د.سيد علي إسماعيل 19 مايو 2018 (ضفة ثالثة)
في عام 1998، أصدرت كتابي “تاريخ المسرح في مصر في القرن التاسع عشر”، وكتبت فصلاً فيه عن فرقة القباني المسرحية، وقلت إن القباني “عندما مُنع من التمثيل في سورية، أرسل إلى سعد حلابو، أحد أعيان الإسكندرية، يستشيره في أمر الحضور إلى مصر لمزاولة التمثيل المسرحي، فأبرق إليه بسرعة الحضور. وهناك رواية أخرى في هذا الشأن يخبرنا بها عمر وصفي قائلاً: كان القباني في هذه الأثناء قد جمع ثروة طيبة من التمثيل، واستساغ هذا النوع من الكسب، فلم يشأ التخلي عن التمثيل بل قرر السفر بفرقته إلى معرض شيكاغو. وكان لا بد له من المرور بميناء الإسكندرية، فالتقى في الجمرك بسعد الله بك حلابو، وكان تاجراً كبيراً يستورد الأغنام من الشام إلى مصر… وسعى سعد الله بك عند الحكومة المصرية حتى أذنت لأبي خليل بالعمل في الإسكندرية”. إذن فالقباني لم يسافر إلى شيكاغو قط!
وفي عام 2008 أصدرت كتابي “جهود القباني المسرحية في مصر”، وقلت تحت عنوان (سنوات عجاف): “… وفي هذه الفترة تألقت عدة فرق مسرحية، فشعر القباني بعدم استطاعته منافستها، فترك مصر وعاد إلى سورية، ولم ينجح في العودة إلى مصر، وممارسة نشاطه المسرحي طوال أربع سنوات (1890-1894م)”. ثم وضعت هامشاً، قلت فيه: “هناك قولان يُفسران هذا الغياب الطويل: الأول مفاده، أن القباني هزّه الشوق إلى عائلته بعد غيابه الطويل في مصر، فحضر إلى دمشق وزار صديقه محمد الجندي مع عائلته في حمص، ثم ترك القباني أبناءه لدى هذا الصديق، الذي هيأ لهم عملاً يعيشون منه، من خلال بناء مصنع للنشاء، ثم عاد القباني إلى القاهرة مرة أخرى. أما القول الآخر، فيقول: إن بعض السواح من الأجانب زاروا مسرح القباني في القاهرة، فأعجبوا به ودعوه إلى زيارة معرض شيكاغو بأميركا، فلبّى القباني دعوتهم وسافر عام 1892”.
ومما سبق يتضح إنني – طوال عشرين سنة – لم أستطع حسم أمر موضوع سفر القباني إلى شيكاغو، لعدم وجود أية مراجع تؤكد هذا السفر، واعتبرت الأمر – مثل غيري – مجرد إشاعة من الإشاعات الفنية، وهذا الاعتقاد آمنت به – مثل غيري – بأن ما أُشيع عن سفر القباني إلى أميركا عام 1893 – أي منذ 125 سنة – هو ضرب من الأوهام، وبخبرتي في التاريخ والتوثيق المسرحي، أصبحت لا أعطي أذني لأي شخص يتحدث أو يحاول أن يتحدث عن رحلة القباني الوهمية إلى شيكاغو.
ومنذ عدة أشهر أرسل لي شخص رسالة إلكترونية، يسألني فيها سؤالاً محدداً عن القباني! وهذا الشخص لا أعرفه من قبل؛ ولكن سؤاله عكس لي مقدرة شخصية صاحبه، واستطعت أن أحكم عليه من صيغة سؤاله، بأنني أمام باحث ومؤرخ مدقق غير مسبوق، ولم يخب ظني عندما تعرفت إليه عن قرب، لأسعد بمعرفته وصداقته وبما كتبه وما يكتبه وما سيكتبه.. إنه الأستاذ تيسير خلف من سورية.
هذا الباحث القدير، نجح فيما لم ينجح فيه (كل) الباحثين العرب والأجانب ممن كتبوا عن القباني طوال أكثر من مائة سنة! فتيسير خلف حصل على أغلب الوثائق والأقوال والمقالات والبيانات الدقيقة الموثقة لرحلة القباني المسرحية إلى شيكاغو عام 1893.. أي أن تيسير خلف حصل على كنز معلوماتي ظل مجهولاً طوال قرن وربع القرن، أي 125 سنة عن القباني، ونشره منذ أيام في كتاب بعنوان (من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893)، نال به جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات لهذا العام.. فهيا بنا نطلع على هذا الكنز الثمين، ونفتح معاً مغارة علي بابا – أقصد مغارة تيسير خلف – لننهل من كنوزه الثمينة، ما سيجعلنا مستقبلاً نضيف تاريخاً مجهولاً لأحمد أبي خليل القباني!!
