روجيه : المدن
أنياس مريم الصليب، المولودة فاديا اللحام لأب فلسطيني وأم لبنانية
للنظام السوري أبواق كثيرة، يعرف كيف يختارها، موظفاً إياها لتأدية أدوارها البروباغندية على أكمل وجه. هذه المرة، كلف الراهبة أنياس مريم الصليب، رئيسة دير مار يعقوب المقطّع، في القلمون بريف دمشق، للدفاع عنه، عبر التشكيك في مجزرة الغوطتين الكيماوية، وتصويرها كأنها مجرد خدعة، لفقتها المعارضة “المتآمرة” على البلاد.
لكن، هذا لا يعني أن الراهبة قد لمعت صورتها في الآونة الأخيرة. على العكس، إذ أدت أدواراً أخرى في بدايات الثورة السورية، يوم أخذت على عاتقها كتابة عدد من المقالات في مواقع دينية، عربية وفرنسية، تنتصر فيها لنظام البعث، بحجة حمايته المسيحيين من بطش المتطرفين، الذين حضروا في كلام الراهبة قبل أن يتواجدوا في واقع الثورة فعلاً. كما ساهمت الراهبة أنياس في جمع عدد من الصحافيين الأجانب في وفد إعلامي كاثوليكي، أتاح له النظام الدخول إلى سوريا، والوقوف على أحداث بعض المناطق بشرط تقيده بخريطة تنقلات محددة. وقد قادت الأم أنياس هذا الوفد، ومدّته بالأخبار المزورة عن المجازر والإعدامات، التي ترتكبها المعارضة “السلفية” في هذه المنطقة أو تلك.
بعد فترة من استقبال الوفد الكاثوليكي، وبالإتفاق مع وزارتي الإعلام والخارجية، ووفقاً لخطتهما، المقيدة لحركتي التنقل والتغطية، رتبت الراهبة دخول مجموعة صحافية أخرى إلى سوريا، كان جيل جاكييه في عدادها. وعندما لم يلتزم الأخير بالخطة الرسمية، هُدد بالطرد، وحين لم يخضع، قُتل في أحد أحياء حمص. وقد جرى إتهام أنياس مريم الصليب بضلوعها في جريمة اغتياله، لأنها كانت المسؤولة عن التنسيق بين الصحافيين والسلطة البعثية. لكن الراهبة نفت هذه التهمة، مؤكدة ً أنها مجرد “وسيط” بين النظام والوفود الإعلامية.
في كل الأحوال، لم ينحصر نشاط الراهبة الدعائي، لصالح بشار الأسد، في الداخل السوري. تنقلت بين بلدان عدة للدفاع عن النظام، وتشويه وقائع الثورة، وتزوير أحداثها. وفي السياق هذا، نظمت مؤتمراً صحافياً في المركز الكاثوليكي للإعلام في بيروت لنشر دعاية النظام عن “المؤامرة” التي يتعرض لها. كما دعتها منظمة “فرنسا-إسرائيل” اليمينية، والمعروفة بلاساميّتها، إلى فرنسا للكلام عن أوضاع المسيحيين في سوريا. وأخيراً، زارت الراهبة إسرائيل، حيث حاولت استجداء المسؤولين هناك، متكلمةً عن حبها لإسرائيل واليهود، بالتوازي مع حديثها عن زيف المجزرة الكيماوية. وفي مقابلة لصحيفة “هآرتس”، أعلنت الراهبة “وجود” 150 ألف مقاتل أجنبي في سوريا، جاؤوا من السعودية وتركيا وأميركا، والبعض منهم تحت تأثير الكبتاغون! كما قالت إن الأطفال، الذين ظهروا في فيديوات مجزرة السارين، كانوا خُطفوا من اللاذقية قبل أسبوعين من وقوع الإبادة، وأنه جرى تركيب صورهم بطريقة واضحة.
