ليس الأسرى الفلسطينيون المنسيون هم الأسرى والمعتقلون في السجون الإسرائيلية، فهؤلاء نعرف أسماءهم وأماكن احتجازهم، ونتابع قضاياهم ونشهد محاكماتهم، ويزورهم أهلهم ويلتقون بذويهم، ويراسلون أحبتهم، ويهاتفون من شاؤوا من سجونهم، ويدخلون إلى شبكة الانترنت أحياناً، يشاركون ويناقشون، ويساهمون ويكتبون، وتصلهم أخبار الخارج ويتفاعلون معها، ويتضامنون مع شعبهم ويهتمون له ويقلقون بسببه، ويشاركونه أفراحه إن فرح، وأتراحه إن حزن، والمحررون منهم ينقلون أخبار من بقي خلفهم، ويروون عنهم القصص والحكايات، ويسردون على أهلهم ما خفي من أخبارهم، وما استعصى عليهم فهمه أو معرفته منهم، وقد يحملون إليهم منهم رسائل خاصة وأسرار قديمة.
أما منظمة الصليب الأحمر الدولية فتتابع أخبارهم جميعاً، وتدون أسماءهم، وتحصي أعدادهم، وتصنفهم حسب أعمارهم ومناطقهم وجنسهم، وتعرف أحكامهم جميعاً، وتفرق بين الموقوفين والمحكومين، وتزورهم في سجونهم ومعتقلاتهم، وتستمع إليهم، وتتابع المرضى منهم، وتطالب سلطات السجون بعلاجهم في سجونهم أو بنقلهم إلى مستشفياتٍ خاصة، في الوقت الذي يقوم به ذوو الأسرى أو اللجان المعنية بهم بإبلاغ اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن المعتقلين الجدد، فإن المحامين الفلسطينيين يستطيعون الاطلاع على لوائح اتهام موكليهم، وقد يتمكنون من زيارتهم والجلوس معهم، والتعرف على تفاصيل قضاياهم.
لكن هناك بعيداً عن السجون الإسرائيلية التي نراقبها ونتابعها، ونعرف أماكنها ونرصد عمليات النقل والترحيل إليها، ونعرف هياكلها وعدد غرفها وأقسامها وأعداد المعتقلين فيها، سجونٌ أخرى في العالم، بعضها سرية وأخرى علنية، تحتجز معتقلين فلسطينيين بصورةٍ سريةٍ أحياناً وبدون محاكمة، وبعضهم معتقلٌ بموجب أحكامٍ قضائية على خلفية اتهاماتٍ متعلقة بأعمال المقاومة، سواء محاولة القيام بعملياتٍ فعلية، أو بتقديم مساعداتٍ مادية ومعلوماتية، أو القيام بتمويل قوى المقاومة الفلسطينية المختلفة، ولعل من بين المعتقلين على خلفية دعم المقاومة الفلسطينية معتقلون عربٌ، وأشهرهم اللبناني جورج عبد الله المعتقل في السجون الفرنسية منذ أكثر من عشرين عاماً وما زال، كما كانت أيضاً المناضلة سمر العلمي التي اعتقلت قرابة عشرين عاماً في السجون البريطانية، قبل أن يتم الإفراج عنه قبل خمس سنواتٍ.
ومن بين المعتقلين المنسيين الذي يكاد لم يسمع عنه من قبل أحدٌ من الفلسطينيين، كما لم يثر قضيته أحد، ولم تنشر وسائل الإعلام عن قضيته شيئاً، كان الأسير الفلسطيني راشد الزغاري الذي أفرجت عنه السلطات الأمريكية قبل أيامٍ قليلةٍ، بعد ستة عشر عاماً قضاها في السجون الأمريكية، وتسعة سنواتٍ سبقت قضاها في السجون اليونانية، إلا أن السلطات المصرية ألقت القبض عليه في مطار القاهرة خلال محاولته دخول مصر بعد أن أفرجت عنه السلطات اليونانية، فقضى في مصر معتقلاً في سجونها مدة عامين، قبل أن تقوم الأخيرة بتسليمه إلى الإدارة الأمريكية، التي حكمت محاكمها عليه بالسجن ستة عشر عاماً قضاها كاملةً في السجون الأمريكية، ولكنها أضافت ثلاثة سنوات أخرى إلى سنوات اعتقاله الستة عشر، وهي المدة التي قضتها الإدارة الأمريكية في البحث عن دولةٍ تقبل بإقامة الزغاري على أرضها، إلى أن وافقت الحكومة الموريتانية على العرض الأمريكي، وسمحت للأسير راشد الزغاري بالعيش حراً فيها بعد واحدٍ وثلاثين سنة من الأسر والاعتقال في السجون العربية والأجنبية.