من خلال قراءة الكتاب، نعلم أن استعداد السفر إلى شيكاغو بدأ في منتصف عام 1892، بتكوين فرقة فنية من 65 فرداً من ممثلين ومغنين وموسيقيين من مدن عربية عثمانية متنوعة، مثل: القدس، وبيت لحم، والناصرة، والسامرية، ودمشق، وبيروت، ولبنان، وحلب، والقسطنطينية، وأزمير، وبلاد النهرين، بالإضافة إلى بدو من الصحراء؛ وذلك لتقديم العادات والتقاليد العربية بتمويل من شركة العوائد الشرقية؛ حيث سيتم بناء مسرح “تُمثل فيه المشاهد والعوائد الشرقية في ضروبها المختلفة، وأشكالها المتنوعة”.
وبالفعل جاء في الكتاب ما يُفيد بناء هذا المسرح بتصميم شرقي ذي أقواس وقباب وأخشاب أرابيسك وشبابيك مطعمة ومعشقة ومطعمة مثل البنايات الدمشقية سواء من الخارج أو الداخل، وكأنه قطعة من دمشق تم نقلها إلى شيكاغو. ومن وصف الصحف الأميركية والوثائق المتعلقة بالبناء، علمنا إنه مسرح فخم من طابقين، يتسع لألف متفرج. ونشرت جريدة أميركية توضيحاً لعروض هذه الفرقة، قائلة: “ستظهر أعمال هذه الشركة في القسم العثماني من المعرض الكولومبي، وهي تمثيل عوائد أهل الشرق من بدو وحضر في أعراسهم وولائمهم وأيام أفراحهم وأتراحهم وملابسهم، مع اختلاف بيئاتهم، وتمثيل بعض حوادث تاريخية، وروايات تتضمن الأخبار عن رجالهم العظام الأقدمين، كهارون الرشيد، وعنترة العبسي، وغيرهما من المشاهير. ويتخلل كل ما تقدم؛ محاورات وفكاهات أدبية، وأنغام موسيقية يُطرب الآذان سمعها. وقد انتخب بعض من العارفين بأنواع الملاعب، كالسيف والترس وعصا الشوم، والضاربين بالآلات الشرقية القديمة والحديثة، كالربابة .. إلخ”.
ومن كنوز كتاب تيسير خلف، وثيقة أعدّها وثيقة الوثائق في رحلة شيكاغو، وهي برنامج العروض المسرحية التي عُرضت في هذه الرحلة، والذي تمّ توزيعه على الجمهور باللغة الإنكليزية تحت عنوان “مرسح العادات الشرقية”. ومن خلال هذا البرنامج نتعرف على عروض مسرحية قدمها القباني في أميركا، ولم يُقدمها بعد ذلك نهائياً، مما يعني أننا سنتعرف على أعمال مسرحية مجهولة في تاريخ القباني، وفي إنتاجه الفني مضى عليها 125 سنة دون أن نعلمها، لولا اكتشافها من قبل تيسير خلف!
أول عرض من هذه العروض المجهولة “الدراما الكردية”، وتتكون من “افتتاحية موسيقية وثلاثة فصول، وتروي قصة بسيطة لرجل كردي يدعى فياض يرفض تزويج ابنته كريمة من ابن عمها حسن، ولكنه حين يتعرض لغزو ونهب ممتلكاته واختطاف ابنته وزوجته من لصوص العرب البدو، لا يجد غير ابن أخيه الذي ينقذ النساء ويعيد المنهوبات، ويحظى بالزواج من محبوبته مكافأة له، فتقام لذلك الأفراح”.
والعرض المجهول الثاني “الدراما القلمونية” – نسبة إلى جبل القلمون في شمالي غرب دمشق – و”تتحدث المسرحية عن شاب مريض بالحب يدعى سليم، يحاول والده علاجه، فيحضر مشعوذاً يقرر أنه مسحور، فتقام حضرات السحرة والمشعوذين، ويتفق الجميع على أن سليم عاشق وأنه لا بد له من الزواج بمحبوبته، وبعد التأكد من ذلك يخطبون له الفتاة التي يحبها، وتقام حفلة زفاف كبيرة تسبقها تحضيرات العرس وفق تقاليد جبل القلمون وجبل الدروز”. وقد وجدنا في أقوال الصحف الأميركية – المنشورة في الكتاب – اهتماماً كبيراً بهذا العرض، لدرجة أنها طعنت في مصداقية كاتب مسرحي إنكليزي شهير، لأنها وجدت تشابهاً في الحبكة الدرامية بين الدراما القلمونية وبين مسرحية (قصة حب البروفيسور) للكاتب البريطاني!