ما أعلنته الراهبة لصحيفة “هآرتس”، عادت وكررته في تقريرين إخباريين على شاشة قناة “الجديد” اللبنانية (1- 2). إذ ذكرتها بعض مشاهد مجزرة الغوطتين بحادثة دخول المعارضة إلى 11 قرية في ريف اللاذقية، وخطفهم 115 شخصاً، بينهم 65 طفلاً، بحسب زعمها. تالياً، يظهر بعض الأطفال المخطوفين في الفيديوات في “يوتيوب”، بعد وقوع المجزرة بساعتين، كأنهم بلا أهل، خصوصاً أن الراهبة “عاينت” فيديو تتكدس داخله جثث الأطفال الملفوفة بالأكفان التي كتب عليها “مجهول الهوية”.
ومن ناحية أخرى، تجد الراهبة أن ثمة طفلاً موجوداً في خمس أماكن\فيديوات مختلفة. فيحتضر في أول مكان، يُعالج في الثاني، يُترك على سرير في الثالث، ويظهر ميتاً في الرابع، قبل أن تراه الراهبة في مكان خامس، أي في براد الموتى. كما تقارن الراهبة بين صورتين من المجزرة. في الأولى، تظهر جثة طفل، وحيدةً على البلاط، وفي الثانية، يُضاف إليها عدد من الجثث الأخرى، فتستغرب مريم الصليب كيفية نقل الجثث من غرفة إلى أخرى، بطريقة منظمة، سائلةً ناقلها: “من وين عندك النخوة؟”. وتجد أن بعض الفيديوات “صُنع” قبل وقوع المجزرة.
في الجهة عينها، تقول الراهبة أنها لم تجد سوى فيديو واحد لدفن ضحايا الغوطتين، وقد جرى تصويره في زملكا. وهذا ما يدفعها إلى الإستفهام عن المقابر الجماعية الأخرى، التي من المفترض أن يدفن الضحايا فيها. فلماذا صورت تفاصيل المجزرة، ولم يجرِ تسجيل عمليات الدفن، “مثلما هي العادة في الأزمة السورية”؟ كما لو أن الراهبة تعترف بحقيقة فيديوات المجازر السابقة، وعلى ضوء إقرارها، تريد من أهالي الغوطتين أن يخضعوا للتصوير، أو بالأحرى أن يموتوا، بالطريقة نفسها! تعتقد بأن إعلام المعارضة، يتبع استراتيجية “إخراجية”، مثل التلفزيون الرسمي، لفبركة الوقائع الدموية بأسلوب واحد، يجري تكراره في كل مرة.
إلا أن الأدلة المصورة، التي تستخدمها الراهبة للتشكيك في حقيقة المجزرة، محاولةً تقديم سردية أخرى عنها، تبقى أدلة ضعيفة للغاية. ففي سؤالها عن مكان الجثث، وتوزيعها بين الغرف في حين وقوع الكارثة، يبدو كأن الراهبة تقول للسوريين، الذين حاولوا إنقاذ ما تيسر من الضحايا، أنهم كان عليهم الإستسلام لغاز السارين، وترك الجثث تتضاعف في مكان واحد، من دون أن يتحركوا، ولو لتجميعها في غرف محددة. أما بالنسبة إلى نقل الأطفال والنساء من اللاذقية إلى الغوطتين، فهذه الدعاية كانت بثينة شعبان قد حاولت نشرها في تصريح شهير لها، للقول بأن الضحايا هم من الطائفة العلوية، وأن المعارضة خطفتهم وقتلتهم بهدف تأليب الرأي العام الدولي على النظام البعثي.
وعندما تحاول أنياس مريم الصليب البرهنة على حقيقة روايتها، تقارن بين مشهدين، يظهر فيها الأطفال أنفسهم بطريقتين مختلفتين “من دون سبب”! فبالنسبة إليها، لا بد من تصوير الغرفة مرة ً واحدة، وبالطريقة ذاتها، كي لا يكون غير ذلك دليلاً على التزوير. فلا تعرف الراهبة أن نقل الجثث من غرفة إلى أخرى، قد تكون له أسباب كثيرة، كتجميع الضحايا في مكان واحد لإتاحة المساحة أمام جثث أخرى ذهبت ضحية القصف الأسدي. أما تصوير الغرفتين، ونشر الفيديوين في “يوتيوب”، فقد يكون خلفه مصوران مختلفان، الأول صور في غرفة دون أخرى، والثاني العكس، ورفعا الفيديوين بلا أي تنسيق بينهما. ذاك أن التكرار لا يدل على التزييف، بل على المثابرة في التوثيق البصري للحادثة.