كشف الإفراج عن الزغاري عن مدى النسيان وحجم الإهمال الذي يتعرض له المعتقلون الفلسطينيون في سجون العالم، الذين سجنوا بسبب مقاومتهم، واعتقلوا على خلفية قيامهم بعملياتٍ قومية تخدم أوطانهم، وتساهم في النضال الوطني الفلسطيني، حيث كان اعتقال راشد الزغاري على خلفية اتهامه بزرع قنبلة في طائرة تابعة للخطوط الأمريكية في مطار أثينا الدولي، وهو ابن مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين القريب من مدينة بيت لحم، وكان في حينها ينتسب إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بزعامة الراحل الدكتور جورج حبش، ورغم أن قضيته كانت وطنية بامتيازٍ إلا أنه كان منسياً، ولم يسمع به أحد، كما لم يهتم بقضيته أحدٌ.
كثيرون هم الأسرى الفلسطينيون في السجون والمعتقلات العالمية، الذين لا يجدون من يهتم بهم، ولا من يتبنى قضاياها ويسعى للإفراج عنهم أو الدفاع عنهم أمام غول السلطات الدولية المعادية للقضية الفلسطينية، علماً أن بعض المعتقلين كانت قد سلمتهم حكوماتٌ عربية إلى حكوماتٍ أجنبية تطالب بهم لمحاكمتهم على أرضها على خلفية اتهامات موجهة إليهم تمس أمنهم أو وقعت ضمن مناطق سيادتهم الوطنية، ولكن هذه الدول التي قامت بتسليم الفلسطينيين المطلوبين لا تقبل أن تستقبلهم من السلطات التي تحتجزهم حال انتهاء مدة محكوميتهم، رغم أن بعضهم يحمل جوازات سفر البلاد التي سلمته، إلا أنه ترفض استقباله على أرضها، فضلاً عن أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي لا تسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم وبلداتهم في الضفة الغربية أو في الأرض المحتلة عام 48، حيث تقف السلطة الفلسطينية عاجزة عن الفعل كونها تفتقر إلى السيادة الدولية، التي تخولها القيام بأعمالٍ سياديةٍ ضمن حدود إقليمها القانوني.
لهذا ينبغي على وزارة الأسرى الفلسطينية، ومختلف الجمعيات والهيئات العاملة في مجال الأسرى والمعتقلين، أن توسع طارها وأن تشمل المعتقلين الفلسطينيين في السجون الأوروبية والأمريكية، وأن تحيي قضاياهم وأن تسلط عليها الضوء، كونهم مناضلين ومقاومين، ويستحقون منا أن نحسن معاملتهم، وأن نهتم بقضاياهم، وألا نتركهم نهباً للظالمين، يمعنون في ظلمهم، ويسدلون الأستار السوداء عليهم فلا يعرف أحدٌ عنهم شيئاً، علماً أن العدو الإسرائيلي يتدخل في قرار اعتقالهم، وله سلطة كبيرة في عدم الإفراج عنهم، وهو يعرف أعداهم وأماكن اعتقالهم، فهل نتركه ينتقم منا فيهم، أم ننتصر لهم ونهتم فيهم، إذ هم مثل إخوانهم الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية، لا يتخيرون عنهم ولا يقلون عنهم قدراً ومكانةً، وأهميةً وتقديراً واحتراماً.
بيروت في 30/11/2016