والعرض المجهول الثالث بعنوان “عُرس دمشقي”، وهو عنوان يعكس طبيعة عرض المسرحية، حيث إنها مسرحية استعراضية، استطاع فيها القباني أن يوثق فنياً طقوس الزواج في مدينة دمشق، حيث جاء في برنامجها، أنها بدأت بمقطوعة موسيقية، ثم فُتحت الستارة عن بيت دمشقي لنرى فيه كافة تفاصيل الحياة الأسرية الدمشقية. والعرض يدور حول أدق تفاصيل الزواج الدمشقي بين أسرتين، بداية من طلب يد العروس حتى يوم الزفاف، مروراً بالمهر والاحتفال وشراء البيت والأثاث.. إلخ.
والعرض المجهول الرابع كان بعنوان “العروس التركية”، وهو يتشابه مع العرض السابق في فكرته وليس في مضمونه، حيث إنه استعراض قصير عن زفة العروس بالطريقة التركية وليست بالطريقة الدمشقية كما حدث في العرض السابق، مع ملاحظة مهمة أن العروس التركية كانت تتميز بالقبقاب العالي.
والعرض المجهول الخامس كان مسرحية “الابن الضال”، وتدور أحداثها حول “قصة نزاع بين الأخوين على ممتلكات أبيهما وهو حي، فالصغير طالب بحصته من بضائع والده والوالد يوافق، فيأخذ الابن الحصة مفارقاً والده وشقيقه الأكبر، وبعد أن ينفق النقود يجد نفسه في محنة لا حول له ولا قوة. يتأسف الولد ويعود إلى المنزل فيستقبله الوالد استقبالاً كريماً، وتقام الأفراح لعودته، غير أن شقيقه الأكبر يرفض مصالحته، ولكن؛ وبعد ضغوط الأب يوافق، ويتصالح الشقيقان”.
هذه العروض تُعد كنزاً توثيقياً مهماً لتاريخ القباني المسرحي، حيث يُعد اكتشافها بعد 125 سنة حدثاً مسرحياً مهماً، نجح تيسير خلف في إضافته لمسيرة القباني.
ومن المواضع المهمة في الكتاب، ما سجله المؤلف من كتابات صحافية أميركية واكبت عروض الفرقة في شيكاغو، وسأتوقف فقط عند وصف إحدى الصحف التي نقلت تفصيلياً مشهداً استعراضياً من دون ذكر أسماء الفنانين المشاركين فيه، وأعتقد أن الوصف المنشور ينطبق تماماً على القباني نفسه، وعلى نجمة فرقته ملكة سرور، فقد جاء وصف الصحيفة على النحو التالي: “.. الستار أسدل وسط تصفيق وإعجاب الجمهور، والذي شاركهم فيه الممثلون أنفسهم. ولكن؛ حالما أسدلت الستارة تم رفعها مباشرة، ليبدأ عرض تؤديه ثلاث فتيات ورجل يعزف على القانون إضافة إلى عازفين على دفين وعود. كان الجميع يرتدون مختلف الأزياء الشرقية المتنوعة التي تنتشر في الدولة العثمانية. من الزي الألباني إلى الدمشقي والمقدسي ونواح أخرى بعيدة.. إحدى الفتيات كانت ترتدي قميصاً طويلاً داكناً وصدرية بيضاء وسترة حمراء ثقيلة مطرزة بالذهب، وكانت تعتمر قبعة يتدلى منها إلى الخلف منديل أبيض. كانت هذه السيدة من بيت لحم، وكان لباسها، باستثناء المنديل، يشبه لباس الفتيات الأخريات. وكان الرجل الذي يصحبها يرتدي معطفاً قصيراً ويلف رأسه بكوفية تكاد تخفي وجهه”.
