الوديع الضاحك ابدا (نبيل المالح) بجانبي في الجلسة عندما التفت نحوه لأهديء روعه، بوصفي صاحب علاقة بالمعترك السياسي أكثر من هذا المدلل الدمشقي الناعم، إذ فأجأني، وفاجا الجميع الواجمين، بكلمات ذات إيقاع راقص وهو يؤلفها للتو، ويؤديها وهو الفنان المتعدد المواهب (السينما والفن التشكيلي والموسيقى ) ، ساخرة موجعة كاريكاتورية ميلودرامية فاجعة في مفارقاتها ( السوداوية الضاحكة.. ( الكوميديا السوداء) ، وهو يتمايل ساخرا ضاحكا متوجعا …بما معنى كلماته حينها …. وها نحن سنكون سجناء كعملاء وأعداء لسوريا ….لأننا صدقنا ان الحرية يمكن أن تقرع أبوابنا السورية الموصدة ضد الحرية أسديا –امنيا- عسكريا–طائفيا …….
أخي نبيل لن ننسى رقصة رعشة موتك هذه التي كانت مزيجا من المأساة والحرية والسخرية ….لكنا نعدك أننا سنواصل مع الأجيال الشابة أغنيتك ورقصتك وموسيقاك وصورك السينمائية من أجل حرية (سوريانا) ..وسنهتف معك ومع زميلك المخرج يوسف شاهين ( علي صوتك ….علي صوتك في الغنى… لسه الأغاني ممكنة ….ممكنة …!!!.