(أي تشابه بين القصة ومرشح رئاسة بلدية في اسبانيا هي بالصدفة فقط)
نص ساخر: نبيل عودة
تنقلت أمنياته بين الأحلام واليقظة مرات عدة، لفترات تطول او تقصر بلا ضوابط او رقيب. يسعد وينتشي في الحلم، يتسامى، يهنأ ويغيب بذهنه بعيدا. في اليقظة تتملكه الكآبة والسوداوية، تعصف به الوحدة، يغوص بآلام نفسه، حزينا، يائسا، ساخطا، غاضبا، لا يميز بين ليله ونهاره، بين فجره وعصره، بين بصره وبصيرته، بين اذنه ولسانه، بين يده اليمنى ويده اليسرى.
حين يرى نفسه بأحلامه محمولا على أكف مريديه عاليا فوق اكتافهم، مصفقين له منتشين بفوزه برئاسة البلدية يتمنى الا يؤول الحلم الى انتهاء، ان يصبح الحلم حقيقة…أن يستعيد مجد تنظيمه المهزوم.
في صحوته يتمنى ان يستمر الحلم، ان لا تتوقف الأمنيات، حتى لو كان في باطنه يشعر بتزايد الفجوة بين حلمه وحقائق مدينته، الحلم يخفف الكآبة، يطمئن النفس حتى بالوهم، يعيش خيالاته لدرجة يظن انه سيفتح عينيه وإذ هو في المنصب المنشود، والناس حوله تصفق وتهنئه بالنصر، وهزيمة من هزمهم. لكن خوفه من صدمة الفشل التي تساوي في حسابه ضربة كهربائية بقوة عشرة الاف واط، قد يستغرقه الأمر شهرا قمريا كاملا حتى يصحو منها الى عالم الواقع.
إذا كان لا بد فليتوقف الزمن، يتجمد المكان، تكف الأرض عن الدوران .. ينطفئ نور الشمس.
حساباته تشير ان الفرحة قد حانت، هذا ما يبشر به زعيم تنظيمه .. الا يصدق كلام الزعيم؟ الامكانيات موجودة كما يؤكد الزعيم، وان ما حدث كان حالة شاذة، ما يخيفه ان لا تكون حسابات السرايا التي تفرح القلب نقيضا لحسابات القرايا في الصناديق .. فتسود الدنيا من جديد.
تنظيمه المهزوم سيجدد قواه ويتجند كما يؤكد الزعيم.. هل حقا توجد جماهير شعبية جاهزة لتستجيب لنداء التنظيم وزعيمه؟ المحرض المثير للمتاعب “نون” (الاسم محفوظ بملفات التنظيم) يعتقد ان فكرة الجماهير الشعبية هي اسطورة طورتها الأحزاب للتغطية على عجز كوادرها القيادية، يتكرر فشلها حتى في المنافسة مع افراد لا تنظيم سياسي وزعماء متنافسون يأكلون لحم بعضهم بعضا .. تلك أيام مضت .. عاشها جيل مضى بظن انها دائمة ابد الدهر .. لكنها تلاشت كما يدعي “نون”. ان صح ذلك فحلمه بعيد عن التحقيق، سيبقى نكرة… وهو يحلم بالمجد. ان تكون القبضة على قدر يد الحرامي، غير ان الواقع يبدو زئبقيا. أعصابه لا تحتمل التأجيل. كل الحسابات أحكمت في الاجتماعات… كيف يجب ان تطبق في الشارع وفي صناديق الاقتراع؟ لا تزال سوى خطوة، المحرض “نون” يقول انها خطوة غير قابلة للتنفيذ.. وانه هو نفسه وكل مجموعته مجرد مرضى بأوهام لا مخرج لهم منها وان موعد تسويقهم من جديد قد انتهى!! يقول المحرض “نون” ما كان سابقا لم يعد قائما اليوم.. والحلم أصبح خبرا لكان.
كان دائما يرى نفسه رئيسا لبلدية، رأى المهمة ملائمة لقدراته وقد أشغلته طويلا. وهو بما انه مختص بقلع الأضراس، يجد نفسه مناسبا ليقلع الرئيس الحالي. ابرة مخدر وكماشة ويصبح رئيسا لبلدية. ربما يفتح عيادة في غرفة الرئيس لقلع اضراس الناس مجانا.. وهو أمر لا يقدر عليه أي منافس له.