لم يكتف تيسير خلف باكتشافاته السابقة، وأرجأ أهم اكتشاف في كتابه، لينهي به قضية ملتبسة تتعلق بالقباني، والمتمثلة في هذا السؤال، الذي يدور في رأس المهتمين بمسرحه منذ 125 سنة: ما دامت رحلة القباني إلى شيكاغو حقيقية، وحدثت بالفعل.. فلماذا عدّها كل من كتب عن القباني شائعة وغير حقيقية؟ وما دامت حقيقةً تاريخية حدثت بالفعل، فلماذا لم يكتب عنها أحد ممن كان مشاركاً فيها من أعضاء الفرقة، أو ممن عاصر أحداثها أو سمع بها في حينها؟ ولماذا لم تُطرح هذه الأسئلة منذ عام 1893 وحتى وفاة القباني عام 1902، علماً بأن القباني كان من أشهر مشاهير المسرحيين في مصر والشام في تلك السنوات؟
مهما فكرنا في السبب لن يصل إليه خيالنا مهما اتسع هذا الخيال! فالسبب يتعلق بشكوى قُدمت إلى جهاز المخابرات في إسطنبول، تُفيد بتورط “مرسح العادات الشرقية” – المنتمي إليه القباني؛ بوصفه المدير الفني للفرقة – في مؤامرة تستهدف مكانة السلطنة! وهذه الشكوى كتبها حسني البيروتي، قائلاً: إن القائمين على “مرسح العادات الشرقية” أرادوا من رحلتهم إلى شيكاغو إظهار العرب أمام الأجانب بصورة قبيحة، وإظهار الأجانب في صورة حسنة، ووصف المسلمين بالاستبداد والنصارى بالمظلومين، وجعل الخطب وإلقاء الكلمات باللغة الإنكليزية حتى لا يفهم المسلمون ما يقال عنهم.
وعندما حقق جهاز المخابرات في هذه الشكوى، جاءهم الرد من شيكاغو بأن هذه شكوى كيدية؛ حيث إن أغلب العاملين في “مرسح العادات الشرقية” من الممثلين والاستعراضيين “من النصارى واليهود السوريين، وقد يكون بين الذكور من هؤلاء واحد أو اثنان من المسلمين، لكنهم ليسوا ممن يمكن أن نطلق عليهم صفة أدباء”. وللأسف هذا الكلام كان غير حقيقي بالنسبة للقباني؛ لأنه مسلم ومن أهم الأدباء والمشاهير في ذلك الوقت، مما يعني أن الاتهام من الممكن أن يناله، لذلك سافر القباني سريعاً قبل استكمال عروض الفرقة، وقبل أن تمر المدة الزمنية المتفق عليها وهي ستة أشهر، حيث غادر القباني شيكاغو بعد شهرين فقط من وصوله، وبعد كتابة الشكوى والرد عليها، وكان سفره سراً، ولم يسافر إلى دمشق أو إلى مصر أو إلى إسطنبول، بل سافر إلى لندن ثم إلى باريس! وهنا يختتم تيسير خلف كتابه عند هذه النقطة، بطرح عدة أسئلة، قال فيها:
“ولا نعرف كم من الوقت أمضى أبو خليل القباني في لندن وباريس؟ ولا كيف عاد إلى دمشق؟ بحراً عن طريق ميناء بيروت؟ أم براً في قطار الشرق السريع الذي كان يربط باريس بالقسطنطينية؟ وهل تعرَّض للمساءلة من جانب السلطات في إسطنبول أو بيروت؟ أم أنه أوقف فترة من الزمن؟ وهل ثمة دور لصديقه أحمد عزت باشا العابد (كاتب السلطان عبد الحميد) في إطلاق سراحه وتخليصه من هذه الورطة؟ أم أنه واجه مصيره بنفسه؟ أسئلة لا يملك أحد الإجابة عنها في الوقت الراهن. ولكننا نعلم أنه تكتم على خبر رحلته إلى شيكاغو تسع سنوات حتى وافته المنية في منزله الدمشقي”.
والسؤال الآن: من يملك الإجابة على أسئلة تيسير خلف هذه؟؟ هل سننتظر 125 سنة أخرى لنجد الإجابة عنها؟ أم سيحاول تيسير الإجابة عنها بنفسه مستقبلاً، ما دام هو من أثارها بسبب اكتشافاته القيمة؟ ومن وجهة نظري .. أتمنى ألا يحاول تيسير إيجاد الإجابة عن هذه الأسئلة، مهما طال الزمن في البحث؛ لأنني أخشى أن تكون الإجابات صادمة، لوجود احتمال بأن القباني كان متهماً بالفعل، وأنه شارك في هذه الجريمة بقصد أو بغير قصد .. فهو احتمال وارد.
*ناقد مسرحي من مصر أستاذ المسرح في جامعة حلوان ومؤرخ مسرحي