لكن الدليل الأضعف بين أدلة الراهبة، هو دليل “الشطف”، بحيث أنها تسأل في ضوئه عن الوقت الذي أتاح للمسعفين أن ينظفوا المكان، وينقلوا المختنقين، أو الجثث إليه. وفي هذا الإطار، لا يمكن التأكد إن كان المكان نفسه، هو الذي يظهر في الفيديوين اللذين تعرضهما الراهبة. لكن، حتى لو كان هذا صحيحاً، فمن الممكن بعد أربع أو خمس ساعات، تنظيف الغرفة بالماء، كي تكون ملائمة لنقل المختنقين إليها، أو كي تُترك الضحايا داخلها. فللكارثة أدواتها التنظيمية الخاصة بها، ولا يمكن لضحاياها البقاء تحت وطأة الصدمة من دون الإتيان بحركة مفيدة، بعيداً من صدمة المجزرة.
يُضاف إلى هذه الحجة الضعيفة، برهان أكثر هزالة، أي علامة “مجهول الهوية”، التي وضعها المسعفون على أكفان الضحايا. وقد وجدت الراهبة أنها إشارة قاطعة على أن الجثث تعود إلى مخطوفي اللاذقية. وفي حال الأخذ بوجهة النظر هذه، فمن البديهي التهكم عليها، ذاك أن الذي يخطف مجموعة بشرية من مكان ليقتلهم في مكان آخر، لا يرتكب فعلاً غبياً، ويشير إلى عدم معرفته لهم. كأنه يسأل: “من أين أتى هؤلاء؟”، علماً أنه هو المصوِّر، أي “المزوِّر” المفترض. وبسؤاله هذا، يكون قد أعلن عن جريمته المفبركة بطريقة ساذجة للغاية.
وبعيداً من هذه الحجة المثيرة للسخرية، فمن الممكن قراءة عدد كبير من أسماء ضحايا مجزرة الغوطتين على الإنترنت، لا سيما في موقع “شهداء الثورة السورية”، وصفحة “شهداء مجزرة الكيماوي” في “فايسبوك”. وفي هذا الإطار، تقول الراهبة أنها لم تجد سوى فيديو واحد، تظهر فيه عملية دفن الضحايا في زملكا، متناسية ً أنه من السهل الحصول على أكثر من فيديو “يوتيوبي” لجثث مكفنة، معدّة للدفن، أو لعمليات دفن في المقابر الجماعية، أشار إلى وجودها الكثير من التقارير حول مجزرة الكيماوي.
في النتيجة، تتغافل أنياس مريم الصليب عن مجموعة كبيرة من الفيديوات والتحقيقات، فلا تنجز بحثها “التحقيقي” بشكل كامل. مع العلم أنه لا يمكنها ذلك بسبب وظيفتها الدعائية في نظام بشار الأسد. فالراهبة، التي من المفترض أنها تكرس حياتها للتعبد والصلاة، تستخدم مركزها الديني، ومعرفتها الإنترنتية، كي تنشر دعاية النظام البعثي، و”تنظف” مكانته لدى أصدقائها في فرنسا ولبنان وإسرائيل، وغيرها من البلدان.
ذاك، أنها، مع بداية الثورة السورية، قالت خلال إحد مؤتمراتها الصحافية في بيروت، أنه لا تظاهرات سلمية في سوريا. لكن، قبل ساعات من ذلك، كانت قد شوهدت في مظاهرة سلمية داخل القلمون، إلى جانب السوريين، الذين اعتادوا الإحتفال الثوري في الشارع، قبل أن يحملوا السلاح. من هنا، يجوز توجيه استفهام إلى الراهبة، وعلى طريقتها: كيف تشاركين في مظاهرة، ومن ثم تلغينها؟ “من أين لك الوقت والنخوة”؟ أنياس مريم الصليب ليست سوى عنصر مخابرات بلباس راهبة.