المحرض “نون” وصفه بأنه اشبه بقرقعة على ظهر عامود. القرقعة لا تصل لوحدها الى راس العامود. هناك من ساعد بوصولها لهذه القمة.. طبعا التنظيم ساهم برفعها لقمة العامود.. هل حقا هو قرقعة اوصلوها لقمة العامود؟ هل باستطاعة القرقعة وهي على قمة العامود ان تخدم نفسها او من أوصلها؟ ام هي جالسة عاجزة عن أي حركة خوفا من السقوط؟ هو يظن انه سياسي ملم بكل ما يحتاجه من اجل المعركة الحاسمة لإسقاط من اسقطهم. انه سياسي منذ نعومة أظفاره.. وهو يصر انه سياسي ديموقراطي يسمح بأن يعارضه الآخرين ويناقشونه .. لكن عضوة في تنظيمه تصر انه لا يوجد في هذا التنظيم ما يسمى سياسي وديموقراطي.. بل ديكتاتور .. هكذا نشأنا وهكذا تثقفنا.. كما تقول. الديموقراطية تعني اننا لم نعد نفس التنظيم .. يوجد قادة ويوجد جمهور، يوجد راعي وتوجد أغنام.. وان هذا الفكر لم يتغير منذ قرنين. ما هو الفكر؟، سألها. اجابته بأن الفكر هو ميزة للزعماء وستكون واحدا منهم اذا قلعت الرئيس من البلدية ولم تكتف بقلع ضرسه فقط…
قالت أيضا: الشعب لا يحتاج الى فكر.. بل الى اجترار فكر الزعماء.. الى حملهم فوق الأكتاف.. الى التصفيق لهم، الهتاف بحياتهم. سألها من اين لك هذا الوعي العظيم يا شابة؟ قالت من محاضرات الزعماء…وبعد تفكير واصل قوله: ان الديموقراطية هي من جذور الفكر الذي تثقفنا به وهو لن يتنازل عن انفتاحه على اراء الآخرين. سالته تلك الشابة العنيدة: انت تقول انك سياسي ديموقراطي .. لدي سؤال محرج فاعذروني: الدمج بين سياسي وديموقراطي هو أشبه بالدمج بين عاهرة وشريفة.. وهنا لا بد من سؤال: هل حقا يمكن القول انه توجد عاهرة بتول، على وزن سياسي وديموقراطي؟ خاصة بين السياسيين من حملة بطاقات عضوية حزبنا؟
كان دائما يرى نفسه رئيسا لبلدية، الموظفون من حوله، الجماهير تنتظر ظهوره لتلقط صورا معه، صوره تملأ صفحات الجرائد .. وتزين الإعلانات في الشوارع، اسمه يتردد على ألسنة الجماهير، يُطلق اسمه على المولودين الجدد، دعوات التكريم كثيرة .. الويسكي ومشتقاتها تشبع البشر وتروي الأرض…. أصحاب القضايا يدخلون ويخرجون، الكل ينتظر ما تنفرج عنه شفتاه. سجل يومه مليء بالمقابلات والتشريفات، جلسة مع مدير وزارة، فطور عمل مع حاكم لواء، لقاء مع صحفيين، مقابلة مع مدراء مدارس، دقائق مخطوفة للقاء الجمهور، غذاء مع سفير، يوقع أوراقا ذات دلالات مهمة وهو في عجلة من أمره، سكرتيره يلحقه حتى باب السيارة الفاخرة ليعلمه عن آخر برنامج في يومه الطويل، يكتشف أن له عشاء عمل مع وزير ما، ينظر في ساعته حائرا من أمره، يعطي أمرا للسائق كي ينطلق بسرعة لئلا يتأخر عن موعد الوزير…
هكذا يتخيل أيامه .. قناعته هي انه لا بد أن تأتي ساعته، كما جاءت في الزمن الماضي ساعة المسيح .. لكن للأسف يصحو من حلمه الجميل على واقع كئيب حيث يتجمع من حوله بعض المؤيدين الذين لا يهمهم من دنياهم إلا توظيف من يخصهم من الأقارب، وضمان معاش مناسب لهم.. او الحصول على مكرمة رئاسية بتسهيلات مختلفة من البلدية.
كان يريدهم جندا ليحقق ما تصبو إليه نفسه، ليتركوا له قيادة المعركة .. هذا تعلمه من الزعماء في تنظيمه، المحرض “نون” يدعي: المثل العربي يقول “التكرار يعلم الحمار”.. لكنه يتجاهل انه هو ليس حمارا .. المرآة تظهره بشريا أنيقا، يرتدي آخر طراز من البدلات المستوردة، والتي لا يجرؤ على شرائها غير الزعماء ذوي الدخل الكبير .. ورائحة عطرة حدث ولا حرج .. تمتد الى مسافة كيلومتر كامل .. لا ليست كولونيا رخيصة من التي يستعملها الشعب .. بل عطر يصنع في باريس ونيويورك..
لا بد من تجهيز النساء ليوم النصر… دور النساء عظيم ومميز، أن يزغردوا عند تحقيق النصر وأن يعدوا القهوة للمناضلين في يوم الانتخابات، الثمن المطلوب غير مهم، لن يدفع من جيبه. هكذا كان في السابق وهذا هو منطق الحياة. سيصل لما يريد ولن ينساهم حين يحتضن المقعد قفاه.
لا بد ان يصبح عظيما. يرى ذلك في أحلامه. يراه بقناعته الذاتية بنفسه، يراه بقدرته على نثر الوعود وكسب تعاطف الموعودين.
أحيانا يقول لنفسه ان الطريق الأمثل هي الذهاب لمكتب العمل والتسجيل كرئيس بلدية عاطل عن العمل يبحث عن وظيفة رئيس بلدية فقط لا غير!!
لعل وعسى يأتي الفرج من هناك.
nabiloudeh@gmail.com